) الفارسالأول )
في الأيام التي سبَقت قتْل أوج-لومي لدبِّ الكهوف الكبير قلَّما كانت توجد خلافات بين
الخيل والبشر. في الواقع كانوا يَعيشون بعيدًا بعضهم عن بعض؛ فكان البشر يَعيشون في
مُستنقعات النهر والأجَمات؛ والخيولُ في الأراضيالمرتفعة العُشبية الواسعة التي تقع بين
أشجار الكَستَناء والصَّنَوْبر. في بعضالأحيان كان مُهرٌ صغير يأتي شاردًا إلى المستنقعات
فلا يستطيع التحرُّك؛ ومِن ثم يصير وجبة للبشربعدضربه بحجر الصوَّان، وأحيانًا تَعثر
القبيلة على واحد قتَله أسد، فتُبعد عنه بنات آوى، وتُقيم عليه وليمة احتفالية والشمسُ
في كبد السماء. كانت خيول هذه الأيام الغابرة ذات مفاصل ضعيفة عند الحوافر، وكانت
داكنة اللون، وذيلها خشن ورأسها كبير. كانت تتجه في كل ربيعٍ نحو الشمال الغربي إلى
داخل الإقليم، بعد طيور السُّنونو وقبل أفراس النهر، مع زيادة طول العُشب في الأراضي
المُنخفضة الواسعة المُمتدَّة. كانت تأتي في مجموعات صغيرة، وهكذا كان كل قطيع يتكون
من فحل وفرسَيْن أو ثلاثة ومُهر أو ما شابه، ويحتلُّ مكانًا في الإقليم، وكان يعود أدراجه
مرةً أخرى عندما تكون أشجار الكَستَناء صفراء وتأتي الذئاب إلى أسفل جبال والدن.
كان من عادتها أن تَرعى في الأماكن المفتوحة ولا تذهب إلى الظل إلا عند اشتداد حرارة
اليوم. وكانت تتجنَّب المساحات الواسعة من النباتات الشائكة وأشجار الزان، وتُفضِّل
المجموعات المُنعزلة من الأشجار الخالية من الكمائن؛ ومن ثم كان يصعب السيطرة عليها.
لم تكن الخيول أبدًا مُقاتلة، فكانت لا تستخدم حوافرها وأسنانها إلا مع بعضها، لكن
في الإقليم الفسيح، بمجرَّد إخافتها، لا يَجرؤ كائن حي على الاقتراب منها، ربما باستثناء
الفيل إن شعر بحاجته لفعل هذا. وفي تلك الأيام بدا البشركائنات غير ضارَّة إلى حدٍّ بعيد.
فلم يهمس أحدٌ لهذا النوع من الحيوانات بمعلومات تنبُّؤية حول العبودية البغيضة التي
تَنتظره، وحول السوط والْمِهماز واللجام، والأحمال الرهيبة والشوارع الزَّلِقة، والطعام
الغير الكافي، وساحة تاجر الخيول، التي ستحلُّ محل المروج الخضراء الواسعة وحرية
الأرض.
في مُستنقَعات نهر واي في الأسفل لم يرَ أوج-لومي وأودينا الخيول عن قرب قط،
لكنهما يَرونها الآن كلَّ يوم حيث خرَج الاثنان من وَكرِهما على الحافَة الصخرية في الشِّعب،
خرجا معًا بحثًا عن الطعام. كانا قد عادا إلى الحافَة الصخرية بعدما قتلا أندو؛ إذ لم يكونا
خائفَين من الدبة؛ فقد أصبحَت الدبة تخاف منهما، وعندما تشمُّ رائحتهما تَتنحَّى جانبًا.
ذهب الاثنان معًا في كل مكان؛ فمنذ أن تركا القبيلة لم تكن أودينا خليلة أوج-لومي بقدر
ما كانت رفيقتَه؛ حتى إنها تعلَّمت الصيد، بقدر ما تَستطيع أيُّ امرأة. كانت في الواقع امرأةً
مُذهلة؛ فكان يجلس لساعات يُراقب وحشًا أو يخطط لصيد في رأسه الأشعث، وهي تَجلس
بجواره، ترمقه بعينَيها اللامعتَين، ولا تُقدِّم أيَّ اقتراحات مزعجة، ساكنة تمامًا كأي رجل.
امرأة رائعة!
