karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

لعدة دقائق وقف (حاتم) أمام المكتبة المكتظة بالكتب بغرفة مكتبة ينتقي أحد الكتب الطبية التي تتحدث عن اضطراب الهوية التفارقي، كان بالفعل يحفظ كل كلمة منه عن ظهر قلب، لكنه ربما أراد أن يعيد قراءته من جديد لعله يجد به ما يخلصه من تلك الحيرة التي ألمت به، بحث عن الكتاب كثيرًا حتى وجده أخيرًا، وقف لحظات ينظر إليه، ثم ما لبث أن أشاح بوجهه عنه ووضعه ثانية في مكانه، والتقط كتابًا آخر يحمل اسم (أشهر 50 خرافة في علم النفس) لأستاذ الطب النفسي الشهير (جون روشيو).
حمله في يده وعاد إلى مقعده الجلدي الفاخر الذي اعتاد الجلوس عليه بركن من أركان المكتب، بعد أن أدار أسطوانة للموسيقي الهادئة التي يفضلها، أشعل لفافة من التبغ، وفتح دفتي الكتاب، كان ربما يحفظ صفحاته عن ظهر قلب أيضًا، لم ينظر إلى فهرس الكتاب من الأساس، لكنه قلب أوراقه سريعًا حتى الصفحة 157، وشرع في قراءة الفصل الذي كان يحمل عنوان (تبدل حالات الوعي).
كان الفصل يبدأ بالخرافة رقم 19 لكنه نظر إلى الصفحات سريعًا بقراءة تصويرية، وكأنه يستعيد تنشيط ذاكرته عمّا يعرفه جيدًا عن بعض الحالات الغريبة عن التنويم المغناطيسي وعالم الأحلام والإسقاط النجمي، ولكنه سرعان ما قلب الأوراق ثانية حتى الصفحة رقم 170 والخرافة رقم 22، والتي كانت تتحدث تحديدًا عن خروج الوعي من الجسد، أسند ظهره إلى المقعد وبدأ في القراءة بتمعن، بينما كان يتحدث بصوت خافت وهو يوجه كلامه للكتاب الذي بيديه ويقول:
- من يعلم يا دكتور جون، ربما كنت على حق، وربما دحضت نظريتي خرافاتك النفسية في يوم ما.
قالها واستغرق في القراءة لعدة دقائق قبل أن يقطع استرساله صوت رنين هاتفه المحمول، نظر إلى شاشة الهاتف، ليقرأ اسم (عبد الحميد)، ضغط على زر الرد وهو يحدث نفسه: "يا لها من صدفة غريبة"!
- آلو.
- السلام عليكم أخي العزيز، هل هذا رقم الطبيب (حاتم).
- بالطبع يا (عبد الحميد)، هل تمازحني؟
- لا، لقد وجدت هذا الرقم بالفعل مسجلًا على ذاكرة الهاتف يا سيدي الطبيب، لكنني لست (عبد الحميد).
- من المتحدث إذًا.
- أنا (تيم) يا سيدي، (تيم برهان)، لقد تشرفت بمعرفتك لمرة وحيدة من قبل على ما أذكر، بالتأكيد تعلم جيدًا من أنا، وماذا أكون، على كل حال لقد وجدت بضعة أوراق مثبتة في عدة أماكن في الغرفة، كلها تحمل رقمك واسمك، وتطلب مني أن أتصل بك في الحال، لا أفهم من وضعها أو لماذا، لكن ها أنا ذا أنفذ التعليمات، فلماذا تريدني أن أتصل بك إذا سمحت.
- حسنًا، في البداية مرحبًا بك يا أخ (تيم)، أنا الدكتور (حاتم)، الطبيب المعالج لـ (عبد الحميد) كما تعرف، وقد طلبت منه كتابة تلك الأوراق وتثبيتها في الغرفة حتى تجدها أنت أو يجدها (بيتر)، أيًّا كان من يستيقظ وعيه منكما أولًا.
