صراع في أجَمة الأسد )
استلقى أوج-لومي ساكنًا، وظهره قبالة أشجار جار الماء، وفخذه عبارة عن كتلة حمراء
من المروِّع النظرُ إليها. لم يكن بإمكان أي رجل مُتحضِّرالعيشمع مثل هذا الجرح البالغ،
لكن أودينا أحضرت له نبات الزعرور الشائك لتُغلق به جروحه، وجلست القرفصاء بجواره
نهارًا وليلًا، تَضرب الذباب في أثناء النهار لتُبعده عنه بمِروحة صنعَتها من البوص، وفي
الليل كانت تُخيف الضباع التي كانت تقترب منهما باستخدام الفأس الأولى التي كانت
تُمسكها في يدها؛ وبعد فترة قصيرة بدأت جروحه تشفى. كان فصل الصيف في أشُدِّه، ولم
يكن ثمة مطر. ولم يكن لديهم إلا القليل من الطعام، وفي خلال أول يومَين كانت جروحه
ما تزال مفتوحة. وفي المكان المُنخفِض الذي كانا مُختبئَين فيه، لم تكن توجد جذورٌ أو
حيوانات صغيرة، كما أن المَجرى المائي، حيث حلزون المياه والأسماك، كان في المساحة
المفتوحة على بُعد مئات الياردات. لم تستطع الخروج في النهار خوفًا من القبيلة، إخوتها
وأخواتها، ولا في الليل خوفًا من الوحوش، عليه وعلى نفسها؛ لذلك اشتركا في الأسد النافق
مع النسور. إلا أنه كان ثمَّة مجرًى مائي صغير قريب، وأحضرت أودينا إليه كَميَّة كبيرة
من الماء في يديها.
كان أوج-لومي مختفيًا جيدًا، في المكان الذي يَستلقي فيه، عن القبيلة بسبب وجود
أجَمة من أشجار جار الماء، ومُحاط من جميع الجهات بنبات البردي وعيدان البوص
الطويلة. وكان الأسد الذي قتَله يوجد بالقرب من عرينه القديم في مكان من البوص
المدهوس على بُعد خمسين ياردة، في مكان يُمكن رؤيته عبر جذوع البوص، وتعارَكت
النسور مع بعضها على القِطَع الأكثر تميُّزًا، وأبعدت بنات آوى عنه. وعلى الفور حلَّقت
سحابة من الذباب — الذي بدا مثل النحل — فوقه، واستطاع أوج-لومي سماع صوت
أزيزه. وعندما كان جلد أوج-لومي يَلتئم بالفعل — ولم يكن هذا قبل أيام كثيرة من بدء
هذا — لم يكن يبقى من الأسد إلا بعضُالعظام المبعثَرة البيضاء اللامعة.
جلسأوج-لومي لمعظم الوقت ساكنًا طوال اليوم، يَنظر أمامه إلى العدم، وأحيانًا كان
يُتمتِم بكلام عن الخيل والدببة والأسود، وأحيانًا كان يضرب الأرضبالفأس الأولى ويردد
أسماء أفراد القبيلة لساعات طويلة؛ فبدا أنه لم يكن يَخاف من إحضار القبيلة. إلا أنه في
أغلب الوقت كان يَنام، ويحلم أحلامًا قليلة بسبب فقدانه للدماء وقلَّة ما يتناوله من طعام.
ظلَّ الاثنان مُستيقظَين طوال ليل الصيف القصير، فطوال فترة الظلام كانت أشياء تتحرَّك
حَولهما، لم يكونا يُشاهِدانِها قطُّ في أثناء النهار. لم تأتِ الضباع لعدد من الليالي، ثم في
إحدى الليالي غير المُقمِرة جاء حوالي دستة منها، وحاربَت على ما بقيَ من الأسد. كانت هذه
الليلة صاخبة بالزمجرة، واستطاع أوج-لومي وأودينا سماع صوت تكسُّر العظام تحت
أسنانها. إلا أنهما كانا يَعلمان أن الضباع لا تجرؤ على مهاجمة أيِّ كائن على قَيد الحياة
ومستيقظ؛ ولذا لم يخافا كثيرًا.