كان يوجد مرجٌ عُشبِي مفتوح على قمة المُنحدَر، ثم تأتي أشجار الزان، وبعد عبور
أشجار الزان يَصل المرء إلى حافة المساحة العشبية الفسيحة، ثم يرى الخيول. وهنا على
حافة الغابة ونبات السَّرخس توجد جحور الأرانب، وهنا بين أوراق السَّرخس كانت أودينا
وأوج-لومي يَستلقِيان مُستعدَّين بحجارة الرشق، حتى يخرج الرفاق الصِّغار لتناول
الطعام واللعب في وقت الغروب. وبينما كانت أودينا تجلس، كتمثال صامت مُتيقِّظ،
تُراقب الجحور، كانت عينا أوج-لومي تَنظر بعيدًا عبر المروج نحو هؤلاء الغرباء الرائعين
المُنشغِلين بالرعي.
أعُجب، على نحوٍ غامض، ببهائها ورشاقة حركتها. ومع انخفاض الشمس في وقت
المساء، ومرور حرارة اليوم، كانت الخيول تزداد نشاطًا وكانت تُسابق بعضها، وتَصهل
وتُراوغ بعضها وتهزُّ أعرافها، وتتحرَّك في منحنيات رائعة، تَقترب فيها في بعض الأحيان
منهما بحيث يُصبح صوت خطواتها على الأرضشبيهًا بصوت الرعد المُتسارِع. بدت رائعة
للغاية لدرَجة أن أوج-لومي أراد الانضمام لها بشدة. وأحيانًا كان أحدُها يتدحرَج على
المرج، رافعًا حوافره الأربعة نحو السماء، الأمر الذي بَدا مُخيفًا وأقل جاذبية بكثير بالتأكيد.
ورَدت تخيُّلات مُشوَّشة على ذهن أوج-لومي وهو يراقب — وبسبب هذه التخيُّلات
نجا أرنبان من الموت؛ أما أثناء النوم فكان ذهنُه يَصير أكثر صفاءً وجرأة — وكان هذا هو
الحال في تلك الأيام. حلم أنه اقترب من الخيل وحارَبَها؛ إذ كان يَضرب حوافرها بالحجارة،
لكن الخيول تحوَّلت إلى رجال، أو على الأقل رجال برءوس خيول، واستيقظ وهو يتصبَّب
عرَقًا باردًا من الخوف.
إلا أنه في صباح اليوم التالي، بينما كانت الخيول ترعى، صهل فرس، ورأت الخيول
أوج-لومي وهو قادمٌ مع الريح. توقَّفت جميعها عن الأكل وراقبته. لم يكن أوج-لومي
قادمًا نحوها، بل كان يتمشَّى دون اهتمام عبر الأرض المفتوحة، وهو ينظر إلى كل شيء
في العالم ما عدا الخيول. وضَع ثلاث ورقات من السَّرخس داخل شعره الملبد؛ مما أعطاه
مظهرًا مميَّزًا، ومشىببطء شديد. قال الحصان الزعيم، الذي كان قويٍّا، لكن عديم الخبرة:
«؟ والآن، ما هذا »
يبدو مثل النِّصف الأول من حيوان أكثر من أيِّشيء آخر في العالم؛ » : واستكمل قائلًا
«. قدمان أماميتان دون مؤخرة
إنه مجرَّد أحد القرود الوردية اللون هذه، نوعٌ من قرود » : قالت أكبر الإناث سنٍّا
«. النهر، إنها شائعة للغاية في السهول
واصل أوج-لومي تقدُّمه اللامبالي، وكانت أكبر الإناث سنٍّا مُندهشةً من غياب الدافع
في تقدمه.
بأسُلوب حاسمسريع، وواصلَت الرعي، وحذا الحصان «! أحمق » : قالت أكبر الإناث سنٍّا
الزعيم والفرس الثانية حذوها.
«. انظروا! إنه يَقترب » : قال الْمُهر ذو الخط
تحرَّك أحد المهور الأصغر سنٍّا بحركات مرتبكة؛ فجلس أوج-لومي القرفصاء وجعل
يُراقب الخيول بثبات. وبعد فترة قصيرة تأكَّد من أنها لم تكن تقصد الهرب أو أيَّ أفعال
عدائية، فبدأ يُفكِّر في إجرائه التالي. لم يكن يَشعر برغبة في القتل، لكنه كان يَحمِل فأسه
معه، وكانت رُوح المغامرة تتملكه، فكيف يمكن للمرء قتل أحد هذه المخلوقات؟ هذه
المخلوقات رائعة الجمال!