- ومن يكون هذا الـ (بيتر)؟
- لا تشغل نفسك بالأمر، الأهم هو أنني أريدك أن تأتي إليَّ في الحال إذا سمحت.
- عذرًا أيها الطبيب، لماذا آتي إليك؟ لكي تحاول قتلي مجددًا، أليس كذلك؟
- لا يا عزيزي، لن أكذب عليك، لقد كنت أحاول من قبل أن أفعل هذا، لكن ليس بذلك المسمى بالطبع، لنقل أنني كنت أحاول أن أمنحك السلام، ولن أخفي عليك هذا، لكنني عدلت عن ذلك، أنا هنا الآن لمساعدتك، قد لا تصدقني، لكنني أخبرك فقط أن ذلك الوضع الذي أنت عليه هو بالتأكيد ليس طبيعيًّا، ومن الأفضل أن نحاول سويًّا فهم كيف حدث، على أن ندفن رؤوسنا في الرمال، أنت لن تستطيع أن تفعل شيئًا دون مساعدتي، لنكن صادقين مع أنفسنا، أنت لا تملك التحكم في ذلك الجسد بصورة كاملة، ولا تملك البقاء واعيًا لكي تكمل أي أمر تريده، كما إننا لا نعلم ما الذي دفع بوعيك إلى التجسد من جديد، ربما كنت ترفض الموت لسبب ما، ولن يساعدك في تحقيقه غيري، وإلا ظللت حبيسًا داخل ذلك الجسد دون القدرة على الحياة أو الموت، وحتي لن يصدقك أحد دون مساعدتي، لذلك فمن فضلك تعامل معي باعتباري صديقك فأنا لست عدوك، كما لا أعتقد أنك تظن أنني أستطيع أن أقتل شخصًا ميتًا بالفعل.
- لا أعرف كيف أجيبك، ولكن فليكن، كما قلت ليس لدي الكثير لأخسره، كيف يمكنني أن آتي إليك، أنا لا أعرف شيئًا عن شوارع القاهرة، وخاصة في الليل.
- سأملي عليك عنوان عيادتي، رجاءً دونه في ورقة وأعطها لسائق سيارة من سيارات الأجرة وهو سيتكفل بإيصالك إليّ.
- حسنًا! سأحضر ورقة وقلمًا.
انتهى (حاتم) من تلقين (تيم) بالعنوان تفصيليًّا، ودونه الأخير على ورقة كما طلب منه (حاتم) وأنهى المكالمة وهو يقول:
- حسنًا سيدي الطبيب، كما تقولون في مصر (مسافة السكة أكون عندك).
مرت قرابة النصف ساعة قضاها (حاتم) في تدوين بعض الملاحظات عن الحالة في مفكرته الصغيرة، وتحديد الأسئلة المهمة التي يريد معرفة إجاباتها من (تيم)، حتى يتمكن من إدارة الجلسة بطريقة صحيح، حتى سمع طرقات على باب المكتب، أَذِنَ للطارق أن يدخل فدلف إلى المكتب (مصطفى)، الشاب الذي يعمل بالعيادة مرتبكًا بعض الشيء وهو يقول:
- يا دكتور، الأستاذ (عبد الحميد) يريد الدخول لك، ولكنه يتحدث بلهجة غريبة.
ابتسم (حاتم) من مظهره وهو يقول:
- حسنًا يا (مصطفى)، أدخله، ولا تشغل بالك.
خرج (مصطفى)، وهو يضرب كفيه ببعضهم ويهز كتفيه ببلاهة، ويشير إلى (عبد الحميد) بالدخول، دخل (عبد الحميد) أو(تيم) الغرفة، فأشار إليه (حاتم) بالجلوس على الأريكة الجلدية بعد أن صافحه بحرارة.
- أهلًا بك يا أخ (تيم).
- مرحبًا يا سيدي الطبيب.
- إن كنت لا تمانع، فلنبدأ حديثنا مباشرة عنك، ما أعرفه عنك هو أنك السيد (تيم برهان)، وأنك من منطقة البجعة بضواحي مدينة السويداء بسوريا، وأن ديانتك هي الدرزية.
