) أويا الأسد )
كان الأسد العجوز محظوظًا؛ فقد كانت القبيلة تَفتخر فخرًا خاصٍّا بزعيمها، لكن هذا كان
التعويض الوحيد الذي يَحصلون عليه من ذلك. جاء هذا الأسد في الليلة نفسها التي قَتَل
ولذلك كانوا هم مَن أطلقوا عليه اسم أويا. كانت السيدة ؛« أويا الماكر » فيها أوج-لومي
العجوز، حارسة النار، أول مَن أطلق عليه اسم أويا. أدى سقوط المطر إلى إخماد النار
لتُصبح بصيصًا، وجعل هذه الليلة مظلمة. وفي أثناء حديثهم بعضهم مع بعض، ونظرهم
بعضهم إلى بعض في الظلام، وتساؤلهم في خوف ماذا قد يَفعل أويا بهم في أحلامهم الآن
بعد وفاته، سَمعوا الصدى المُتزايد لزئير أسدٍ قريبٍ منهم، ثم ساد الهدوء.
كتَموا أنفاسهم، حتى إن الأصوات الوحيدة تقريبًا كانت أصوات دقات المطر وارتطام
قطرات المطر بالرماد. ثم بعد وقت طويل، سُمعصوت تحطُّم وصرخة رعب، وصوت زئير.
هبُّوا واقفين، وصاحوا وصرخوا وركضوا في كل اتجاه، لكنهم لم يستطيعوا إشعال النار،
وفي دقيقة كانت الضحية تُجَر عبر أشجار السَّرخس. كانت الضحية هي إرك، أخو فاو.
وهكذا جاء الأسد.
كان نبات السَّرخسفي الليلة التالية ما يزال رطبًا بسبب المطر، وجاء الأسد وأخذ كليك
ذات الشعر الأحمر. كان هذا كافيًا لليلتَين. ثم في الليالي المظلمة، التي تتخلَّل الليالي المقمرة،
جاء ثلاث ليالٍ، ليلة بعد ليلة، رغم إشعالهم نيرانًا قوية. كان أسدًا عجوزًا أسنانه قصيرة،
لكنه كان شديد السكون والهدوء؛ فقد كان يعلم عن النيران من قبل؛ إذ لم يكن هؤلاء أول
البشر الذين يراهم طوال عمره الطويل. وفي الليلة الثالثة جاء في الفترة بين إشعال النار
الخارجية والنار الداخلية، وقفَز على كومة حجر الصوَّان، وجذب إرم بن إرك، الذي بدا
كأنه الزعيم. كانت هذه الليلة مروِّعة؛ لأنهم أشعلوا مشاعل هائلة من السَّرخس وركضوا
وهم يَصرخون؛ فترك الأسد إرم. وفي ضوء النار رأَوْا إرم وهو يُعاني ليقف، وركضلمسافة
قصيرة نحوهم، ثم قفَز الأسد قفزتين وأسقطه أرضًا مرةً أخرى. وكانت هذه آخر مرة
يرَوْن فيها إرم.
هكذا جاء الخوف، واختفَت كل بهجة الربيع من حياتهم؛ فقد اختفى خمسة أفراد
بالفعل من القبيلة، وبعد أربع ليالٍ زاد ثلاثة على هذا العدد. أصبح البحث عن الطعام
يخلو من الحماس، فلم يكن يعلم أحدٌ مَن سيأتي عليه الدور في المرة المقبلة، وطوال اليوم
كانت النساء يَجتهدن في العمل، حتى النساء المُفضَّلات، ويَجمعنَ القش والعِصيَّمن أجل
النار التي تُشعل في الليل. وكان الصيادون يَصطادون بصعوبة؛ ففي أيام الربيع الدافئة
حلَّ الجوع كما لو أنهم ما يزالون في فصل الشتاء. كان من المُمكن أن تنتقل القبيلة، إذا
كان لها قائد، لكنهم لم يكن لهم قائد، ولم يكن أحد يعلم إلى أين يُمكنهم الذهاب دون أن
يتبعهم الأسد. وعليه، فقد ازداد الأسد بدانة، وشكَر السماء على وجود جنس البشر. مات
طفلان وشابٌّ بينما القمر لا يزال هلالًا، ثم جاء الدور على حارسة النار العجوز متغضِّنة
البشرة، التي تخيَّلت نفسها أولًا في حُلمٍ مع أودينا وأوج-لومي، وتذكَّرت الطريقة التي قُتل
بها أويا. لقد عاشت في خوفٍ طوال حياتها من أويا، والآن تعيش في خوفٍ من الأسد؛ فقد
كان من المُستحيل أن يستطيع أوج-لومي — الذي رأتْه يولد أمام عينَيها — أن يَقتل أويا
نهائيٍّا. كان أويا هو من يبحث عن عدوِّه حتى الآن!