رأته أودينا، التي كانت تُراقبه بإعجاب وتخوف من داخل غطاء السَّرخس، وهو
يتحرَّك الآن على يدَيه ورجلَيه، ويتقدم على هذا النحو مرةً أخرى. إلا أن الخيول كانت
تُفضِّله وهو يسير على قدمَين أكثر من كونه يسير على أربع، ورفَع الحصان الزعيم رأسه
وأعطى الأمر بالتحرُّك. ظن أوج-لومي أنها ستذهَب إلى الأبد، لكن بعد الركض لدقيقة
عادت مرةً أخرى في شكل قوس واسع، ووقفت تشمُّه. ثم نظرًا لاختفائه وراء جزء مُرتفِع
من الأرضتفرَّقت الخيول متقدِّمة يقودها الحصان الزعيم والتفَّت حوله مقتربة منه.
كان يجهل تصرُّفات الخيل تمامًا، كما كانت هي تجهل تصرُّفاته. وبدا في هذه المرحلة
أنه ذُعِر؛ فقد كان يعلم أن هذا النوع من الترصُّد سيجعل الأيائل الحمراء أو الجاموس
يَهجم، إن استمر. على أيِّ حال رأته أودينا يَقفز ويُسرع نحوها وهو مُمسك بأوراق
السَّرخس في يده.
وقفَت، وابتسم هو حتى يُظهِر أن الأمر كله كان مزاحًا هائلًا، وأن ما فعله كان
بالضبط ما خطَّط لفعله من البداية. وهكذا انتهت الواقعة، لكنه انهمك في التفكير طوال
هذا اليوم.
وفي صباح اليوم التالي، كان هذا المخلوق الأحمَق ذو اللون البُني الفاتح وشعر رأس
يُشبه الأسد، بدلًا من ممارسة الرعي أو الصيد الذي خُلقَ من أجله، يطوف حول الخيول
أفترضُ أنه يُريد تعلُّم شيء » : مرةً أخرى. كانت الأنثى الأكبر سنٍّا تزدريه في صمت، قائلةً
وفي اليوم التالي فعَل الشيء نفسه مرةً أخرى. قرَّر الحصان الزعيم أنه لا «! منا. لندعه يفعل
يعني أيَّشيء على الإطلاق. إلا أن أوج-لومي في الواقع، الذي كان أول إنسان يَشعُر بسِحر
الخيل الغريب الذي يُبهر أعيننا حتى يومنا هذا، كان يعني الكثير؛ فقد أعُجب بها بشدة،
وأخشى أنه كانت لديه مبادئ التكبُّر بداخله، وكان يُريد البقاء بالقرب من هذه الحيوانات
ذات الانحناءات الجميلة. ثم كانت ثمَّة مفاهيم مُبهمَة عن القتل؛ لو أنها تسمح له فقط
بالاقتراب منها! لكنها وضعت حدٍّا بينهما، كما اكتشَفَ هو، على بُعد خمسين ياردة، فإذا
اقترب منها، تتحرَّك مُبتعدة بوقار. وأنا أفترضأن الطريقة التي أعمى بها أندو هي التي
دفعَته إلى التفكير في القفز على ظهر أحدها. لكن على الرغم من خروج أودينا إلى المساحة
المفتوحة أيضًا بعد فترة من الوقت، وقيامهما ببعض الترصُّد عن بعد، توقفت الأمور عند
هذا الحد.
ثم في يوم لا يُنسىخطَرت فكرة جديدة بعقل أوج-لومي؛ فالحصان يَنظر إلى الأسفل
وأمامه لكنه لا ينظر إلى الأعلى. فلا توجد حيوانات تنظر إلى الأعلى؛ فلديها فطرة سليمة
للغاية؛ فهذا المخلوق الغريب، الإنسان، هو وحده الذي قد يُضيِّع ذكاءه في النظر نحو
السماء. لم يَقُم أوج-لومي بأيِّ استنتاجات فلسفية، لكنه لاحظ أن هذا هو ما يَحدث؛
وعليه، فقد قضىيومًا مُرهِقًا في شجرة زان كانت موجودة في المساحة المفتوحة، بينما كانت
أودينا تترصَّد. كانت الخيول معتادة على الذهاب إلى الظل عند اشتداد الحرارة في فترة بعد
الظهيرة، لكن في هذا اليوم كانت السماء ملبَّدة بالغيوم، ولم تفعل الخيول هذا، على الرغم
من قلق أودينا البالغ.