في أثناء النهار كانت أودينا تذهب على طوال الممرِّ الضيق، الذي صنَعه الأسد العجوز
في البُوصحتى تصل إلى ما وراء مُنحنى النهر، ثم كانت تزحَف إلى داخل الأجَمة وتُراقب
القبيلة. كانت تستلقي بالقرب من أشجار جار الماء، حيث قيَّدوها حتى يُقدِّموها إلى الأسد؛
ومن ثم كان باستطاعتها رُؤيتهم على الهضْبة بجوار النار، صغارًا وواضِحين، تمامًا كما
رأتهم في تلك الليلة. لكنها لم تُخبر أوج-لومي إلا القليل مما رأته؛ لأنها كانت تخشى أن
تَذكُرهم بأسمائهم؛ ففي تلك الأيام كانوا يعتقدون أن ذِكر الأسماء يستدعي الفرد.
رأت الرجال يُجهِّزون رماح القتل وحجارة القذف في الصباح بعدما قتل أوج-لومي
الأسد، ويَخرجون لصيده، تاركين النساء والأطفال على الهضْبة. لم يكونوا يعلمون مدى
« مُقتفي الأثر » قُربه إذ ذهبوا في اقتفاء أثره في طابور واحد نحو التلال، وكان سيس
يقودُهم. كما شاهَدَت النساء والأطفال، بعدما يَذهب الرجال، يجمعون سعف وأغصان
السَّرخس من أجل إشعال النار في المساء، وكان الأولاد والبنات يَركضون ويلعبون معًا.
إلا أن رُؤية السيدة العجوز للغاية كانت تُخيفها. وبعد فترة طويلة بالقُرب من الظهيرة،
عندما يكون معظم الآخَرين في الأسفل في مجرى النهر بالقرب من مُنحناه، كانت العجوز
تأتي وتقف على الجانب القريب من الهضْبة، ببشرتها البُنِّية المُتغضِّنة، وتُشير، حتى إن
أودينا كانت بالكاد تُصدِّق أنها غير مرئية. كانت أودينا تجلس كالأرنب البريِّ، وعيناها
اللامعتان ثابتَتان على العجوز القبيحة المُنحنية الواقفة بعيدًا، وأصبحت تُدرك الآن على
نحوٍ طفيف أن هذه العجوز كانت تَعبد الأسد؛ الأسد الذي قتَله أوج-لومي.
في اليوم التالي، عاد الصيادون مُتعَبين، يَحملون أيَُّلًا صغيرًا، وراقبَتْهم أودينا وهم
يُقيمون وليمةً عليه وهي تَحسدهم. ثم حدثشيء غريب؛ فقد رأت — وسمعت من بعيد —
السيدة العجوز تَصرُخ وتُومئ وتشير نحوها. انتابها الخوف، وزحفَت مثل الثعبان بعيدًا
عن نظرهم مرةً أخرى. إلا أن الفضول سيطر عليها الآن وعادت مرةً أخرى إلى مكان
التجسُّس الذي كانت فيه، وعندما نظَرت توقَّف قلبُها؛ حيث رأت كل الرجال يتَّجهون
نحوها من الهضْبة، وهم يَحملون أسلحتهم في أيديهم.
لم تَجرُؤ على التحرُّك حتى لا تُرى حركتها، لكنها ألصقَت نفسها بالأرض. كانت
الشمس مُنخفِضة، وكانت الأشعة الذهبية في وجوه الرجال. رأتهم يَحملون قطعة من
دمدم «! استمرُّوا » : اللحم الأحمر الغني غُرزت في وتِد رَمادي. توقَّفوا الآن، وصاحت العجوز
واستمرُّوا كلهم في التقدُّم، يَبحثون في الأجَمة بأعيُن يُعميها ضوء الشمس. ،« جلد القط »
وأخذوا الوتِد الرَّمادي المَغروز فيه قطعة اللحم وغرَزوه في الأرض. «. تفضل » : قال سيس
أويا! انظر إلى نصيبك؛ فنحن قتَلنا أوج-لومي، حقيقةً لقد قتَلنا أوج-لومي. » : صاح سيس
وردَّد الآخرون هذه الكلمات. «. لقد قتلنا أوج-لومي اليوم، وسنُحضرلك جثَّته غدًا
نظر بعضهم إلى بعضثم نظروا وراءهم، واستداروا جزئيٍّا وبدءوا في العودة. ساروا
في البداية وهم مُلتفِتون نصف التفاتة إلى الأجَمة، ثم عندما أصبحوا مواجِهين للتلة ساروا
على نحوٍ أسرع، يَنظرون خلفهم، ثم يُسرعون الخطى، وسرعان ما كانوا يركضون، وتحول
الأمر في النهاية إلى سباق، حتى اقتربوا من الهضْبة. ثم كان سيس، الذي كان آخر واحد
فيهم، أول مَن خفَّف منسرعته.
