- عزيزي (بيتر)، لماذا لا تقتنع أنك... رجل ميت!
قالها (حاتم) وهو يخرج بعض الأوراق والصور الفوتوغرافية من مظروف كبير ويضعهم على الطاولة الصغيرة، ويمسك بواحدة تلو الأخرى حين كان يستكمل حديثه إلى (بيتر) قائلًا:
- هل يمكنك أن تنظر جيدًا إلى هذه الأوراق، هذه شهادة وفاتك، وتلك صورة ضوئية من محضر النيابة الخاص بالحادث الذي أودي بحياتك، وآسف لبشاعة المنظر، هذه هي الصور الفوتوغرافية لجثتك، ألم تتعرف إلى نفسك وجسدك الممزق إلى أشلاء!
لم يبد على (بيتر) أي علامات للدهشة، حين كانت تتسع ابتسامته وهو يجيب:
- حسنًا يا دكتور! أنا متفق معك تمامًا بأن ذلك الجسد الممزق إلى أشلاء هو جسدي، وبأن تلك الورقة هي شهادة وفاتي، أنا لا أختلف معك أبدًا في شيء من هذا، لكن عذرًا فكل ذلك لا يعني لي أبدًا أنني ميت الآن، ربما كان ذلك كله يعني فقط أنني قد تحررت من جسدي، كما يعني أنك لن تستطيع أبدًا، أن تقتل رجلًا ميتًا بالفعل!
قالها (بيتر) واتسعت ابتسامته وهو يشاهد علامات الدهشة والحيرة وهي ترتسم على وجه (حاتم).
***********************************
القاهرة في أكتوبر ٢٠٢١
جلس الدكتور/ (حاتم هارون) هادئًا كعادته، بهيئته الوقورة ومظهره الأنيق، يمسح زجاج نظارته الطبية ويعبث بخصلات شعره الأسود الذي تناثرت به بعض الشعيرات البيضاء، كان مظهره لا يوحي بعمره الحقيقي الذي كان يربو على الأربعين عامًا ببضع سنوات، كان يبدو أصغر من ذلك قليلًا، ربما كان السبب في ذلك جسده الرياضي الممشوق القوام ووسامته اللافتة للأنظار، كان جالسًا على مقعده المعتاد بالمقهى والمطعم السياحي الشهير الذي اعتاد على ارتياده بمنطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، حين كان ينظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى تمام التاسعة مساءً، بينما كان يقترب منه رجل في بداية العقد الرابع من عمره، نحيل بشكل واضح، قمحي اللون، أجعد الشعر قليلًا، مهندم الملابس، على الرغم من البساطة وعدم التكلف الواضح في مظهره وتصرفاته، كان يقترب منه وتعلو وجهه ابتسامة وهو يقول:
- في موعدي تمامًا على ما أعتقد.
- دائمًا في موعدك يا (يوسف)، مرحبًا بك يا صديقي.
- تقصد يا مريضي السابق.
- انتهى عهد المرض يا عزيزي، وعلى كل حال كلنا مرضى نفسيون، أما اليوم فمرحبًا بـ (يوسف) الصَديق، والصِديق.
قالها وهو يبتسم حينما كان (يوسف) يسحب المقعد المجاور له ويجلس عليه، بينما كان (حاتم) ينظر إليه، في الوقت الذي كان عقله يستعيد ذكرياته سريعًا مع (يوسف) ، ذلك المريض الذي حضر إليه يومًا في العيادة برفقة زوجته (أمل) وهو يعاني من تخبط شديد وهلاوس سمعية وبصرية حين كان يؤمن بأن هناك شيطانًا يطارده، ويتحكم في حياته بلعنة كانت قد حلت عليه جراء عهد كان قد قطعه له يومًا ما.
وتذكر كيف مر (يوسف) برحلة طويلة من الأوهام، وكيف آمن بأنه قد قطع عهدًا آخر مع كاهن محراب الأسرار! ذلك العهد الذي بموجبه أقسم على ألا يكذب أو يخون أو يُقدم على أي خطيئة كانت، وإلا كان جزاؤه أن تسلب منه الحياة التي منحت إليه، بعد أن مات غرقًا، ومنح حياة أخري! ولكنها مشروطة!
وتذكر كيف كانت رحلته وما استطاع أن يحققه باتباع مبادئ الحق والعدل والأخلاق التي أُجبر على ألا ينقضها أبدًا. وكيف تمكن بتطبيقها من تحقيق حلم أفلاطوني عمره ٢٥٠٠ عام!