بعد يومَين من هذا، حقق أوج-لومي رغبته؛ فقد كان يومًا شديد الحرارة، وأعلن
الذباب المُتكاثِر عن نفسه. توقفت الخيول عن الرعي قبل الظهيرة، وذهبت إلى الظل أسفل
شجرة الزان، ووقفَت في أزواجٍ، وأنفُ الواحد في ذيل الآخر، محرِّكة شفتَيها.
كان الحصان الزعيم، بفضل أعقابه، الأقرب إلى الشجرة. وفجأة صدر صوت حفيف،
صوتٌ مكتوم … ثمضربه حجر صوَّان مسنون وحاد على وجنته. تعثَّر الحصان الزعيم،
وسقط على إحدى ركبه، ثم قام على قدمه، وركض مبتعدًا كالريح. كان الهواء عابقًا
بالدوَّامات الترابية التي أحدثتها أطراف الخيول، ووثْب الحوافر، وصهيل التحذير. قُذف
أوج-لومي مسافة قدم في الهواء، وسقط على الأرض مرةً أخرى، ثم رُفع مرةً أخرى،
وضُرب في بطنه ضربة عنيفة، ثم أطبقَت ركبتاه على شيء بينهما. وجد نفسه مُتشبِّثًا
بركبتيه وقدمَيه ويدَيه، ومنطلقًا بعنف وهو يهتزَّ بشدة في الهواء، وذهَبت فأسه، السماء
وهذا ما فعله. «. تمسَّك جيدًا » : وحدها تعلم إلى أين. قالت الغريزة الأم
أدرك وجود الكثير من الشعر الخشن في وجهه، بعضٌمنه بين أسنانه، ومرج أخضر
يمر أمام عينيه. رأى كتفَ الحصان الزعيم، ضخمة وملساء، مع تحرك العضلات برشاقة
تحت جلده. أدرك أن ذراعَيه كانتا حول عنقه، وأن الاهتزازات التي كان يتعرضلها كان
لها إيقاع محدَّد.
ثم أصبَح وسط هجوم جامح لجذوع الأشجار، ثم وجد الخوص والسَّرخس من
حوله، ثم المزيد من المرج المفتوح. ثم مرَّا على طريق طويل من الحصى، ووجد الحصى
الصغير يَتطاير من الجانبين حولهما في الاتجاه المعاكس لاتجاه عَدْو الحوافر السريعة. بدأ
أوج-لومي يشعر بإعياء ودُوار مُرعِب، لكنه لم يكن من النوع الذي يتخلى عن كل شيء
لمجرَّد شعوره ببساطة بعدم الراحة.
لم يَجرؤ على إفلات قبضته، لكنه حاول جعل نفسه يَشعر براحة أكبر؛ فتخلى عن
عناقه لرقبة الحصان، وأمسك بعرفه بدلًا من ذلك. جعل ركبتيه تنزلقان إلى الأمام، وتحرك
بجسمه إلى الخلف؛ فأصبَحَ في وضعية جلوس حيث تتباعَد أطرافه الأربعة.
كان عملًا عصبيٍّا، لكنه استطاع فعله. وأخيرًا جلس مُنفرِجَ الساقَين تمامًا، يلهث في
الواقع، وينتابه الشك، لكن حدة الطَّرْق المُخيف الذي كان جسمه يتعرَّضله قد خفَّت بكل
تأكيد.
لمَّ أوج-لومي شتات عقله مرةً أخرى. بدَت له السرعة رهيبة، لكن كان ثمة نوع من
النشوة على وَشكِ أن يَطرد خوفه الجنوني الأول. اندفع الهواء نحوه، عذبًا رائعًا، وتغير
إيقاع الحوافر وانكسَر، ثم عاد إلى ما كان عليه مرةً أخرى. كانا على المرج الآن؛ أرض
فضاء واسعة، وكانت أشجار الزان على بُعد مِائة ياردة على الجانبَين، وازدانشريطٌ نَضِرٌ
من النباتات الخضراء بالزهور الوردية اللون، وتخلَّلته المياه الفضية هنا وهناك، مُتعرِّجة
تحته في المنتصف. ومن بعيد كانت تظهر لمحة من وادٍ أزرق، بعيدًا للغاية. ازدادت النشوة؛
فكانت هذه أول مرة يَشعر فيها الإنسان بسرعة انطلاق الخيل.