- بالله عليك، أنت تهينني يا سيدي الطبيب بهذا الشكل.
- ماذا تقول؟! كيف أهينك بأن أسرد لك ما أعرفه عنك من مجرد بيانات أساسية.
- ليس هناك دين اسمه درزي يا سيدي، أنت تصمني بنوع من الإلحاد أو الكفر مثلما يفعل الجميع، أنتم لا تعلمون شيئًا عما نعانيه طوال قرون بسبب ذلك الوصم المجحف، والعنصرية البغيضة.
- عُذرًا يا أخي، أنا لا أعلم عم تتحدث، كل ما أعرفه أنك من الدروز، هكذا أخبرني صديق سوري عنك.
- لا يشكل ذلك فارقًا أيها الطبيب، كونه سوريًّا أو من أي جنسية أخرى، نحن نعاني في كل مكان من هذا الفهم الخاطئ.
- إذًا بِمَ تحب أن أسمي طائفتك؟
- بالتوحيديين يا سيدي الطبيب، اسمنا التوحيديون، ونحن مثلك تمامًا مسلمون، ندين بالإسلام نحن إحدى طوائفه المتعددة، لسنا كفرة أو ملحدين.
- حسنًا يا (تيم)، أعلم الكثير عن المذهب التوحيدي، وربما أتفق معك أنكم لستم كفرة أو ملحدين، لكنني لا أعتقد أنكم مثلنا تمامًا كما تقول يا (تيم)، وإلا ما كانت لكم تسمية منفصلة كما تقول، وإلا فلماذا تسمون أنفسكم توحيديين. ألم يكفِكم أن تقولوا مسلمين؟
- نحن نؤمن بالله يا سيدي، وبرسوله، وبكل الرسل والصالحون والأئمة الحدود الذين نتبع هداهم قدس الله سرهم أجمعين، وكتابنا هو القرآن الكريم، ونصلي ونتكافل وندعو إلى الأخلاق الحميدة، نحرم الخمر والميسر وكل الكبائر، ونعيش في سلام مع كل بني البشر، لا ندخل في صراعات مع أحد، بل نعاني أشد العذاب من كل الطوائف، تسبى نساؤنا ويقتل رجالنا وصبيتنا، ويفتك بنا من كل جيراننا.
- مهلًا يا أخ (تيم)، لقد قرأت منذ سنوات بالصدفة البحتة كتاب عن قصة حياة السيد (كمال جنبلاط)، أظنك تعرفه جيدًا.
- بالتأكيد، قدس الله سره!
- حسنًا، هذه العبارة وحدها تظهر اختلافنا، ولكن ليكن، لقد قرأت عن ثقافة الدروز أو التوحيديين كما تحب أن أطلق عليهم، لقد كنت في الأساس أقرأ عن الرجل السياسي المحنك (كمال جنبلاط) إلا إنني وجدته بجانب كونه سياسيًّا، أحد أكبر الدعاة إلى المذهب التوحيدي، مما قادني إلى الاهتمام بذلك المذهب والبحث عن أي مرجع يتحدث عنه، إلا إنني وبصعوبة شديدة عثرت على كتاب يدعى (كشف الستار) بجزئية للباحث نسيب أسعد الأسعد، والصادر عن دار نشر رسلان السورية، لذلك فأنا متفق معك فيما رويته عن أسس ومبادئ معتقدك، لكنك لم تذكر أنها فرقة من الطائفة الإسماعيلية الشيعية، انسلخت منها، وتبدلت عقيدتها وتداخلت مع العديد من المفاهيم الأخرى والثقافات المختلفة والفلسفة الإغريقية والهندية والمسيحية واليهودية، لم تذكر أن مذهبك هو خليط من ثقافات ورؤًى فلسفية متباينة، لم تذكر أنكم لا تستقبلون قبلتنا بل أنكم تصلون أربع صلوات في غير أوقات صلاتنا، اثنتان في الصباح واثنتان في المساء، وهي صلاة مختلفة تقومون فيها بترديد بعض الأدعية فقط، دون ركوع أو سجود، كما تؤمنون ببعض المعتقدات الشاذة عنا، كما تؤمنون بألوهية الحاكم وبعودة مهدي، وإمام منتظر هو الحاكم بأمر الله، ثالث الخلفاء الفاطميين في مصر الفاطمية الشيعية، بل وتؤمنون بتناسخ الأرواح!