ثم جاءت العودة الغريبة لأوج-لومي، ورؤية حيوان عجيب يَركضبعيدًا عبر النهر،
ثم تحوَّل فجأةً إلى حيوانَين، حصان ورجل. وبعد هذه الأعجوبة جاءت رؤية أوج-لومي
على الضفة البعيدة من النهر … نعم، كان الأمر كله واضحًا لها. لقد كان أويا يُعاقبهم؛
لأنهم لم يُلاحقوا أوج-لومي وأودينا.
عاد الرجال مُتباطئين يُفكِّرون في مخاطر الليل بينما كانت الشمس لا تزال تُلقي
بأشعتها الذهبية في السماء. استقبلَتْهم القبيلة بقصة أوج-لومي، وعبَرتِ السيدة العجوز
مُقتفي » معهم النهر، وأَرَتْهم أثره وهو مُتردِّد في الضفة الأبعد من النهر. لقد كان سيس
وهي «! أويا يُريد أوج-لومي » : يعرف آثار أقدام أوج-لومي. صاحت السيدة العجوز « الأثر
تقف على يسار مُنحنى النهر، وكان جسدها البرونزي يتوهَّج في شمس المغيب. كانت
صيحاتها غريبة، وصوتها يَقترب تارةً ويبتعد تارةً عن حدود الكلام، لكن المعنى الذي
إن الأسد يريد أودينا؛ فهو يأتي ليلة بعد أخرى بحثًا عن » : تتضمَّنه هذه الصيحات هو
أودينا وأوج-لومي. وعندما لا يستطيع العثور على أودينا وأوج-لومي يَستشيط غضبًا
ويَقتل. اصطادوا أودينا وأوج-لومي، أودينا التي لاحَقَها، وأوج-لومي الذي أصدر عليه
«! الحكم بالإعدام! اصطادُوا أودينا وأوج-لومي
التفتَت لتنظر إلى حقول البوص، كما كانت تلتفت أحيانًا لتنظر إلى أويا عندما كان
مالت أعواد البوصالطويلة من نسمة «؟ أليس كذلك يا زعيم » : على قَيد الحياة، وصاحت
هواء كما لو كانت تجيب عليها.
ومن مكان بعيد في الشفق سُمع صوتضربات مُتقطِّعة من مكان المعيشة. كان هذا
صوت الرجال وهم يَشحذون رماحهم الرَّمادية اللون استعدادًا للصيد في الصباح. وفي
.« مُقتفي الأثر » المساء، في وقتٍ مبكِّر قبل ظهور القمر، جاء الأسد وأخذ ابنة سيس
والصبي فاو-هاو، الذي « مُقتفي الأثر » في الصباح، قبل شروق الشمس، أخذ سيس
ورجلان ،« آكل الحلزون » وبو و « ذو العين الواحدة » أصبح الآن يَقطع حجر الصوَّان، و
كل الرجال المتبقِّين على قيد الحياة … « الثعبان » و « جلد القط » من ذوي الشعر الأحمر، و
من أبناء أويا، رماحَهم الرَّمادية وحجارة الضرب وحجارة القذف، التي وضعوها داخل
الحقائب المصنوعة من مخالب الحيوانات، وانطلقوا في أعقاب أوج-لومي عبر أجَمات نبات
وإخوته يَتناولون طعامهم، وصعدوا إلى أعلى « ياا » الزعرور الشائك، حيث كان وحيد القرن
الأراضيالمنخفضة الجدباء في اتجاه غابات الزان.