بعد هذا جاءت مساحة واسعة تَتناثر فيها الأيائل السمراء الأوروبية السريعة الحركة
المُنتشرة هنا وهناك، ثم بضع من بنات آوى، ظنَّت كلها خطأً أن أوج-لومي أسد، وجاءوا
يُهرعون وراءه. وعندما رأتأنه ليسأسدًا واصلت ملاحقته بدافع الفضول. استمر الحصان
في الركض، تتملَّكه فكرة واحدة؛ هي الهرب. وتبعته بناتُ آوى وأذُنها منتصبة لأعلى، وهي
الحصان » : فقال الثاني «؟ مَن سيَقتل الآخر » : تتساءل بنباحها السريع. قال أول ابن آوى
أصدروا العُواء الذي يعني الملاحقة، وردَّ الحصان على هذا كرد الخيول «. هو الذي سيُقتَل
في أيامنا هذه على الِمهماز.
انطلقوا كلهم مُندفعين، مثل إعصار صغير في يوم هادئ، مُتسبِّبين في فزع الطيور،
واندفاع عشراتالأشياء المُباغَتة إلى الاحتماء، وطيران عدد هائل من ذباباتالروثالساخطة،
وتحطيم الأزهار الصغيرة المُتفتِّحة، وتسويتها مرةً أخرى بمرجها الأبوي. ظهرت أشجار
مرةً أخرى، ثم تناثُرٌ للماء؛ إذ كان الحصان يَعبُر فوق بركة؛ ثم خرج أرنبٌ برِّيٌّ مندفعًا
من كتلة من الأعشاب تحت حوافر الحصان الزعيم مباشرةً، وتركتهما بنات آوى على الفور.
اخترقا بعد ذلك مساحة مفتوحة مرةً أخرى، مساحة خضراء واسعة من منحدرات التلال،
تُشبه تمامًا المنخفضات العُشبية التي تقع جهة الشمال في عصرنا الحالي من إبسوم ستاند.
انتهى أول هروب عنيف للحصان الزعيم منذ وقت طويل، وصار الآن مُنهمِكًا في
ركضمنتظم، وكان أوج-لومي، رغم إصابته بكدمات بالغة وعدم تأكُّده على الإطلاق من
المستقبل، في حالة من الاستمتاع البالغ. ثم حدَث الآن تطور جديد؛ إذ قلت السرعة مرةً
أخرى، فقد أتى الحصان الزعيم على مُنحنًى قصير، وتوقف تمامًا.
أصبح أوج-لومي في حالة تأهُّب، وتمنى لو كان معه حجرصوَّان، إلا أن حجر الرشق
الصوَّان الذي كان يَحمله في حزام حول خصره — مثل الفأس — تَعْلم السماءُ وحدَها أين
ذهب. أدار الحصان الزعيم رأسه، ورأى أوج-لومي عينًا وأسنانًا. حرَّك ساقه إلى وضع
آمن، وضرَبه على وجنته بقبضته. عندها سقط رأسه في مكان كأنه اختفَى من الوجود،
وارتفع الظهر الذي كان يجلس عليه إلى الأعلى مثل قُبة. مَارس أوج-لومي الفعل الغريزي
نفسه مرةً أخرى؛ فتمسَّك بشدة؛ فأطبق بركبتيه وقدميه، وبدا رأسه يَنزلق نحو المرج.
كانت أصابعه مُتمسِّكة بعُرف الحصان، وأنقذه الشعر الخشن للحصان. انخفضالسطح
وأصبح «! ووب » : المائل الذي كان يجلس فوقه مرةً أخرى، ثم قال أوج-لومي بذهول
الانحدار إلى أعلى في الاتجاه المعاكس. إلا أن أوج-لومي كان أقرَبَ بآلاف الأجيال للكائنات
البُدائية منه للإنسان؛ ولم يكن لقردٍ التشبُّث أفضل مما فعل هو شخصيٍّا. كما أن الأسد
كان يُدرِّب الحصان لعدد لا حصر له من الأجيال ضد أساليب تحريك الظهر من جهة
لأخرى ورفعه. إلا أنه رفَس بمهارة شديدة، وقفَز قفزةً لأعلى مع تقويس ظهره ببراعة
بالغة. وفي خمس دقائق عاشأوج-لومي عُمرًا. فإذا نزَل عن ظهره فإن الحصان سيقتله،
كان على يقينٍ من ذلك.