- اسمه التقمص يا سيدي وليس التناسخ، كما أن سيدي الحاكم بأمر الله سلام الله عليه هو الإمام الأكبر والمجدد وصاحب الدعوة الأولى للتوحيد، عاش منذ ألف عام وبضعة سنوات، ثم لم يمت بل ذهب في غيبة أبدية ليرجع في آخر الزمان، مثله مثل بعض أئمة الإسماعيلية؛ لأن مولاي الحاكم هو الإمام الإسماعيلي الأول، بينما غاب من قبله إمام الشيعة الاثني عشرية سيدي محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر الذي تنتظره الاثني عشرية أيضًا، كما أننا لا ندع الحاكم بأمر الله إلهًا يا سيدي، تلك فرية افتروها علينا، وإنما لفظ الحاكم في شريعتنا هو اسم من أسماء الله، لذلك التبس عليهم الفهم.
- ألا ترى، أن كل ذلك لا يجعل منك مسلمًا مثلنا كما تقول، ألا ترى حجم الاختلاف يا (تيم).
- حسنًا يا سيدي الطبيب، لم أقل أننا متطابقان، ولكن إن سمحت لي، ألا ترى دليلًا عمليًّا على صحة عقيدتي بين يديك الآن؟
- وماذا يكون ذلك الدليل؟
- التقمص يا سيدي، الذي أؤمن به، أو ما تسميه أنت تناسخ الأرواح، ألا تجد نفسك تتحدث إلى روح متقمصة الآن، ألا تجد نفسك الآن بحاجة إلى قبول مذهب التوحيد والإيمان به؟
- أنت تجعل الأمر شخصيًّا يا (تيم)، ولم أكن أرغب بذلك، لكنني لم أعتد على ترك مناقشة من قبل، فليكن ما أردت، ولكن لسوء حظك فأنا قارئ نهم ومهتم كثيرًا بالفلسفة وعلم النفس البشرية على مر العصور، لذلك ستجد النقاش معي عسيرًا جدًّا، لكنني على كل حال أعتقد أنه لا بد منه، لا محالة حتى تقتنع بمشكلتك الحقيقية ولا تفسرها بطريقة خاطئة مما يجعل العلاج مستحيلًا، أنا مستعد لتلك المناظرة، فقط أخبرني عمّا تدعوه تقمصًا ترى أنك تعيش خلاله الآن.
- التقمص يا سيدي هو ذلك الانتقال إلى الروح من وعاء الجسد الفاني إلى وعاء جديد، نحن نؤمن بذلك، بأن الإنسان يموت جسده وتتحرر منه الروح لتعود وتولد من جديد في جسد آخر، كذلك رأى سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس (عليهم السلام)! ومن قبلهم قال ذلك الفيلسوف العظيم المُعلم فيثاغورس، الذي استطاع أن يصف لمحات من حياته السابقة، وأمكنه التعرف إلى درعه، الذي كان يمتلكه حين كان جنديًّا في جيش طروادة في الملحمة الإغريقية العظيمة؛ حيث كان يدعى في حياته السابقة باسم (يوفوربوس)، نحن ندعو ذلك (بالنطق): أي أن يستطيع الإنسان أن يتذكر لمحات من حياته السابقة وينطق بها، وعلى ذلك أمثلة عديدة مسجلة عبر التاريخ، تجدها في كتب الطب النفسي التي تعرفها بالتأكيد لأشخاص استطاعوا أن يصفوا مواقف وأشخاص وأماكن تبعد عنهم آلاف الأميال لم يذهبوا إليها من قبل، نحن نطلق على ذلك مصطلح (اللاهوت والناسوت) لوصف الطبيعة النورانية والطبيعة البشرية للبشر، وذلك أشبه بوصف أفلاطون للطبيعة المثالية والطبيعة الحسية للأمور، كما ستجد العديد من ثقافة خروج الروح من الجسد في الصوفية وفي البوذية وعند المصريين القدماء، وحتى في القرآن ستجد نفس المعني في (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة: ٢٨]