لقد كان (يوسف) أحد المرضى الذين شكلوا تحديًا كبيرًا لـ (حاتم) الطبيب النفسي الشهير، وصاحب الأبحاث والجوائز العالمية في الطب النفسي غير التقليدي، والباحث عن الماورائيات والأمراض الخارجة عن المألوف دائمًا.
وتذكر أخيرًا كيف سارت وانتهت رحلتهم سويًّا بعدما استطاع (حاتم) أن يكشف كل أسرار اللعبة الكبيرة والوهم الذي عاش فيه (يوسف) سنوات طويلة من عمره.
تذكر أنه على الرغم من الوهم الكبير الذي عاش فيه، كان الأمر بمثابة طوق نجاة وبارقة أمل عظيمة مكنته من تحقيق كل ما طمح إليه وسعى لامتلاكه.
حتى أصبح الآن (يوسف) رجل الأعمال الشهير والمليونير الشاب، مالك شركة ومزرعة (كاليبوس)، والتي كانت قد أصبحت بطريقة ما تجسيدًا للمدينة الفاضلة.
كما أصبح (يوسف) أيضًا بجانب أعماله وشركاته، الكاتب الروائي الشهير.
مؤلف رواية (كاليبوس) التي أصبحت في وقت قصير مُلهمة للشباب والقانطين واليائسين في إمكانية تحقيق أحلامهم وتغيير واقعهم، والرقي بأخلاقهم وتعاملاتهم.
والأهم من كل ذلك أنه قد أصبح صديقه الوحيد.
كان ذلك هو أهم مكسب حصل عليه (حاتم) قط، فقبل ذلك كان يمضي أغلب أوقاته في العمل أو في القراءة، حتى زوجته (فريدة) كانت تدرك أنه يعيش في عالم آخر، غارق في دراساته وأبحاثه وحالات مرضاه، لا يمتلك من الهوايات سوى القراءة والمطالعة والدراسة، يغرق فيها لساعات طويلة دون أن يشعر بأي شيء حوله، ربما كانت الوحيدة التي تخرجه من ذلك العالم للحظات هي ابنته الصغيرة (نجاة)، حتى وجد (يوسف) وتلاقت أفكارهما واهتماماتهما وهواياتهما سويًّا، ووجد به الصديق الذي كان يتمني أن يحصل عليه، يجالسه لساعات دون ملل يقضونها في مناقشات أدبية وعلمية، كان (يوسف) هو الآخر قارئًا نهمًا لا يمل، وكاتبًا روائيًّا متمكنًا من أدواته، ومفكرًا فيلسوفًا.
كان الاثنان نموذجًا للصداقة الحقيقية المتكافئة، والتي اتسعت لتشمل صداقة عائلية، فقد كانت أحوال العائلتين متشابهة إلى حد بعيد، في الثقافة والحالة الاجتماعية، وفي تقارب الأماكن التي يقطنون بها، كانت لكل عائلة منزل في الحي ذاته بالقاهرة الجديدة، حتى أبناؤهم كانوا يرتادون المدرسة ذاتها.
(يوسف) وزوجته (أمل) وابنهم الصغير (فضل) الذي كان في نفس عمر ابنة (حاتم) الصغيرة (نجاة)، كانا يستقبلان عامهما الرابع، وكم كانت سعادته حين جمعت الصداقة بين زوجتيهم (فريدة) و(أمل)، فقد وجدت (فريدة) هي الأخرى صديقة كانت تتمناها.
أخرجه من ذكرياته صوت (يوسف) وهو يحدثه.
- (حاتم)! أين ذهبت بعقلك يا صديقي؟
ضحك (حاتم) وهو يرد على (يوسف) قائلًا:
- لقد عدت عدة سنوات بالفعل كنت أفكر في (كاليبوس)!
- أي (كاليبوس) تقصد، المزرعة أم الشركة أم المدينة الفاضلة أم الرواية؟
- أقصد الرواية التي تحولت إلى حقيقة، وصنعت كل ما ذكرت، أتتذكر.
- بالتأكيد، لكنك مخطئ، ربما تقصد الحقيقة، التي تحولت إلى رواية!
- فعلًا، أنت على حق، في الحقيقة إنه أمر مربك جدًّا، ربما حتى الآن وبعد أن حللت اللغز بنفسي لم يزل يربكني.
- حسنًا، فلنترك ارتباكك جانبًا، ونطلب القهوة إذا سمحت، لم أعهدك بخيلًا من قبل.
ضحك (حاتم) وهو يردف قائلًا:
- هل تعتقد أنني لم أطلبها مسبقًا، كنت أعلم أنك ستأتي في الموعد.