في هذه الليلة كانت النار مُرتفعة وشديدة الاشتعال، واختفى القمر من السماء، وترك
الأسد النساءَ والأطفال الجاثمين في سلام.
وفي اليوم التالي، بينما كانت الشمس في كبد السماء، عاد الصيادون؛ كلهم ما عدا
الذي سقَط صريعًا بجمجمة مهشَّمة في سفح الحافَة الصخرية. ،« ذا العين الواحدة »
(عندما عاد أوج-لومي في ذلك المساء من مطارَدة الحصان، وجد الطيور الجارحة مُنهمِكةً
في التهام جثَّته.) أحضرالصيادون معهم أودينا وبجسمها كدمات وجروح، لكنها على قيد
الحياة. كانت هذه هي الأوَامر الغريبة التي أصدرَتها المرأة العجوز ذات التجاعيد، وهي
كانت يداها «. إنها ليست فريستنا؛ إنها لأويا الأسد » — أن يتمَّ إحضارها على قيد الحياة
مربوطتَين بسيور جلدية، كما لو كانت رجلًا، وجاءت مُتعَبة وواهنة، وكان شعرها يُغطي
الذي أعطته ،« آكل الحلزون » عينَيها وملبَّدًا بسبب الدماء. كانوا يسيرون حولها، وظلَّ
اسمه، يضحك مرارًا وتكرارًا وهو يَضربها برمحه الرَّمادي. وبعدماضربها برمحه، كان
ينظر وراءه كما لو كان قد فعَل فعلًا مُفرط الجرأة. كان الآخرون أيضًا ينظرون وراءهم
مرارًا وتكرارًا، وكلهم كانوا في عجلة من أمرهم ما عدا أودينا. عندما رأتْهم المرأة العجوز
قادِمين، صاحت بصوت مُرتفع من السعادة.
دفعوا أودينا إلى عبور النهر ويداها مربوطتان، رغم أن التيار كان عاليًا، وعندما
انزلقَت صرخت المرأة العجوز، أولًا من الفرحة ثم خوفًا من أن تتعرَّض للغرق. وعندما
جذبوا أودينا إلى الشاطئ لم تكن تستطيع الوقوف لفترة طويلة، رغم أنهمضربوها حتى
تقرَّح جسمها؛ لذلك تركوها تجلس وقدماها تَلمسان الماء. كانت عيناها تنظران إلى الأمام،
ووجهها جامدًا، بصرفالنظر عما يقولون أو يفعلون. نزلت القبيلة كلها إلى مكان المعيشة،
الصغيرة ذات الشعر الأجعد، التي بالكاد يُمكنها المشي، ووقفَت تُحدِّق في أودينا « هاها » حتى
والمرأة العجوز، كما نُحدِّق الآن في وحش غريب مُصاب وصائده.
مزَّقت السيدة العجوز عِقد أويا الموجود حول عنق أودينا، ووضعته على عنقها؛ فقد
كانت أول مَن يَرتديه. ثم بدأت تقطع شعر أودينا، وأخذت رمحًا من سيس وضربتها بكل
قوتها. عندما نفَّست عن مكنوناتصدرها على الفتاة، نظرت عن كثب في وجهها. كانت عينا
أودينا مغلقتَين وكانت ملامحها جامدة، وكانت تَستلقي في سكونٍ تامٍّ لدرجة أن العجوز
خشيَت أن تكون قد ماتت حتى ارتعشَت فتحتا أنفها. عندها لطمت العجوز وجه الفتاة
وضَحِكت وأعطت الرمح لسيس مرةً أخرى، وابتعدت عنها قليلًا وبدأت تتحدَّث وتسخر
منها بأسلوبها المعتاد.