انقضى غروب الشمس وجاء الغسق، وتوهَّجت النيران باللون الأحمر في خلفية من
أشجار الكَستَناء البعيدة زرقاء اللون، وكانت الأصوات فوق التلة فَرِحة. استلقَت أودينا
بالكاد تتحرَّك، وتَنظر من التلة إلى قطعة اللحم ثم إلى التلة مرةً أخرى. لقد كانت جائعة
لكنها كانت خائفة، وفي النهاية زحَفت عائدة إلى أوج-لومي.
هل أحضرتِ لي » : فنظر نحوها عند سماعه صوت اقترابها. كان وجهُه في الظل، وقال
«؟ بعضالطعام
قالت إنها لم تَستطِع العثور على شيء، لكنها ستَبحث أكثر، وعادت لتسير على طول
السبيل الذي اتخذه الأسد حتى استطاعت رؤية التلة مرةً أخرى، لكنها لم تستطع أن
تحمل نفسها على أخذ قطعة اللحم؛ فقد كانت تَشعُر بغريزتها الحيوانية أنه فخ؛ فشعرت
ببؤس شديد.
عادت زاحفةً مرةً أخرى نحو أوج-لومي، وسمعته يتحرَّك ويئن. التفتَت إلى التلة مرةً
أخرى، ثم رأت شيئًا في الظلام بالقُرب من الوتِد، وعندما أمعنت النظر ميَّزت أنه ابن آوى.
أصبحت على الفور شُجاعة وغاضبة، قفَزت عاليًا وصاحت بصوت مرتفع، وركضت نحو
القُربان. تعثَّرت وسقطت على الأرض، وسمعت ابن آوى يُصدر زمجرة.
عندما نهضت لم يكن إلا الوتِد الرَّمادي مُلقًى على الأرض، وكانت قطعة اللحم قد
اختفَت، وعليه فقد عادت حتى تصومَ طوال الليل مع أوج-لومي. غضبَ أوج-لومي كثيرًا
منها؛ لأنها لم تَعثُر على طعام له، لكنها لم تُخبره أيَّشيء عن الأشياء التي رأتها.
مرَّ يومان، وشارَفا على الموت جوعًا، عندما ذبحَت القبيلة حصانًا. ثم حدثت المراسم
نفسها، وتُركت فخذ الحصان على الوتِد الرَّمادي، لكن هذه المرَّة لم تتردَّد أودينا.
استطاعت بالتمثيل والكلمات جعل أوج-لومي يَفهم، لكنه كان قد تناول معظم
أنا أويا، أنا الأسد، » : الطعام قبل أن يَفهم، ثم أصبح سعيدًا بما يَتناوله من طعام. وقال
يُستحسَن أن .« فاو الماكر » أنا دبُّ الكهوف العظيم، أنا الذي لم أكُن سِوى أوج-لومي. أنا
«. يُقدِّموا لي الطعام؛ لأني الآن سأقتلهم جميعًا
عندئذ زال الهمُّ عن قلب أودينا، وضحكَت معه، وبعدها أكلت بسعادة ما تركه من
لحم الحصان.
بعد ذلك راوَدَه حُلم. وفي اليوم التالي جعَل أودينا تُحضِر له أسنان الأسد ومخالبه
— قدْرَ ما تَجده منها — وتقطع له عصًا من أشجار جار الماء، وغرس الأسنان والمخالب
بدهاء بالغ في الخشب بحيث تكون أطرافُها الحادة متجهة إلى الخارج. استغرق هذا وقتًا
طويلًا منه، وأدَّى إلى ثَلم اثنتين من الأسنان وهو يدقُّهما لإدخالهما، وكان غاضبًا للغاية،
ورمى هذا الشيء بعيدًا، لكنه بعد ذلك سحبَ نفْسه إلى المكان الذي ألقاه فيه وأنهاه؛ وهكذا
صنَع نوعًا جديدًا من الهراوات له أسنان. وفي هذا اليوم توفَّر مزيدٌ من اللحم لكلٍّ منهما،
الذي كان قُربانًا للأسد من القبيلة.