- حسنًا، هل فرغت من الشرح، دعني أوضح لك بعض الأمور، أنت تحدثني عن طبيعة الروح والجسد، كما تؤمن في معتقدك، لكن هل يا ترى اطلعت على ما دون عن ذلك في كل الثقافات والأديان التاريخية على مر العصور، أنت تخبرني الآن أن ما بعقيدة الموحدين من تقمص للروح بالأجساد مدعوم برؤى فلسفية ومشاهدات عديدة، أستطيع أن أخبرك بأكثر مما تقول عن تلك المشاهدات، لكنها لا تعود إلى الروح كما تعتقد، ذلك المفهوم بدائي جدًا، مكتسب من عدة ثقافات قديمة، ولكن (يسألونك عن الروح، قل هي من أمر ربي)، الروح يا سيد (تيم)، لا تملك ذلك الإدراك والوعي الذي تحدثني من خلاله، لا تملك ذكريات عن الماضي، إنما هي كائن لطيف يمنح الأجساد حياة، بينما يخبرنا القرآن الذي تؤمن به أن النفس هي من تملك ذلك الإدراك، هي اللوامة وهي المطمئنة، وهي التي قد أفلح من زكاها وخاب من دساها.
- ولماذا تفصل الروح والنفس عن بعضهم؟
- لأنهما كذلك، أنت من تخطئ حينما لا تدرك الفارق بينهم، وإلا أخبرني، أنت تتحدث إليّ الآن من جسد حي، يملك روح (عبد الحميد)، ووعيه، بل ووعي آخر غيرك، فكم من الأرواح يمنحه الحياة إن كان كلامك صحيحًا؟
- ذلك أمر غيبي يا سيدي لا نستطيع إدراكه.
- حسنًا جدًّا، إذًا كيف بالله عليك تؤمن بأنك تدرك الحقيقة الكاملة بعقيدتك، وتصفها لي، أنت يا سيد (تيم) تناقض الحقيقة، وتتقول على الله وتفرض عليه ما فسره أئمة التوحيديين، كما أن تفسير كلمات الفلاسفة لا ينبغي أن يؤمن به الناس بعدِّه دينًا من عند الله، فأنت قد اجتزأت من الفلسفة ما تريد وتركت تطور الفكر الفلسفي عبر التاريخ كله ونبذته، أنت آمنت بكلمات سقراط وأرسطوطاليس وأهملت ما بُني عليه من فلاسفة معاصرين من أمثال ديكارت ونيتشه وحتى د/ مصطفي محمود في فهم طبيعة الروح والجسد، الفلسفة مثلها ككل العلوم تتطور وتنضج من إضافات الفلاسفة على مر العصور، كل العلوم على وجه الأرض لها طبيعة تراكمية يا أخ (تيم)، لا يصح أن تستقي منها بدايات تدوينها وتهمل النهايات التي أضافت لها الكثير من الفهم الصحيح، كما أن قصة حرب طروادة هي على الأغلب أسطورة يا صديقي تم ذكرها في كتاب الإلياذة مصحوبًا بالعديد من الهرطقات عن صراع الآلهة الإغريقية بجبال الأوليمب، كما أنني بصفتي طبيبًا نفسيًّا يجب أن أخبرك أن العديد من حالات (النطق) كما تسميها، أو تحدث شخصًا عن ذكريات لم يعشها من قبل إنما هي ظاهرة طبية معروفة باسم (الديجافو)، وموثقة في العديد من المراجع الطبية وتتم دراستها، ليست كما تظن تمامًا، كما أن ما أخبرتني به من فلسفة عقيدتك هي في الحقيقة خليط من ثقافات أديان عديدة، من الهندوسية والبوذية والزرادشتية والمصرية القديمة، مرورًا بخلط مفهوم اللاهوت والناسوت في المسيحية والمسايا المخلص أو الملك المنتظر في اليهودية وتحريف تفسير آية من القرآن الكريم لكي توافق ما تعتقدون، بينما الآية تتحدث عن الحياة بنفح الروح في جسد كان بلا حياة من قبل، ذلك ما تعنية الآية بلفظ كنتم أمواتًا فأحياكم، ويميتكم بعد نهاية الحياة، ثم يعود ليحييكم من جديد يوم الحساب، يا أخي كم عانينا من ويلات تفسير الكتب المقدسة طبقًا للأهواء.