كانت العجوز لديها كلمات أكثر من أيِّ فردٍ في القبيلة، وكان الاستماع إلى حديثها
أمرًا بَشِعًا. أحيانًا كانت تَصرخ وتئن على نحوٍ غير مفهوم، وأحيانًا كانتصرخاتها ذات
الصوت الأجش تتَّخذ شكل الشبح الذي يُطارد الأفكار. لكنها مع ذلك أخبرت أودينا معظم
وأوج-لومي! ها-ها! » . الأشياء التي تَنتظرها، عن الأسد وعن العذاب الذي سيُلحقه بها
«؟ أوج-لومي قد ذُبح
فتحَت أودينا عينَيها فجأة وجلست مرةً أخرى، والتقت نظرتها بنظرة العجوز مباشرةً
أنا لم أرَ حبيبي أوج-لومي » ، كأنها شخص يُحاول التذكر «. لا» : وبوضوح. قالت ببطء
«. مذبوحًا. أنا لم أرَ حبيبي أوج-لومي مذبوحًا
أخبِروها، أخبِروها عن الذي قتَله. أخبروها كيف قُتل » : صاحت المرأة العجوز
«. أوج-لومي
نظرت هي وكلُّ النساء والأطفال الموجودين، كلٌّ منهم للآخر.
لم يُجِب أحد، ووقَفوا تبدو على وجوههم علامات الخجل.
فنظر الرجال كلٌّ منهم للآخر. «. أخبِروها » : قالت العجوز
أشرَق وجه أودينا فجأة.
أخبِروها، أخبِروها، أيها الرجال الأقوياء! أخبِروها عن مقتل » : فقالت أودينا
«. أوج-لومي
نهضت العجوز وضرَبتْها بعنف على فمها.
لم نستطع العثور على أوج-لومي؛ فمَن يُطارد » : ببطء « مُقتفي الأثر » قال سيس
«. اثنين، لا يقتل أيٍّا منهما
عندها قفَز قلب أودينا فرَحًا، لكنها حافظت على جمود تعابير وجهها. كان هذا جيدًا؛
إذ نظَرتِ العجوز إليها بحدَّة، والرغبة في القتل تملأ عينَيها.
ثم وجهت العجوز حديثها إلى الرجال لأنَّهم خافوا من ملاحقة أوج-لومي؛ فقد
أصبحت لا تخشىأحدًا الآن بعد مقتَل أويا. وبَّختهم تمامًا مثلما يُوبَّخ الأطفال، وهم عبسوا
صوته « مقتفي الأثر » في وجهها، وبدءوا في إلقاء اللوم بعضهم على بعض، حتى رفَع سيس
فجأة وطلب منها التزام الصمت.
عند مغيب الشمس أخذوا أودينا وذهبوا — رغم أن قلوبهم ارتعَدت من الخوف داخل
صدورهم — عبر الطريق الذي ترَك فيه الأسد العجوز آثاره في البوص. ذهب الرجال كلهم
معًا، وفي أحد الأماكن كانت توجد مجموعة من شجر جار الماء، وهناك قيَّدوا أودينا حيث
يمكن للأسد العثور عليها عندما يخرج في الشفق. وعندما فعلوا هذا أسرعوا بالعودة حتى
اقتربوا من مكان المعيشة، ثم توقفوا. توقف سيس أولًا، ونظر إلى الخلف مرةً أخرى إلى
شجر جار الماء؛ فقد كانوا يستطيعون رؤية رأسها حتى من مكان المعيشة؛ كتلة صغيرة
سوداء تحت جذع أكبر شجرة، وكانت لا تزال في مكانها.
وقف جميع النساء والأطفال يُراقبون على قمة التل، ووقَفت السيدة العجوز، وصرَخت
على الأسد ليأخذ التي يبحث عنها، وأشارت عليه بأوجُه العذاب التي يُمكن أن يُلحقها بها.