في أحد الأيام — بعد عدد يَزيد عن أصابع اليد الواحدة، أكثر من قُدرة أيِّ شخص
على العد — بعدما صنع أوج-لومي الهراوة، كانت أودينا مُستلقية في الأجَمة (بينما كان
هو نائمًا) تُراقب مكان مَعيشة القبيلة. لم يكن يوجد لحم لمدة ثلاثة أيام، وجاءت العجوز
لتُمارسَ طقوس العبادة كعادتها. والآن بينما كانت تُمارس طقوس العبادة، جاءت أختُ
إلى الهضْبة، ووقَفا ،« سيس » وطفلة أخرى، بنت أول فتاة أحبَّها « سي» أودينا الصغرى
ينظران إلى شكلها النحيل وبدآ يسخران منها. وجدت أودينا هذا أمرًا مُسليًا، لكن فجأة
التفتَت العجوز إليهما بسرعة ورأتهما. لبُرهة ظلت واقفة، ووقَفا هما أيضًا دون حركة، ثم
صرختصرخة غاضبة، وأسرعت نحوهما، واختفى الثلاثة على قمة الهضْبة.
« سي» الآن ظهَر الأطفال مرةً أخرى بين السراخس على حافَة التل. ركَضت الصغيرة
أولًا؛ إذ كانت فتاةً نشيطة، وركضت الطفلة الأخرى تَصرُخ والعجوز تَقترب منها. وفوق
خلفه في حذر، يَحمل « جلد القط » و « بو » يَحمل عظمةً في يده، وجاء « سيس » الهضْبة جاء
كلٌّ منهما قطعة من الطعام، وضَحِكا بصوت مُرتفِع، وصاحا بسبب رؤية العجوز غاضبة
على هذا النحو. أمسكت العجوز الطفلة الصارخة، وبدأت تَصفعها والطفلة تَصرخ، وكان
لمسافة قصيرة، وتوقَّفت « سي» هذا بالنسبة لهما لهوًا رائعًا بعد العشاء. ركَضت الصغيرة
في النهاية بين شعورها بالخوف والفضول.
فجأة جاءت أمُّ الطفلة، وهي تلهَث وشعرُها يطير، وتحمل في يدها حجرًا، والتفتَت
إليها العجوز مثل قطَّة شرسة. لقد كانت مُساويةً لأيِّ سيدة؛ فقد كانت الرئيسة القديمة
فيها، « سيس » لحُراس النار، بالرغم من عمرها المُتقدِّم، لكن قبل أن تفعل أيَّ شيء صاح
وعَلا الصراخ. ظهرت رءوس أخرى شعثاء؛ فقد بدا أن القبيلة بأكملها تَحتفِل، إلا أن
في صفِّها، ومع ذلك « سيس » العجوز لم تجرؤ على توجيه انتقامها نحو الطفلة التي وقَف
كان عراكًا صاخبًا.
وفجأة تركت العجوز .« سي» أصدر الجميع ضجيجًا ووجَّه سبابًا، حتى الصغيرة
،« سي» التي لم يكن لها أصدقاء، و « سي» الطفلة التي أمسكَت بها، وركضت بسرعة نحو
التي أدركَت ما يَحيق بها من خطرٍ عندما كاد يُصيبها، أسرَعت بالعَدوِ، غير مُكترِثة إلى
أين تذهب، مباشرةً إلى عرين الأسد. انحرفت جانبًا إلى داخل البوص الآن، غير مُدرِكة إلى
أين كانت ذاهبة.
إلا أن المرأة العجوز كانت بارعةً، لديها من النشاط تمامًا مثلما لديها من حقد،
من شعرها المُتطاير على بُعد ثلاثين ياردة من أودينا. كانت القبيلة بأكملها « سي» وأمسكت
الآن تركضإلى أسفل الهضْبة وتَصيح، مُستعدَّة لرؤية المرح.
