بدا هزيم الرعد كقصف المدفعية الثقيل. وبداضوء البرق الساطع وكأنهضوء ثابت لحريق
هائل. وضَعنا، أنا وهاري، أيدينا على أعيننا وهُرعنا إلى الخارج نحو الضوء.
تحت سماء حمراء كان الناسيُهرَعون نحو مبنى البلدية. أنبأتْنا ألسنة اللهب المُنبعِثة
في اتجاه البرج الروماني بأن قلب المدينة كان يحترق. كانت وجوه أولئك الذين رأيناهم
نحيلة ضاوية، ومن كلِّ ركن تناهى إلى مسامعنا عبارات الشكوى والقنوط. قال أحدهم:
وردَّت امرأة «! لحم خيول بعشرة شلنات للرطل، والخبز بستة عشر شلنًا خبز حقيقي »
لقد مرَّت ثمانية أسابيع منذ أن رأيت كسرة خبز، حفيدي الصغير، الضعيف، » : عجوز قائلة
مات بالأمس، هل … تعلم ما فعلته جيكي بيتيا، غاسلة الملابس؟ كانت تتضور جوعًا. وحين
«… مات رضيعها أقدمت هي وزوجها على
قطع دَويُّ مدفعٍ عبارتها. ذهبنا في سبيلنا نحو قلعة المدينة، مارِّين ببضعة جنود هنا
وهناك وبالكثير من أهل المدينة الذين تظهر وجوههم المُكفهرَّة من تحت القبعات العريضة
المصنوعة من اللباد.
ثمة وفرةٌ من الخبز حيث يوجد البارود، وعفوٌ عام أيضًا. لقد علَّق فالديز عفوًا »
«. جديدًا على الأسوار هذا الصباح
«! لكن الأسطول » : أحاط حشدٌ مُتلهف على الفور بالمتحدث، وصاحوا
إن الأسطول عالق في مياه جرينواي الضحلة. ربما يظل بويسوت واضعًا عينه »
الوحيدة على البحر أملًا في هبوب الرياح إلى أن تقضي المجاعة والطاعون على أبنائكم
جميعًا، ولن تكون سفينته أقرب وقتها منكم ولو بطول حبل. الموت بالطاعون، الموت
بالمجاعة، الموت بنيران البنادق، هذا ما يُقدِّمه عمدة المدينة كي يحظى بالمجد لنفسه
«. ولمملكة أورانيا
إنه يطلب منا التَّماسك أربعًا وعشرين ساعة وحسب، » : أجاب مواطن قوي الشكيمة
«. وأن نُصلِّي في الوقت ذاته كي تهب رياح المحيط
حقٍّا؟! فلتُصلُّوا كما تشاءون. ثمة وفرة من الخبز في » : أجابه المُتحدِّث الأول ساخرًا
قبو بيتر أدريانزون فان دير فيرف. وأؤكد لكم أن هذا هو ما يمنحه تلك الطاقة الرائعة
«. لمقاومة أكبر الملوك الكاثوليكيين
شقَّتْ فتاةٌ شابة، ذاتُ شعر ذهبي مُضَفَّر، طريقها بصعوبة بين الحشد وواجهت ذلك
أيها الناسالطيبون، لا تستمعوا إليه، إنه خائن وقلبه مع الإسبان. » : الشخصالناقم قائلة
أنا ابنة بيتر، وليس لدينا أي خبز. لقد أكلنا فطائر الشعير وجذور اللفت كبقيتكم إلى أن
نفدت تمامًا. بعد ذلك جرَّدنا أشجار الليمون والصفصاف الموجودة في حديقتنا من أوراقها
وأكلناها، بل إننا أكلنا الأشواك والأعشاب الضارة التي تنمو بين الأحجار عند القناة. هذا
«. الجبان يكذب
ورغم هذا فقد فعل الإيعاز مفعوله، واندفع الجمهور، الذي صار الآن حشدًا عنيفًا،
في اتجاه منزل العمدة. رفع أحد السُّوقة يده كي يضربَ الفتاة ويزيحَها عن الطريق، وفي
غمضة عينٍ كان ذلك الجبان أسفل أقدام رفاقه، ووقف هاري، وهو يلهث ووجهه مُتَّقد، إلى
جانب الفتاة يصيح دفاعًا عنها بإنجليزية سليمة موجهًا حديثه إلى ظهور الحشد المُتراجع
بسرعة.
أحاطت ذراعا الفتاة بعنق هاري بكلِّ عرفان وقَبَّلَته.