كانت أودينا مُتعَبة للغاية الآن؛ إذ أعياها الضرب والإرهاق والحزن، وكان خوفها
من الشيء الذي كان على وشك القدوم إليها هو الشيء الوحيد فقط الذي يجعل ظهرها
صُلبًا. كان الشفق الأحمر بحمرة الدم يملأ الكون، ويظهر من بين سيقان أشجار الكَستَناء
البعيدة، وكان الغرب كله مُشتعلًا، وتحوَّل نسيم المساء إلى هدوءٍ دافئ. كان الهواء مليئًا
بأسراب الذباب الأسود، وكانت الأسماك في النهر القريب تتقافَز أحيانًا، ومن حين لآخر
تُحلِّق خنفساء في الهواء. استطاعت أودينا أن ترى بطرَف عينها جزءًا من هضْبة مكان
المعيشة، وخيالات أشخاصصغيرة تَقف وتُحدِّق فيها. كما استطاعت سماعَ قرع الحجر
الناري — كان صوتُه خافتًا للغاية لكنه واضحٌ جدٍّا. وكانت الأجَمة التي تُمثِّل عرين الأسد
والمُحاطة بالبوصتبدو لها شديدة السكون والظُّلمة والقرب.
توقَّف الآن صوتُ الحجر الناري، وبحثَت عن الشمس فوجدَتها قد اختفت، وأصبح
القمر فوقها ونورُه يزداد سطوعًا. نظرت نحو أجَمة العرين، تبحث عن أيِّ كائن بين أعواد
البُوص، ثم بدأت فجأة تتملَّصوتتلوَّى، وتَنتحِب وتُنادي على أوج-لومي.
إلا أن أوج-لومي كان بعيدًا للغاية. عندما رأَوْا رأسها يتحرَّك مع سماع صوت
معاناتها، صاحوا معًا من فوق الهضْبة؛ فكفَّت عما كانت تفعله وسكنت. بعد هذا جاءت
الخفافيش وزحَف النجم الذي كان يُشبه أوج-لومي إلى خارج مخبئه الأزرق في الغرب.
نادت عليه، لكن بهدوءٍ، لخَوفها من الأسد. وظلت الأجَمة طوال الوقت حتى حلول الفجر
ساكنة.
هكذا زحف الظلام على أودينا، وأضاء القمر، وعادت ظلال الأشياء التي هربت إلى
أعلى سفح التل، واختفَت مع حلول المساء إليها مرةً أخرى قصيرة وسوداء. كما تجمَّعت
الأشكال الداكنة الموجودة داخل أجَمة البوصوأشجار جار الماء حيث يوجد الأسد، وبدأت
تدبُّ في المكان حركة خفيفة، لكن لم يَخرجشيء من هذا المكان طوال الليل.
نظرت إلى مكان المعيشة ورأت النيران تشعُّ بحمرة الدخان، والرجال والنساء
يتحرَّكون ذهابًا وإيابًا. وفي الجهة الأخرى، فوق النهر، كان يزحف ضبابٌ أبيض، ثم
من بعيد جاء صوت عُواء ثعالب صغيرة وصياح أحد الضباع.
كانت ثمَّة فترات طويلة من الانتظار المؤلم؛ وبعد فترة طويلة قفَز حيوانٌ ما في الماء،
وبدا أنه يعبر النهر خوضًا فيه إلى ما بَعد العرين، لكنها لم تستطع رؤية نوع هذا الحيوان،
كما أنها استطاعت أن تَسمع من بِرَك الشرب البعيدة صوت الخوض في المياه، وضجيج
الأفيال. كم كان الليل ساكنًا!
كانت الأرض وقتها تكوينًا عديم اللون من الانعكاسات البيضاء والظلال الكثيفة،
تحت السماء الزرقاء. وكان القمر الفضي يُضيء القِمَم المُزينة لغابات الكَستَناء، وفوق
القمم المظلمة المنحدرة نحو الشرق كانت النجوم بأعداد هائلة. أصبحت النيران المُنبعثة من
الهضْبة باللون الأحمر الزاهي الآن، ووقفَت الأشباح السوداء تنتظر أمامها. كانوا ينتظرون
صرخة … بالتأكيد ستَحدث قريبًا.