ولم تكن ،« سي» ثم تحرَّك شيء ما داخل أودينا، التي لم تكن تُفكِّر إلا في الصغيرة
تُعِر بالًا لخوفها؛ فقفَزت من مكمَنِها، وركضت بسرعة إلى الأمام. لم ترَها العجوز؛ إذ كانت
بيدها، ضربتها بكل قوتها، وفجأة ضرَب وجنتَها « سي» مُنشغلةً بضرب وجه الصغيرة
شيء صلبٌ وثقيل. تدحرجت العجوز، ورأت أودينا بعينَين متأجِّجتَين ووجنتَين مُشتعلتَين،
التي ،« سي» صرخت من الذهول والرُّعب، وانطلقَت الصغيرة .« سي» بينها وبين الصغيرة
لم تَفهم شيئًا، نحو القبيلة. كان أفراد القبيلة قد اقتربوا الآن إلى حدٍّ كبير؛ إذ أنسَتْهم رؤية
أودينا الخوف المُتضائل من الأسد.
سي! » صاحت .« سي» في لحظة ابتعدت أودينا عن العجوز المُنكمِشة رُعبًا، ولحقت ب
وحمَلت الطفلةَ بين ذراعيها عندما توقَّفت، ووضعت وجه الطفلة الذي علَّمت فيه «! سي
أظافر العجوز على وجهها، واستدارت لتَعدو نحو العرين؛ عرين الأسد العجوز. وقفَت
المرأة العجوز بين البوصوهو يصل إلى خصرها، ولفظت أشياءَ بغيضة، وصاحَت بغضبٍ
بكلمات غير مفهومة، لكنها لم تَجرُؤ على اعتراض طريقها، وعند مُنحنى الطريق نظرت
يأتي مُهروِلًا نحو « سيس » أودينا إلى الخلف، ورأت جميع رجال القبيلة يَتصايَحون، ورأت
مسار الأسد.
ركضت مباشرةً على طول الطريق الضيق عبر البوص إلى المكان الظليل حيث كان
أوج-لومي يَجلس بفخذه التي على وَشك الالتئام، وقد استيقَظ لتوِّه بسبب الصياح، وكان
بين ذراعَيها. كان قلبها يخفق بشدة، « سي» يفرك عينَيه. جاءت إليه أودينا والصغيرة
«! أوج-لومي، القبيلة قادمة » : وصاحت
في ذهول أحمق. « سي» جلس أوج-لومي يُحدِّق فيها هي و
بإحدى ذراعَيها، وحاولت أن تشرح له باستخدام مخزونها « سي» أشارَت وهي تحمل
الضعيف من الكلمات. كان باستطاعتها سماع الرجال يُنادون؛ من الواضح أنهم توقَّفوا
أرضًا، وأمسكت بالهراوة الجديدة المصنوعة باستخدام أسنان « سي» في الخارج. وضعت
الأسد، ووضعَتها في يد أوج-لومي، وركَضت ثلاث ياردات، وأمسكت بالفأس الأولى.
وهو يُلوِّح بالهراوة الجديدة، وفجأةً أدرك الوضع؛ فتدحرج «! آاه » : قال أوج-لومي
وبدأ يُناضِل حتى يقف على قدميه.
استطاع الوقوف، لكن على نحوٍ غير مُريح. أسند نفسه بإحدى يدَيه على الشجرة، ولم
يَسعْه إلا لمس الأرضبحذرٍ بإصبع قدمه المصابة، وفي اليد الأخرى أمسك الهراوة الجديدة.
نظر إلى فخذه المُلتئِمة؛ وفجأة بدأ البوص يتحرَّك مُصدرًا حفيفًا، وتوقَّف ثم تحرَّك مرةً
قادمًا بحذرٍ على طول الطريق عبر البوص، مُنحنيًا لأسفل ومُمسكًا « سيس » أخرى، ثم ظهر
في يديه عصا الطعن المصقولة في النار. تسمَّر في مكانه، والتقَت عيناه بعينَي أوج-لومي.
نسيأوج-لومي أن لدَيه رِجلًا مُصابة، ووقَف بثبات على قدمَيه؛ فسال منهشيء. نظر
إلى الأسفل فرأى كتلة صغيرة من الدماء تسرَّبت إلى خارج طرَف جرحه الملتئم. مسح يده
غمَرته الآن .« سيس » فيها حتى يُحكم قبضته على الهراوة، وثبَّت عينَيه مرةً أخرى على
الرُّوح القتالية بسُرعة وفجأة.
الذي كان ما يزال مُنحنيًا وحَذِرًا، عصاهُ ،« سيس » ووثَب إلى الأمام، ورفع «! فاو » : صاح
المخصَّصة للطعنسريعًا في اندفاع مروِّع. شقت العصا ذراع أوج-لومي التي يحتمي بها،
قط. سقط على الأرض، مثلما يَسقُط الثور « سيس » ونزلت عليه الهراوة على نحوٍ لم يفهمه
عندضربه بفأس، عند قدمَيْ أوج-لومي.