بعد هذا قرَّر الحصان الزعيم الالتزام بخُططه القديمة مرةً أخرى، وفجأة انطلَق
راكضًا. اتجه إلى أسفل المُنحدر، مسرعًا في الأماكن الشديدة الانحدار، ولم يكن يَنحرف
يمينًا ولا يسارًا، وانطلَقا إلى الأسفل؛ فاختفت الأرض المنبسطة الواسعة للوادي وراء
أشجار البلُّوط والزعرور التي تُناوشهما. لفَّا حول حفرة مفاجئة بها بركة لنبعِ ماء، وكثير
من الأعشاب والشُّجَيرات الفِضية اللون. ازدادت الأرضليونة والعشب طولًا، وعلى الجانب
الأيسر والأيمن انتشَرت شُجيرات شهر مايو، التي لم تزل مُزدانةً ببعض الأزهار التي لم
تسقط بعد. اشتدت كثافة الشجيرات حتى أصبحت تَضرب الراكب المارَّ، وأصيب الحصان
وراكبه بخدوش صغيرة، وخرجت من أجسامهما قطرات من الدماء. ثم فُتح الطريق مرةً
أخرى.
حدثَت بعد ذلك مُغامَرة رائعة؛ فقد ارتفعَتصرخةٌ حادة مفاجئة من غضبٍ مُفرِط
من بين الشجيرات،صرخةُ كائنٍ وقع عليه ظلمٌ بالغ، وظهر من خلفهما، محطِّمًا كلشيء
وحيدَ القرن ذا القرن الكبير، « ياا » في طريقه، كائنضخم رمادي يَميل إلى الزرقة. لقد كان
في إحدى نوبات غضبه المُعتادة، مندفعًا بكامل طاقته، تمامًا مثل بقية جنسه. فقد أفُزع
في أثناء تناوله للطعام؛ ومن ثم يجب أن يتعرَّض أحدٌ ما، أيٍّا ما كان، للتمزيق والسحق.
انقضَّعليهما من جهة اليسار، وعيناه الصغيرتان الماكرتان مُحمرَّتان، موجهًا قرنه الهائل
إلى الأسفل، وذيله الصغير مُرتفع خلفه مثل الصاري. للحظة فكَّر أوج-لومي في الانزلاق
عن ظهر الحصان والهرب، لكن انظر! فقد أصبحَت الخطوات المُتقطِّعة للحوافر أسرع،
وبدا أن وحيد القرن بأقدامه الصغيرة المُمتلئة المسرعة يَنزلق كما رآه أوج-لومي بجانب
عينيه عندما نظر إلى الخلف. وفي خلال دقيقتَين كانا داخل شجيرات شهر مايو، وخرَجا
إلى المساحة المفتوحة، وهما يَنطلقان بسرعة. استطاع لفترة من الوقت سماع الخطوات
لم يَفقد « ياا » الثقيلة التي تُلاحقهما وهي تتقهقَر إلى الخلف، ثم أصبح الوضع كما لو أن
أعصابه، وكما لو أنه لم يوجد من الأساس.
لم تتعثَّر الخطوات قط، واستمَرا في الركضقاطعَين الأراضي.
شعر أوج-لومي في تلك اللحظة بسعادة غامرة؛ وكانت السعادة في تلك الأيام تعني
وهو يحاول مدَّ عنقه إلى الخلف ليرى «. يا-ها! يا ذا الأنف الكبير » : الإهانة. قال أوج-لومي
لماذا لا تحمل حجر الضرب معك في » : لمحة بعيدة من هذا الكائن الذي يُطاردهما. وقال
وأنهى كلامه بصيحة ثائرة. «؟ قبضتك
إلا أن الصيحة كانت كارثية؛ فقد كانت بالقرب من أذن الحصان؛ ونظرًا لكونها غير
مُتوقَّعة على الإطلاق، أفزَعت الحصان بشدة. فقد جَفَل بعنف، ووجد أوج-لومي نفسه
فجأة في وضع غير مريح مرةً أخرى؛ فقد وجد نفسه مُتدليًا ومتعلقًا بالحصان، بذراع
واحدة وركبة واحدة.
كان باقي الطريق جديرًا بالإعجاب لكنه كان بغيضًا. كان المنظر في الأساس منظر
السماء الزرقاء، وكان ممزوجًا بأكثر المشاعر الجسدية البغيضة. وأخيرًا تعرَّض للضرب
من شجيرة من نبات الزعرور الشائك؛ فترك الحصان.