بدت الليلة فجأة مليئة بالحرَكة. حبست نفَسها؛ فقد كانت ثمة كائنات تمرُّ عليها؛
واحد، اثنان، ثلاثة؛ ظلال تتسلَّل خلسة … بنات آوى.
بعد ذلك جاءت فترة انتظار طويلة مرةً أخرى.
ثم سمعت صوت حركة من الأجَمة، تأكَّدَت هذه المرة على الفور أن الصوت كان
حقيقيٍّا في مقابل كل الأصوات التي تخيَّلتها في ذهنها، ثم حدثت حركة عنيفة. صدر صوتُ
تهشُّم، فقد سُحقت عيدان البوصبقوة، مرة، ثم مرتين، ثم ثلاث مرات، ثم سكَت كلشيء
عداصوت حفيفٍ مُنظَّم. سمعتصوتًا منخفضًا لحشرجة مرتعدة، ثم عاد السكون ليسود
كلشيء مرةً أخرى. طال السكون؛ ألن ينتهيَ أبدًا؟ حبَست أنفاسها، وعضَّت على شفتيها
حتى لا تصرخ، ثم انطلق شيء مُسرع عبر الشجيرات التحتية. وهنا صرخت صرخة لا
إراديَّة، ولم تسمعصرخة تُجيب عليها من التلة.
استيقظَت الأجَمة فجأة على حركة أخرى عنيفة. رأت سيقان الحشائش تتحرَّك في
ضوء القمر الذي يوشك على الاختفاء، ورأت شجر جار الماء يتأرجح. كافحت بشدةٍ كفاحَها
الأخير، لكن لم يأتِشيء نحوها. بدَت عشرات الوحوشتتدافع في هذا المكان الصغير لبضع
دقائق، ثم مرةً أخرى عم السكون. اختفى القمر خلف أشجار الكَستَناء البعيدة، وانسدلت
أستار الظلام.
جاء بعد ذلك صوتٌ غريب، صوت لاهث ينتحب، ازدادسرعةً وضعفًا. ثم ساد صمت
آخر، ثم جاءت أصوات خافتة وأصوات بعضالحيوانات.
كان كل شيء هادئًا مرةً أخرى، ومن مكان بعيد جهة الشرق أصدر فيلٌ نهيمًا، ومن
الغابة جاء صوتُ زئير ونُباح، وتَلاشَيا.
بعد فترة طويلة ظهر ضوء القمر مرةً أخرى، من بين جذوع الأشجار على الحافَة
الصخرية، وأرسل شعاعَين هائلين من الضوء، وانبعث شريط من الظلام عبر البوص. ثم
جاء صوت حفيف مُتواصِل، وصوت تناثر الماء، وتحرك البوصمتباعدًا بعضه عن بعض
أكثر فأكثر. وفي النهاية ظهرت فيه فتحة، وكأنه يَنفلِق من الجذور إلى الأطراف … لقد
حانت النهاية.
نظرت لترى الشيء الذي خرَج من البوص، وللحظة بدا من المؤكَّد أنه سيكون الرأس
والفك الضخمَين اللذَين توقَّعتهما، ثم تضاءَلا وتغيَّرا. كان شيئًا داكنًا وقصيرًا ظلَّ صامتًا،
لكنه لم يكن الأسد. ثم أصبح ساكنًا، ساد السكون كل شيء. حدَّقت بعينيها، كان أشبه
بضفدع ضخم، طرَفان وجسم مائل، وكان رأسه يتحرَّك باحثًا في الظلال …
صدرصوتُ حفيف، وتحرَّك على نحوٍ أخرق، وكأنه يقفز. وعندما تحرَّك أطلقصوت
حشرجة مُنخفضًا.
«. أوج-لومي » : اندفع الدم في عروقها، وانتابها الفرح فجأة، وهمست
بهدوء وبصوت فيه ألم وهو يُحدق في أشجار جار «. أودينا » : توقَّف الشيء، ورد قائلًا
الماء.