فقد كان لدَيه شعورٌ بالراحة لوجود أعواد البوصالطويلة ؛« بو » بدا هذا أغربشيء ل
آكِل » بينه وبين أيِّ خطر. كان ،« سيس » على كلا الجانبَين، ووجود حاجز منيع، مُتمثِّل في
خلفه في مكانٍ قريب، ولم يكن يوجد خطر هناك. كان مُستعدٍّا للتراجُع للخلف « الحلزون
للموت أو لتحقيق النصر. كان هذا هو مكانه بوصفِه الرجلَ الثاني. « سيس » وإرسال
يَطير بعيدًا عنه، وفجأةً جاءت الضَّربة « سيس » رأى النصل غير الحاد للرمح الذي يَحمله
الثقيلة وسقط الظَّهر العريضصريعًا إلى الأمام، ونظر إلى وجه أوج-لومي من وراء زعيمه
كأن قلبَه سقط إلى أسفل بئر. كان يَحمِل حجَر قذف في إحدى « بو » الذي طُرح أرضًا. شعر
يدَيه، وعصًا رَمادية مُخصَّصة للطعن في اليد الأخرى. لم يَعِش حتى نهاية تردُّده اللحظي
هذا لتحديد أيهما يستخدم.
« سيس » مثل « بو » أكثر استعدادًا، وإضافةً إلى هذا لم يَسقط « آكل الحلزون » كان
إلى الأمام، بل سقط عند ركبتَيه ووركَيه؛ فسقط متهالكًا، والهراوة المسنَّنة تشقُّ رأسه.
رمحه إلى الأمام بسرعة وعلى نحوٍ مستقيم، وضرب به عضلة كَتِف « آكل الحلزون » أخرج
أوج-لومي، ثم دفعه بشدة بحجر الضرب الذي يَحمله في يده الأخرى، وصاح بصوت مُرتفِع
وهو يفعل هذا. تحرَّكت الهراوة الجديدة عبر البوص دون هدف. رأت أودينا أوج-لومي
والرمح مغروس « سيس » يَرجع مترنِّحًا من المَمر الضيِّق إلى المساحة المفتوحة، مُتعثِّرًا في
الذي أطلقَت هي هذا الاسم عليه، ،« آكل الحلزون » في كتفه ويتدلى على ذراعه، ثم حصل
على آخر إصابة له منها، عندما خرَج وجهه المُتهلِّل من البوص عقب خروج رمحه؛ فقد
عند « سيس » سدَّدت إلى صدغهضربة قوية وسريعة بالفأس الأولى؛ فسقَطصريعًا فوق
قدمَي أوج-لومي.
لكن قبل أن يستطيع أوج-لومي الوقوف على قدمَيه، كان الرجلان ذوا الشعر الأحمر
يُسرِعان بالخروج مُتعثِّرَين من البوص، وهما مُستعدان برماحهما وحجارة الضرب،
مُندفعًا بقوة مِن ورائهما. ضَربت أحدَهما على عنقه، لكن الضربة لم « الثعبان » وخرج
تكن كافية لإسقاطه أرضًا؛ فترنَّح جانبًا، وأفسد ضربة أخيه على رأس أوج-لومي. وفي
لحظةٍ هوى أوج-لومي بهراوته على خصر مُهاجمه، وأسقطه جانبًا مُنبطِحًا. ثم أمسك
بهراوته مرةً أخرى، مُستعيدًا إياها. وجَّه الرجل الذيضربته أودينا رمحه تجاهها، وهو
يتعثَّر إثرضربتها؛ فتقهقَرت لا إراديٍّا لتتفاداه. تردَّد بينها وبين أوج-لومي، مُلتفتًا التفاتًا
غير مُكتمِل، وأصدرصرخة خافتة عندما رأى أوج-لومي قريبًا للغاية، وفي لحظةٍضربه
أوج-لومي في عنقه، وقضت الهراوة على ضحيتها الثالثة. وفي أثناء سقوطه أرضًا، صاح
أوج-لومي صيحة مُتهلِّلة، دون كلمات.