ارتطم بالأرض على وجنته وكتفه، ثم، بعد حركات سريعة معقَّدة وغريبة، ارتطم
بها مرةً أخرى في نهاية عموده الفقري. رأى ومَضات وشرارات من الضوء والألوان. بدَت
الأرضكما لو كانت تقفز من تحته تمامًا كما كان يفعل الحصان. بعد هذا اكتشف أنه كان
يَجلس على مرج أخضر، يَبعد ست ياردات عن الأجَمة، وأمامه كانت مساحة من العُشب،
تزداد اخضرارًا، وعدد من البشرعلى مسافة بعيدة، وكان الحصان يلفُّ وهو يَركضركضًا
أنيقًا على مسافة بعيدة جدٍّا على جهة اليمين.
كان البشر على الجهة المُقابلة من النهر، وكان بعضُهم لا يزال في الماء، لكنهم جميعًا
كانوا يَركضون بأسرع ما يُمكنهم. لم يكن اقتراب وحشٍ قوي يستطيع تقطيعهم إربًا
بالشيء الجديد الذي يَخشونه. جلس أوج-لومي لدقيقة كاملة يُشاهدهم بروحٍ مُنبهِرة
بشدة. فإن مُنحنى النهر، والهضْبة التي تظهر من بين القصب والسَّرخس الملكي، وخيوط
الدخان الرفيعة الصاعدة إلى السماء، كانت كلها مألوفة تمامًا له. لقد كان هذا مكان
أويا الذي هرَب منه مع أودينا، والذي نصَب له كمينًا داخل غابات ؛« لأبناء أويا » المعيشة
.« الفأس الأولى » الكَستَناء وقتله ب
هبَّ واقفًا على قدمَيه، وكان لا يزال مصابًا بالدوار بسبب سقوطه، وبينما كان يفعل
هذا، التفت الهارِبون المُتفرِّقون ورأَوْه. أشار بعضهم إلى الحصان المُتقهقِر وثرثروا. سار
ببطء نحوهم وهو يُحدِّق فيهم؛ فقد نسيَالحصان، ونسيكدماته، في خضمِّ اهتمامه المُتزايد
بهذه المواجهة. كان عدد الموجودين منهم أقل مما كان؛ فافترض أن الآخَرين لا بد أنهم
اختبئوا، ولم تكن كومة السراخس أو النار الليلية مرتفعة كثيرًا. كان من المفترض أن
يَجلس فاو بالقُرب من كومة حجر الصوَّان، لكنه تذكَّر أنه قد قتَل فاو. ومع عودته فجأة
إلى هذا المشهد المألوف، بدا الشِّعب والدِّبِبة وأودينا أشياءَ بعيدة، أو بالأحرى أشياء من
حُلم.
توقَّف عندضفة النهر، ووقف ينظر إلى القبيلة. كانت قدراته الحسابية لا تكاد تُذكر،
لكنه كان متأكِّدًا من أنهم أقل عددًا. ربما كان الرجال في مكان بعيد، لكن عدد النساء
والأطفال كان أقل. أطلَق صيحة العودة إلى الوطن؛ فقد كان عراكُه مع أويا وفاو، وليس
ردُّوا عليه باسمه بشيء من الخوف بسبب أسلوب «! أبناء أويا » : مع الآخرين. صاح قائلًا
عودته الغريب.
ظلُّوا يَتحدثون معًا لفترة من الوقت، ثم تحدَّثت سيدة عجوز بصوت مرتفع وردَّت
«. إن زعيمنا أسد » : عليه قائلة
أويا سيعود، سيعود مثل » : لم يفهم أوج-لومي هذه المقولة؛ فردَّ عليه كثير منهم معًا
الأسد؛ فزعيمنا أسد. سيأتي في الليل، وسيَذبح مَن يريد، لكن لن يستطيع أحد غيره قتلنا،
«. يا أوج-لومي، لن يستطيع أحدٌ غيره قتلنا
ما يزال أوج-لومي لا يفهم شيئًا.
«. إن زعيمنا أسد؛ فلم يعُد يتحدَّث بعد الآن مع البشر »
وقف أوج-لومي ينظر إليهم؛ فقد كانت تُراوِده أحلام، وكان يعلم أنه بالرغم من أنه
قتَل أويا، فإن أويا لا يزال موجودًا، والآن هم يُخبرونه بأن أويا أسد.