تحرَّك مرةً أخرى، وخرج من الظل خلف البوص إلى ضوء القمر. كان جسمه كله
مغطٍّى ببقع داكنة اللون. رأت أنه كان يجرُّ رجليه، وأنه كان مُمسكًا بفأسه، الفأسالأولى،
في إحدى يديه. بعد لحظة عانى وسقَط على أطرافه الأربعة، وتوجه إليها مترنحًا. قال
الأسد. فاو! أنا قتلتُ الأسد، بيدي، تمامًا كما قتلتُ » : بمزيجٍ غريب من الابتهاج والألم البالغ
تحرَّك حتى يُؤكِّد على كلامه، وتوقَّف فجأة، وأصدرصيحة خافتة. لم يتحرك «. الدبَّ الكبير
لفترة من الوقت.
«. حرِّرني » : همست أودينا
لم يَنبس ببِنْت شَفَة، لكنه رفع نفسه من وضع الزحف هذا باستخدام جذع شجرة
جار الماء، وبدأ يُقطِّع في السيور الجلدية التي تُقيِّدها بالطرَف الحاد لفأسه. سمعته
يلتقط أنفاسه بصعوبة مع كلضربة للفأس. قطع السيور الجلدية الملفوفة حول صدرها
وذراعيها، ثم سقطت يده. ارتطَم صدره بكتفها وانزلق بجوارها، واستلقى ساكنًا.
كان تحرُّرها من بقية قيودها أمرًا سهلًا؛ فحرَّرت نفسها بسرعة. ابتعدت خطوة عن
الشجرة، وكان رأسها يدور، وكانت آخر حركة واعية لها نحوه؛ فقد ترنَّحَت وسقطت
فجأة سريعًا بجواره. جاءت يدها على فخذه، التي كانت طريَّةً ورطبةً؛ فتحرك تحت ما
مارسته عليه من ضغط. صرخ عندما لمسته، وتلوَّى واستلقى ساكنًا مرةً أخرى، ويدها
فوق جسمه.
في هذا الوقت، جاء شيء داكن يُشبه الكلب بهدوء شديد عبر عيدان البوص. تسمَّر
هذا الشيء في مكانه، ووقف يشمُّ، ثم تردَّد، وأخيرًا استدار وانسلَّ عائدًا أدراجه إلى داخل
الظلال.
طال وقتُ بقائهما هناك دون حراك، مع سقوط ضوء القمر الذي أوشَك على الاختفاء
على أطرافهما. وببطء شديد، تمامًا مثل البطء الذي يَختفي به القمر، زحف ظل البوص
قبالة التلة عليهما. والآن اختفت أرجلهما، ولم يكن أوج-لومي إلا مجردصدر فضِّي. زحف
الظل على رقبته، وعلى وجهه، حتى ابتلعَتْهما ظلمة الليل.
أصبح الظل مليئًا بتحركات غريزية؛ فكان ثمة وقع أقدام، وصوت زمجرة خافتة؛
صوت ضربة.
لم يحظَ النساء والأطفال هذه الليلة بنومٍ هادئ في مكان المعيشة حتى سمعوا صوت
صرخة أودينا. إلا أن الرجال كانوا مُتعَبين وجلسوا يَغلبهم النُّعاس. عندماصرخت أودينا
شعروا بالاطمئنان على سلامتهم، وأسرعوا بالذهاب إلى أقرب الأماكن إلى النيران. ضحكت
أخت أودينا الصغرى، ،« سي» المرأة العجوز عندما سمعت الصرخة، وضحكت مرةً أخرى لأن
انتحَبت. بزَغَ الفجر مباشرةً بعد هذا، واستيقظوا جميعًا، ونظروا نحو أشجار جار الماء.
استطاعوا رؤية أن أودينا قد أخُذت، ولم يسعْهم إلا الشعور بالسعادة لمعرفتهم بأن أويا
قد استُرضي. لكن في أذهان الرجال هبطت فكرة أوج-لومي عليهم مثل الشبح؛ فقد كان
بإمكانهم فهم مفهوم الانتقام؛ إذ كان مفهومًا قديمًا في العالم، لكنَّهم لم يُفكِّروا في الإنقاذ.