- عذرًا، لكنني لا أعتقد أنني سأقتنع بما تقول يا سيدي الطبيب.
- لا أطلب منك أن تقتنع يا (تيم)، لا أحد يؤمن أو يتخلى عن دينه لمجرد مناقشة أو مناظرة، الدين محله القلب، ولا يحل بالقلب سوي بإعمال العقل والتدبر والفهم دون إكراه، القرآن نفسه يا (تيم) هو الذي تمتلئ آياته بعبارة (أفلا تعقلون) ألا تؤمن بالقرآن كما تخبرني، ألا تعلم أن هناك قاعدة راسخة بديننا أن لا إكراه في الدين، كما لا ضير من النقاش طالما لا يكفر أحدنا الآخر، ولا يحمل أحدنا السلاح في وجه الآخر، ذلك هو مربط الفرس.
- كم نفتقد رأيًا مثل رأيك هذا يا سيدي، نحن من أكثر الأقوام على وجه الأرض معاناة وقتلًا وتنكيلًا، على الرغم من إنه كما ذكرت أقوامًا آخرين، يعيشون بسلام، الهنود يمتلكون ثلاثة آلاف ويزيد من الطوائف الدينية، وآلاف الآلهة المزعومة، والهندوس يا سيدي يقدسون الأبقار، يعبدون إله العطاء والوفرة والكرم في هيئة بقرة، والبوذيون والزرادشة، حتى في الأديان السماوية تعيش طوائف اليهود وطوائف المسيحيين، وطوائف المسلمون في سلام دون صراعات عدا القليل من الحوادث الفردية، إلا طائفتنا يا سيدي، وكأنها لعنة علينا لا نستطيع الخلاص منها.
- لا أريد التطرق إلى ذلك الأمر يا (تيم)، بكل أسف إن الصراعات الدينية في العالم تغلب عليها الصراعات السياسية والعرقية، وما يتعلق بالأرض والحدود بين الدول، ومن يقرأ التاريخ جيدًا يستطيع أن يرى أصابع الدول الاستعمارية وهي تعبث بمقدرات الشعوب في منطقتنا على مر التاريخ، كذلك وجود الكيان الصهيوني الآن وهو متداخل مع حدود تواجد الدروز في المنطقة، وانخراط العديد من بني طائفتك في ذلك الكيان، بل وانضمامهم إلى الجيش الإسرائيلي.
- في كل أمة ستجد من يبيع القضية يا سيدي، ليس ذلك من ثقافة شعب الدروز ولا من عقيدة الموحدين، في كل دين ملتزمون ومستهترون وعامة.
- حسنًا، قلت لك لا أرغب في الخوض في ذلك الأمر الآن، دعنا نعود إلى حالتك ونحاول فهم الأمور جيدًا، أخبرني كيف حدث ذلك، هل تتذكر شيئًا عن الحادث الذي أودي بحياتك؟

تململ (تيم) في جلسته، وأغمض عينيه وعاد بجسده للخلف قاطبًا حاجبيه، وغاب في صمت مطبق لدقائق، كان خلالها (حاتم) يراقب الانفعالات التي ترتسم على وجهه من الحزن والخوف والرهبة، حتى بدء جسده بالارتعاش وهو يفتح عينيه، وينفجر بالبكاء ويبدأ في التحدث بكلمات مضطربة وصوت مرتعش:
- لا، لا أريد أن أتذكر أبدًا، لقد كان أمرًا بشعًا، ظلم ووحشية أولئك لم يكونوا بشرًا أبدًا لقد كانوا شياطين!