فجأة التفتَت السيدة العجوز ذات البشرة المتغضِّنة الذابلة، سيدة حراس النار،
وتحدَّثت بهدوء مع الجالسين بجوارها. كانت سيدة عجوزًا بالفعل؛ فقد كانت أولى زوجات
أويا، وترَكها تعيش لأكثر من السن الذي يُفترض بالنساء، على ما يبدو، الوصول إليه.
كانت بارعةً من البداية، بارعةً حتى تستطيع إسعاد أويا والحصول على الطعام، والآن
أصبحَت مستشارة رائعة. تحدَّثت بهدوء، وراقب أوج-لومي شكلها المليء بالتجاعيد عبر
«. تعالَ إلينا يا أوج-لومي » : النهر بنفورٍ غريب. ثم نادت بصوت مرتفع قائلة
وبدءوا جميعًا يَصيحون: «. تعالَ إلينا يا أوج-لومي » : رفعَت فتاةٌصوتها فجأة وقالت
«. تعالَ إلينا يا أوج-لومي »
كان من الغريب تغيُّر أسلوبهم بعد نداء السيدة العجوز.
وقَف ثابتًا يُراقبهم جميعًا؛ فمن الجيد أن يُناديَ أحد عليك، وكانت الفتاة التي نادت
عليه في البداية فتاةً جميلة، لكنها جعلته يُفكِّر في أودينا.
وارتفع صوت المرأة العجوز مُتغضِّنة «. تعالَ هنا، يا أوج-لومي » : واصلوا الصياح
الوجه فوق أصواتهم جميعًا. وعندما سمع صوتَها عاد إلى التردُّد مرةً أخرى.
وبدأت أفكاره تتشكَّل ببطء. — « أوج المفكِّر » — وقَف على ضفة النهر، أوج-لومي
الآن توقف البعض تباعًا كي يرَوْا ما سيَفعل. ففكَّر في العودة، وفكر في عدم العودة،
وفجأةً كانت السيطرة لخوفه وحذره؛ فالتفَت دون أن يردَّ عليهم، وسار عائدًا نحو أشجار
الزعرور الشائك البعيدة، من حيث جاء. عندها بدأت القبيلة بأكملها تَصيح عليه مرةً
أخرى بلهفة شديدة. تردَّد وعاد، ثم واصل السير، ثم التفت مرةً أخرى، ثم نظر إليهم مرةً
أخرى بعينَيه المضطربتَين وهم يُنادون عليه. وفي آخر مرة كان قد سار خطوتَين، قبل أن
يوقفَه خوفه. رأَوْه يتوقَّف مرةً أخرى، ثم هز رأسه فجأةً واختفى بين أشجار الزعرور.
عندها رفع جميع النساء والأطفال أصواتهم معًا، ونادَوْا عليه في محاولة بائسة أخيرة.
بعيدًا عند أسفل النهر كانت أعواد البوصتتحرَّك في النسيم، حيث كان المكان مناسبًا
لنوعية التغذية الجديدة للأسد العجوز، الذي اعتاد أكل الإنسان؛ لذا صنَع عرينه هناك.
وجَّهت المرأة العجوز وَجهها في هذا الاتجاه، وأشارت إلى أجمات نبات الزعرور الشائك،
أويا، ها هو عدوُّك يذهب إليك! إليك يذهب عدوُّك، يا أويا! لماذا تَلتهمنا مساءً؟ » : وصاحت
«! فقد حاولنا الإيقاع به! ها هو عدوُّك يذهب إليك، يا أويا
إلا أن الأسد الذي كان يَفترس أبناء القبيلة كان يأخذ قيلولته؛ فلم يسمع النداء. في
هذا اليوم كان قد تعشَّى على إحدى الفتيات المُمتلئات، وكان مِزاجه مرتاحًا هادئًا. لم يكن
يُدرك فعليٍّا أنه هو أويا وأن أوج-لومي هو عدوه.
وهكذا ركبَ أوج-لومي الحصان، وسمع لأول مرة عن أويا الأسد، الذي حلَّ محل أويا
الزعيم، وكان يقتات على القبيلة. وفي أثناء عودته مسرعًا إلى الشِّعب، لم يعد عقله مشغولًا
بالحصان، بل بفكرة أن أويا ما يزال على قيد الحياة، وأنه إما أن يَقتُل أو يُقتَل. كان يرى
مرارًا وتكرارًا صورة الجماعة المُتناقِصة العدد من النساء والأطفال وهم يَصيحون عليه أن
أويا أسد، أويا أسد!
والآن بدأ أوج-لومي يركضخوفًا من أن يحلَّ الشفق عليه