«. شكرًا لك، أنت شاب شجاع، اسمي جيرترود فان دير فيرف » : قالت
كان هاري يجاهد كي يتذكر المفردات الهولندية المناسبة، غير أن الفتاة لم تنتظر
ثم قادتنا بسرعة عبر عدة شوارع شديدة «. إنهم ينوون سوءًا بأبي » : سماع إطراءاته وقالت
ها نحن أولاء، » : الضيق نحو سوق ذي ثلاثة أركان تُحيط به كنيسة لها برجان. ثم قالت
«. على درجات كنيسة سانت بانكراس
ساد الهرج والمرج ساحة السوق، وتجمهر الحشد خلف الكنيسة وكانت أصوات
المدافع الإسبانية والوالونية الآتية من وراء الأسوار أقل غضبًا من زئير حشد الرجال
القانطين، الذين يُطالبون في صخبٍ بالخبز الذي يمكن لكلمة واحدة من قائدهم أن تأتي
«. استسلم للملك! وإلَّا فسنرسل جثمانك إلى لامين كعلامة على استسلام لايدن » : به. صاحوا
استمع رجل طويل القامة، أطول بمسافة نصف رأس تقريبًا من أيٍّ من المواطنين
الواقفين أمامه، وداكن البشرة بشدة لدرجة أننا تعجَّبنا كيف له أن يكون والد جيرترود،
إلى التهديد في صمت. وحين تحدَّث العمدة، صمت الحشد رُغمًا عنهم.
ما الذي تطلبونه يا أصدقائي؟ أن نخالف العهد ونُسلِّم لايدن إلى الإسبان؟ هذا يعني »
تسليم أنفسنا إلى مصير أبشع من المجاعة. يجب أن أصون العهد! اقتلوني إن تَعَيَّن عليكم
فعل هذا؛ فلن أموت إلَّا مرة واحدة، سواءٌ على أيديكم أو على أيدي العدو، أو بيد الرب.
دعونا نَجُع، لو اضطُررنا، ونرحب بالمجاعة لأنها أخف وطأةً من الخزي. إن تهديدكم لا
يُخيفني، وحياتي رهن أيديكم. هيا، خذوا سيفي وأغمدوه في جسدي، وقسِّموا لحمي بينكم
«. كي يسدَّ جوعكم. لكن لا تتوقعوا مني الاستسلام مطلقًا ما دمتُ حيٍّا
ساد الصمت مجددًا بينما صار المحتشدون مترددين. بعد ذلك دوَّت همهمات حولنا،
وفوقها علا صوت الفتاة التي كان هاري لا يزال مُمسكًا بيدها، دونضرورة كما بدا لي.
ألا تشعرون برياح البحر؟ لقد جاءت أخيرًا. إلى البرج! إن أول رجل يصل إلى هناك »
«. سيرى في ضوء القمر الأشرعة البيضاء المُشْهَرة لسفن الأمير
أخذتُ أجوب شوارع المدينة لساعات عدة، أبحث عن ابن عمي ورفيقته بعد أن فرَّقتنا
الحركة السريعة للحشد نحو البرج الروماني. وفي كلِّ ركنٍ من أركان المدينة رأيت أدلة
على الحصار الشنيع الذي دفع هؤلاء الأشخاص الجسورين إلى شفير القنوط. أخذ رجلٌ
ذو عينين جائعتين يُطارد فأرًا نحيلًا على امتداد ضفة القناة، بينما جلست أمٌّ، تحمل
طفلين ميتين على ذراعيها، في مدخل المنزل الذي حملوا إليه جثمانَي زوجها ووالدها اللذين
قُتلا للتوِّ عند السور. وفي منتصف شارع مهجور مررتُ بكومة من الجثث غير المدفونة
يزيد ارتفاعها عن طولي مرتين. لقد كان الطاعون أرحم من الإسبان؛ لأنه لم يُقدِّم أيَّ وعودٍ
غادرة بينما كان يُوجِّهضرباته.
قبل إشراقة الصباح كانت حدة الرياح قد زادت وتحوَّلت إلى عاصفة. لم ينَم أحدٌ في
لايدن، كما لم يَعُد يدور أيُّ حديثٍ عن الاستسلام، ولم يَعُد أحد يُفكر في الدفاع عن سورها
سيأتي ضوء » : أو يهتم به. وعلى لسان كل شخصكنت أقابله كانت الكلمات نفسها تترَدَّد
«! النهار بالأسطول
هل جاء ضوء النهار بالأسطول؟ التاريخ يقول لا، لكنني لم أكن شاهدًا على ذلك.