- اهدأ يا (تيم)، أيًّا ما كان، فقد حدث لك، لقد انتهى منذ شهور طويلة، لكنك من يعاني منه الآن، لا بد أن تخبرني حتى أستطيع مساعدتك.
- أمي، أبي، أخي الصغير، وأختي.
- ماذا حدث لهم؟
- لقد هجموا علينا ونحن عزل، في منزلنا بعد أن أبادوا قريتنا.
- من هؤلاء؟
- أولئك الذين يدعون أنهم جنود دولة الخلافة، جنود داعش!
- وماذا حدث؟
- لقد كانوا يعاملوننا كأننا لسنا بشرًا مثلهم، كانوا يتلذذون بقتلنا والتنكيل بنا، كانوا يصفوننا بالكفرة الملاحدة ويستبيحون دماءنا كأننا بعير، لقد هجموا على قريتي وقتلوا كل رجالها بدم بارد، وبأبشع الطرق، لقد شاهدت قتل أبي وأخي وأمي، بينما اقتادوا أختي عنوة لتصبح جارية، بعد أن اغتصــ... لا لا أستطيع بالله عليك، دعني وشأني.
- حسنًا! فهمت ما تود قوله، وأنا آسف لذلك جدًّا، فقط أخبرني عنك أنت، هل قتلوك مثل بقية عائلتك.
- هببت لأحاول الدفاع عن أختي، وأنا أصرخ، أمسكوا بي، وقيدوني حتى فرغوا ممّا فعلوه بها، أمام عيني، ثم... ثم قتلوني ذبحًا كالخراف.
- يا الله! هل هؤلاء بشر مثلنا، هل ما يفعلون يمت لديننا بصلة، إنهم حقًّا أشبه بالشياطين، حسنًا يا (تيم)، آسف لتذكيري لك بهذه الأحداث المؤسفة.
- أنا مجهد جدًّا يا سيدي، أشعر أنني أذهب إلى مكان بعيد، لا أشعر بذلك الجسد، كأنني أصبحت مشلولًا لا أسيطر عليه...
- أنتظر قاوم للحظات فقط أخبرني، فِيمَ كنت تفكر وقت أن قتلت؟
- لقد تركت زوجتي تحمل في أحشائها جنينًا، لحسن الحظ أنها استطاعت الهرب ولكن إلى أين وإلى متى، كل ما أتمناه هو الأمان لابني الذي سيولد، الأمان... السـ ســ السلام، لماذا لا نستطيع أن نحيا بسلام؟
نطق (تيم) بآخر كلماته، وغاب عن الوعي، تدلت رأسه بجانبه للحظات، ثم عاد جسده للحركة من جديد، فتح عينيه، ونظر بدهشة حوله، وهو يقول:
- دكتور (حاتم)، هل كان لقاؤك ثانية مع (بيتر)؟ ولماذا أتصبب عرقًا، ماذا حدث؟
- لا عليك يا (عبد الحميد)، مرحبًا بك، لا لم يكن (بيتر)، لقد كنت أتحدث مع (تيم)، استرخِ قليلًا في مكانك، حتى أحقنك بدواء مهدئ، جسدك لن يحتمل كل هذه الصدمات العصبية ولا بد أن أحافظ على عقلك من تلك التغييرات الحادة.
قالها وهو ينهض من على كرسيه ويضغط زرًّا ليغلق المسجل الذي كان يسجل الجلسة بأكملها، ويذهب إلى خزانة البراد ليحضر الزراقة التي ينوي حقن (عبد الحميد) بها.
لولا أن قاطعه (عبد الحميد) فجأة بصوت مرتجف:
- لا يا دكتور أرجوك لا تذهب فأنا أخشى الظلام! أنا في الحقيقة مصاب برهاب الظلام. أرجوك ابقَ بجواري.