كان الرجل الآخر ذو الشعر الأحمر يَبعد عنها ست أقدام وكان ظهره موجَّهًا إليها،
وكان رأسه مخضَّبًا بلونٍ أكثر حُمرة من شعره. كان يُناضل ليقف على قدمَيه؛ فاندفعت
دون تفكير لتمنعه من النهوض. قذفته بالفأس، ولم تُصبه؛ فرأت جانب وجهه، كان
رُؤية عابرة « الثعبان » ويركض عبر البوص. رأت « سي» يَنحرف فجأة من وراء الصغيرة
وهو يقف في عنق الممر متحوِّلًا جزئيٍّا بعيدًا عنها، ثم رأت ظهره. رأت الهراوة تدور في
الهواء، ورأس أوج-لومي الأشعث، والدم يسيل عليه وعلى كتفه، تختفي تحت البوصعلى
يَصرخ مثل امرأة. « الثعبان » الفور، ثم سمعت
إلى حيث يظهر مِقبضالفأسمن كتلة من السَّرخس، والتفتَت « سي» ركضت مُتجاوزةً
لترى نفسها لاهثة وحدها بين ثلاث جُثث لا تتحرَّك، وكانت الأجواء ملأى بالصيحات
والصرخات. ظلت لفترة تَشعُر بالإعياء والدوار، ثم خطر في ذهنها أن أوج-لومي تعرَّض
للقتل في ممر البوص؛ فقفَزت صارخة صرخة تعجِز عن التعبير عما يَعتمل داخلها من
ممدَّدتين عبر الممر، ورأسه « الثعبان » وركضت وراءه. كانت قدما ،« بو » مشاعر فوق جثة
بين البوص. سارت في الممر حتى وصَلت إلى حيث يَنحني الممر ويَنفتِح على أشجار جار
الماء، ومن هناك رأت كلَّ مَن بقيَ من القبيلة في الِمنطقة المفتوحة، مُتناثِرين مثل أوراق
جلد » الشجر الميتة قبل هبوب العاصفة، عائدين إلى أعلى الهضْبة. كان أوج-لومي يُطارد
بشراسة. « القط
« فاو-هاو » كان سريعًا في العدْو وهرَب منه، وكذلك فعل الفتى « جلد القط » إلا أن
إلى ما وراء الهضْبة قبل أن يُقلِع « فاو-هاو » عندما التفَت أوج-لومي له، ولاحق أوج-لومي
عن ملاحقته. لقد كان غضب المعركة يُسيطِر عليه الآن، وكانت قطعة الخشب المغروزة
في كتفِه تُؤلمه مثل الرمح. عندما رأت أنه ليس في خطر، توقَّفت عن الركض، ووقَفت
تلهث، وتُشاهد الأجساد البعيدة النَّشِطة وهي تعدو إلى أعلى، وتَختفي واحدًا تلو الآخر
أعلى الهضْبة. بعد فترة قصيرة أصبحت وحدَها مرةً أخرى؛ فقد حدث كل شيء بسرعة
مباشرةً وبشكل ثابت من مكان المعيشة، « النار الشقيقة » بالغة. ارتفع الدخَان الصادر من
تمامًا كما حدث منذ عشردقائق، عندما وقَفت السيدة العجوز هناك تُمارِسطقوسعبادة
الأسد.
وبعد فترة طويلة، كما بدا الأمر، ظهر أوج-لومي مرةً أخرى على الهضْبة، وعاد إلى
أودينا، منتصرًا وهو يَلتقط أنفاسه بصعوبة. كانت واقفة وشعرها يُغطي عينيها، ووجهها
ساخن، وتَحمل الفأس الملطَّخة بالدماء في يدها، في المكان الذي قدَّمتها القبيلة فيه قُربانًا
عندما رآها، ووجهُه متأجِّج من رفقتها في المعركة، ولوَّح «! فاو » : للأسد. صاح أوج-لومي
بهراوته الجديدة، التي أصبحت حمراء اللون الآن ومُغطاة بالشعر. عندما رأت هذا الوجه
المتوهِّج استراحت بعضالشيء في وقفتها المُتوتِّرة، واختلطَت دموعها بضحكاتها.
شعر أوج-لومي بألم غريب مُفاجئ غير مفهوم عند رؤية دموعها، لكنه لم يفعل إلا
بصوتٍ أعلى، ولوَّح بفأسه شرقًا وغربًا. دعاها لأن تتبعه، واستدار عائدًا «! فاو » : أن صاح
إلى مكان المعيشة، يَمشيبخطوات واسعة وسريعة، والهراوة تَتأرجَح في يده، كما لو أنه لم
يَترك القبيلة قط؛ فتوقَّفت هي عن النحيب وتبعتْه كما ينبغي للمرأة أن تفعل.