بينما (حاتم) ينهي كلمته، إذ وصل إليهم النادل وهو يحمل كوبي القهوة ويضعهما أمامهما حين كان (يوسف) يردف قائلًا:
- حسنًا! تلك هي القهوة، لم يتبقَ سوى أن يقوموا بتشغيل أغنيات فيروز حتى يكتمل المناخ اللازم لتلك المناقشة الأدبية التي نحن بصددها.
لم يكد (يوسف) يكمل كلماته حتى تعالى صوت فيروز وهي تنشد أغنية (أعطني الناي) فانفجر الاثنان ضحكًا.
جلسا قرابة الثلاث ساعات، وهما غارقان في مناقشات عديدة، حتى رن هاتف (حاتم)، فالتقطه من على الطاولة وهو يقول لـ (يوسف) مازحًا.
- يبدو أن (فريدة) لا تهتم كثيرًا بالأدب الروائي يا صديقي، فالعشاء على الأغلب أكثر أهمية.
أجابه (يوسف) مازحًا:
- احترس يا صديقي، فأنا لا أعرفك ولم أرك اليوم من الأساس.
- يا لك من صديق خائن! لم أكن أعرف عنك هذه النذالة.
قالها وهو يضحك حين كان يضغط على زر الرد، ويجيب على زوجته التي كعادتهم كانت تستشيط غيظًا، وهي تنتظره بعد يوم عمل طويل وجلسة مع صديقه طالت حتى اقتربت من منتصف الليل، كان (حاتم) كالعادة يحاول أن يمتص غضبها بكلمات مازحة تارة ولطيفة تارة أخرى، حتى أنهى حديثه معها وهو يخبرها أنه سيعود حالًا إلى البيت وعليها أن تجهز العشاء، فما هي سوى دقائق وتجده أمامها.
أنهى حديثه معها وهو ينظر إلى (يوسف) قائلًا:
- إنه حكم القوي كما تعلم، وعليك أن تدفع ثمن القهوة جزاءً لك على تأخيري.
ضحك (يوسف) وهو يجيبه:
- كُلنا هذا الرجل يا صديقي، لا تخف سأظل أعتبر أنك (سبع البرمبة)، وكأنني لم أستمع لهذه المكالمة، لكنني سأنتظر سماع رأيك على أحر من الجمر.
- حسنًا! أعدك بذلك، فور انتهائي من قراءتها.
قالها (حاتم) وهو يلتقط الرواية التي كانت موضوعة على الطاولة أمامه والذي أهداه إياها (يوسف) للتو وانصرف سريعًا.
دلف إلى سيارته وأدار محركها وذهب في طريقه إلى بيته الذي لا يبتعد كثيرًا عن موقع المطعم الذي كانا جالسَيْنِ به.
وفي الطريق إلى البيت جال بخاطره ذكريات أخرى تمامًا مرت عليها فترة طويلة، لكنها ربما كانت بداية القصة التي تعصف بذهنه في تلك اللحظة تحديدًا.
تذكر كيف بدأت قصة (عبد الحميد)، ذلك الشاب الذي يمتلك قصة أغرب من الخيال.
لم يكن قد مر من الوقت أكثر من عشر دقائق حينما أصاب (حاتم) الدهشة حين وجد نفسه أمام البناية التي يقطن بها، وهو يبحث عن مكان مناسب لسيارته، لقد أدرك أنه قاد سيارته وسط الطرقات بطريقة لا إرادية حين كان عقله سارحًا في استعادة ذكريات مر عليها سنوات طويلة.
اتسعت ابتسامته وهو يتذكر ما كان قد أَخْبَرَ به (فريدة) منذ سنوات عن احتمال تعرضه هو شخصيًّا لغياب الوعي حين يستضيف جسده وعيًا آخر، إن كانت فرضيته صحيحة.
كان يُحَدِّثُ نفسه وهو يقول:
- حسنًا يا (حاتم)! قطعت شارع التسعين الجنوبي بأكمله وانعطفت يسارًا ثم يمينًا مرتين، ودرت حول ميدان كبير قبل أن تصل إلى هنا، وأنت لا تتذكر فلتقنع نفسك بأنك كنت سارحًا في أفكارك أفضل من الدخول في تحليل نفسي بعد منتصف الليل.
أطلق ضحكة ساخرة، وهو يفتح باب السيارة ويترجل منها، ويدلف إلى بوابة البناية نحو المصعد ويضغط على زر استدعائه وتتسع ابتسامته.