أعلم فقط أنه قبل الفجر تحوَّلت الرياح الشديدة إلى عاصفة رعدية، وأنه في الوقت عينه هزَّ
انفجار مكتوم، أعنف من دَويِّ الرعد، المدينة هزٍّا. كنت ضمن الحشد الذي أخذ يترقب من
المتراس الروماني أولى علامات الإغاثة القادمة. غير أن الهزة الناجمة عن الانفجار أزالت
لكن أين؟ شققت «! لقد وصل النفق الذي يحفره العدو إلى السور » . الأمل من كلِّ الوجوه
أسرع! » : طريقي بصعوبة إلى أن وجدت العمدة، الذي كان واقفًا بين الباقين. همست قائلًا
رمقني بنظرة متفحصة، ثم «. إنه خلف بوابة كاو جيت وهذا الجانب من برج برجاندي
تحرَّك من دون أن يحاول تهدئة الفزع العام. تبعته عن كثب.
كانت مسافة نصف ميل فقط تفصلنا عن المتراس المعني، وحين وصلنا إلى بوابة
كاو جيت كان المشهد كما يلي:
كانت ثمة فتحة كبيرة، في السور، تطل على مستنقعات، وفي الخندق، بالخارج
وبالأسفل، كان هناك حشد من الوجوه الشاخصة، لرجال كانوا يجاهدون كالشياطين
من أجل إحداث الثغرة في السور، وقد تقدَّموا الآن بضع أقدام ثم دُفعوا إلى الوراء، وعلى
المتراس المُتهدِّم شكَّلَت حفنة من الجنود والمواطنين سورًا حيٍّا في الموضع الذي تهدَّم فيه
البناء، وكانت حفنة أكبر عددًا من النساء والفتيات يُناولن الأحجار للمدافعين ويغلون الماء
في دلاء، علاوة على الزيت والقار والجير الحي، وأخذ بعضُهُنَّ يصبُّ القار المغلي والأطواق
المشتعلة على أعناق الإسبان الموجودين في الخندق، وكان ابن عمي هاري يقود الرجال
ويوجههم، بينما كانت جيرترود ابنة العمدة تُشجِّع النساء وتُحمسهن.
غير أن ما لفت انتباهي أكثر مما سواه كان ذلك النشاط المحموم الصادر عن شخص
ضئيل الحجم يرتدي زيٍّا أسود، وكان يَصبُّ الرصاصالمصهور، بمغرفة ضخمة الحجم،
على رءوس المُقتحمين. وحين استدار نحو النار والغلاية اللتين توفران له الذخيرة، سقط
الضوء على ملامحه. صدرت عني صيحة دهشة؛ إذ كان البروفيسور فان ستوب نفسه هو
مَن يحمل مغرفة الرصاصالمصهور.
من هذا؟ من هذا الرجل » : استدار العمدة فان دير فيرف عند سماع صيحتي، سألته
«؟ الواقف إلى جوار الغلاية
«. إنه شقيق زوجتي، الساعاتي يان ليبردام » : ردَّ فان دير فيرف
انتهى أمر الثغرة قبل أنْ يُتاحَ لنا الوقت كي نستوعب الموقف؛ فقد وجد الإسبان، الذين
هدموا السور المصنوع من الحجارة والقرميد، أنَّ اختراقَ السور البشري أمرٌ مستحيل، بل
إنهم عجزوا عن الحفاظ على موقعهم في الخندق، وصُدُّوا وتشتتوا في الظلام. حينها شعرت
بألمٍ حادٍّ في ذراعي اليسرى؛ لا بدَّ أن طلقة شاردة قد أصابتني بينما كنت أشاهد القتال.
مَن فعل هذا؟ مَن الذي حمى حاضرنا بينما كان بقيتنا » : قال العمدة بلهجة آمرة
«؟ يَمُدون أعينهم في حماقة إلى المستقبل
أبي، لقد » : تقدمت جيرترود فان دير فيرف في فخر، وهي تُمسِك يد ابن عمي وقالت
«. أنقذ حياتي
هذا يعني الكثير لي، لكن ليسهذا كلشيء؛ فقد أنقذ لايدن وأنقذ هولندا » : قال العمدة
«. كلها
شعرت بالدوار، وبدت الوجوه المحيطة بي غير حقيقية. لماذا كنا هنا مع هؤلاء الناس؟
لماذا استمرَّ الرعد والبرق على الدوام؟ لماذا يتحوَّل وجه الساعاتي، يان ليبردام، إلى وجه
«. هاري! فلنَعُد إلى غرفتنا » : البروفيسور فان ستوب كلَّما أنظر إليه؟ صحتُ قائلًا
لكن رغم أنه أمسك يدي في دفء، فإن يده الأخرى كانت لا تزال ممسكةً بالفتاة، ولم
يتحرَّك. بعد ذلك غلبني الدوار، ودار رأسي، واختفت الثغرة والمدافعون عن نظري