- أي ظلام ذلك الذي تخشاه يا (عبد الحميد)، الأنوار ساطعة!
- لا أدري، لا أعلم لماذا قلت ذلك!
- حسنًا لا عليك، أدرك أنك تمر بإجهاد عصبي شديد، من الممكن أن يكون هو السبب فيما يراودك من مخاوف لا أساس لـ...
صمت (حاتم) على حين غرة، وقطب حاجبيه، حين ساد الغرفة ظلام دامس فجأة، بينما كان يعلو صوت (عبد الحميد) مناديًا عليه.
عاد مسرعًا إلى مكانه وهو يجيبه ويطمئنه، بينما كان ذهنه غارقًا في التفكير، كأنه قد تلقى لتوه صفعة شديدة مفاجئة، عصفت بعقله آلاف التفسيرات المتداخلة، بحث بداخل تلابيبه عن أي شعاع لضوء خافت ينير له ذلك الظلام الدامس الذي وجد نفسه بداخله، وجد نفسه يتساءل بدهشة كيف يحدث ذلك، هل يعقل أن تكون مصادفة، أم أن الحالة الغريبة التي يمر بها عقل (عبد الحميد) والطاقة الهائلة التي كمنت بداخله مع تلقي أكثر من وعي دخيل، قد دفعت بقدراته للطاقات القصوى، إن ما تفوه به قبل دقيقة واحدة لم يكن سوى نوع من الاستبصار، أو رؤية المستقبل، أو الاستشعار بالخطر الذي يخشاه قبل وقوعه، وأيًّا ما كان السبب في انقطاع التيار الكهربي، إلا أنه قد استبصر حدوثه.
وماذا يعني ذلك؟ هل تنامت قدرات (عبد الحميد) الذهنية بصورة خارقة للمألوف؟ وهل ذلك يعني احتمال ظهور قدرات أخرى لا يعلمها أحد في أي وقت، تراقصت أمام عينيه في الظلام خيالات لأوراق بحثية عديدة وصفحات من الكتب التي طالما كان يقرأها عن تلك القدرات اللا محدودة للعقل البشري، لكنه كان يقرأها بوصفه مجرد مطلع على ما دون في الكتب، لم يعاين يومًا ما إحداها، وأين يذهب به ذلك الأمر، ولأي مدى قد يجد نفسه منغرسًا في ذلك، تذكر فجأة كلمات (فريدة) وهي تخبره بجزعها مما دعته (شغل العفاريت).
انتفض (حاتم) فجأة، وكأنه كان في عالم آخر، على صوت باب المكتب وهو يفتح فجأة ويظهر من خلفه (مصطفى) يحمل كشافًا احتياطيًّا سرعان ما غمر ضوؤه المكان.
نظر (حاتم) إلى (عبد الحميد) الذي كان ممدًا على الأريكة بجواره يرتعش، وهو يضم ركبتيه إلى صدره في وضع الجنين وتلمع بعينيه نظرة خوف وجزع، لم تكن على الأغلب من الظلام أكثر من كونها مما نطق به قبل أن يحل الظلام.
ربت (حاتم) على كتفه وهو لا يدري ماذا عليه أن يقول له الآن، لا بد أن يتكلم على كل حال، ولكنه لا يجد الكلمات المناسبة، هل يصبح الطبيب المصاب بالحيرة أمام المريض، أم يصبح الطبيب الكاذب الذي يختلق الأقاويل للمريض، لم يدرِ ماذا يفعل في تلك اللحظة! نظر في عينيه وهو يحاول أن يتماسك أمامه وهو يردف قائلًا:
- فقط تذكر أن... هذا الوقت سيمر... هل تعلم ما قصة تلك العبارة، لا أعتقد أنك تعرفها، إنها قصة جميلة وتحمل حكمة تنطبق على كل الأوقات، يسيرها وعسيرها على حد سواء، هل تتصور ذلك، حسنًا، ينبغي أن أرويها لك حتى يعود التيار للعمل من جديد. (اسمع يا سيدي)!
2 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.