هكذا عاد أوج-لومي وأودينا إلى مكان المعيشة الذي كانا قد هرَبا منه منذ عدة أيام
من وجه أويا، وعند مكان المعيشة كان ثمَّة غزال مُلقًى أكُل نصفه، تمامًا كما كان يَحدث
قبل أن يُصبح أوج-لومي رجلًا أو أودينا امرأة. وعليه جلس أوج-لومي ليَأكل، وجلسَت
أودينا بجواره كأنها رجل، وراقَبهما بقية أفراد القبيلة من أماكن اختباءٍ آمنة. وبعد فترة
في ذراعَيها، ونادت عليهما « سي» عادت إحدى الفتيات الأكبر سنٍّا مرعوبة تَحمل الصغيرة
أودينا بأسمائهما، ودعَتْهما إلى الطعام. إلا أن الفتاة الأكبر سنٍّا كانت خائفة ولم تأتِ،
كافحت حتى تأتيَ إلى أودينا. بعد هذا، عندما انتهى أوج-لومي من تناوُل « سي» رغم أن
الطعام، جلسيَغلبه النعاسحتى نام في النهاية، فخرَج الآخرون ببطء من أماكن اختبائهم
واقتربوا. وعندما استيقظ أوج-لومي، رغم أنه لم يرَ أي رجل، بدا كأنه لم يَترك القبيلة
قط.
الآن ثمَّة شيء غريب لكنه حقيقي؛ فطوال هذا العراك نسي أوج-لومي إصابة ساقه،
ولم يكن فيه عرَج، وبعدما حصل على الراحة، انظر! عاد رجلًا أعرج مرةً أخرى، وبقيَ
هكذا حتى نهاية حياته.
الذي كان يَقطع ،« فاو-هاو » والرجل الثاني ذو الشعر الأحمر و « جلد القط » هرب
الحجر الصوَّان بمهارة، كما كان يفعل والده من قبله، من وجه أوج-لومي، ولم يكن
أحدٌ يَعرف أين يختبئون. لكن بعد يومَين عادوا، واختبئوا بين السراخس تحت أشجار
الكَستَناء، بعيدًا بمسافة جيدة عن الهضْبة، وراقبوا. كان غضب أوج-لومي قد ذهب؛ فقد
تحرَّك ليَنقضَّعليهم لكنه لم يفعل، وعند غروب الشمس ذهبوا بعيدًا. عثَروا في هذا اليوم
أيضًا على السيدة العجوز بين السراخس؛ حيث عثَر عليها أوج-لومي عندما كان يُلاحق
كانت ميتةً، وأكثر بشاعة من أيِّ وقتٍ مضى، لكن جسمها كان كاملًا؛ فقد .« فاو-هاو »
تذوَّقت بناتُ آوى والنسور لحمَها وتركوها؛ كانت امرأةً عجيبة كما كانت دائمًا.
في اليوم التالي جاء الرجال الثلاثة مرةً أخرى واستقرُّوا في مكان أقرب، واصطاد
أرنبَين، بينما اصطاد الرجل ذو الشعر الأحمر حمامةً مطوَّقة، ووقفأوج-لومي « فاو-هاو »
أمام نسائهم وسخر منهم.
في اليوم التالي جلسوا في مكان أقرب، دون حجارة أو عِصي، ومعهم القرابين نفسها،
يَحمل سمكةَ سلمون مرقَّطة. كان من النادر في تلك الأيام أن يصطادَ « جلد القط » وكان
كان يقف ساكنًا في الماء لساعات ويَلتقطها بيده. وفي « جلد القط » البشر الأسماك، لكن
اليوم الرابع سمح أوج-لومي لهؤلاء الثلاثة بأن يأتوا إلى مكان المعيشة في سلام، بالطعام
الذي يَحملونه معهم، وأكل أوج-لومي سمك السلمون المرقَّط. منذ ذلك الحين، ومع تعاقُب
الشهور، كان أوج-لومي هو الزعيم، ويَفرض إرادته في سلام، وعندما حان الوقت قُتل
أوج-لومي أيضًا وافتُرِس تمامًا مثلما قُتل أويا