خرَج فجأة ضبعٌ من الأجَمة، وجاء يعدو بسرعة عبر مساحة البوص. كانت أنفُه ومخالبه
سوداوي اللون. عند رؤيته صاح كل الرجال وأمسَكوا حجارة القذف وركضوا نحوه؛ إذ
لم يكن ثمَّة حيوان أجبَن من الضبع في أثناء النهار. كان كل البشر يَكرهون الضبع لأنه
جلدَ » يفترس الأطفال، وكان يأتي ويعضُّالمرء وهو نائم على حافة مكان المعيشة. أصاب
الذي رَمى الحيوان بعنف على خاصرته رمية مباشرةً ومُستقيمة، وعندها صاحت ،« القط
القبيلة بأكملها فرَحًا.
عند سماع الضجيج الذي أحدثوه جاءت أجنحة تُرفرِف من عرين الأسد، وحلَّقت
ثلاثة نسور بيضاء الرأسببطء، وفي دوائر وجاءت لتَستريح بين فروع إحدى أشجار جار
إن زعيمنا بالخارج، والآن » : الماء، المُطلَّة على العرين. قالت العجوز، وهي تُشير إلى النسور
ظلت النسور هناك لفترة من الوقت، ثم هبَط واحد في «. النسور تأخُذ نصيبها من أودينا
البداية ثم تلاه آخر إلى داخل الأجَمة.
فوق الغابات الشرقية، انهمر ضوء الشمس المشرقة، يُضفي على العالم بأكمله الحياة
والألوان، ويشعُّ فيه النشاط كما يفعل النفخ في الأبواق. عندما رأى الأطفال الشمسصاحوا
الصغيرة، التي نظرَت « سي» معًا، وصفَّقوا وبدءوا في التسابُق نحو الماء. لم يتخلَّف عنهم إلا
بتساؤل نحو أشجار جار الماء، حيث كانت ترى رأس أودينا الليلة الماضية.
إلا أن أويا، الأسد العجوز، لم يَكن بالخارج بل كان في عرينه، وكان مُستلقيًا ساكنًا
للغاية، مائلًا قليلًا على أحد جانبَيه. لم يكن داخل العرين، بل كان بعيدًا قليلًا عنه في
مكان فيه عشبٌ مدهوس. كان تحت إحدى عينيه جرح صغير، خبطة صغيرة بسيطة من
الفأس الأولى. إلا أن الأرضتحت صدره كانت بُنِّية اللون مائلة إلى الحمرة مع بقعة زاهية
اللون، وفيصدره توجد فتحةصغيرةصنَعها أوج-لومي برُمحه الذي يَطعن به. وقد تركَت
النسور علاماتها على جانبِه وعند عنُقه. لقد قتَله أوج-لومي، وكان مُستلقيًا بضربة تحت
مخلبِه وطعنة عرضية في صدره. لقد أدخل الرمح في جسمه بكل ما أوُتي من قوة وطعَنه
إلى نهايته. ،« أويا الزعيم » في قلبه الضخم. وهكذا وصل حكم الأسد، التجسيد الثاني ل
من جهة الهضْبة الصغيرة ازدادصوت الاستعدادات، وتقطيع الرماح وحجارة القذف.
لم يتفوَّه أحد باسم أوج-لومي خوفًا من أن يُعيده هذا إليهم. اعتزم الرجال البقاء معًا،
بالقُرب بعضهم من بعض، في أثناء الصيد لمدة يومٍ أو ما شابه. وكان هدفُهم من الصيد
هو صيد أوج-لومي، إلا إذا جاء ليَصيدهم أولًا.
إلا أن أوج-لومي كان ساكنًا وصامتًا، خارج عرين الأسد، وأودينا جلست القرفصاء
بجواره، وهي تُمسك في يدها الرمح الرَّمادي، المضرَّج كله بالدماء