karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

القاهرة.. يناير ٢٠١٥

أصاب (حاتم) الدهشة والحيرة من رد (عبد الحميد)، أو بالأصح من رد صوت (بيتر) أو (باسيليوس) المتجسد بداخل جسد (عبد الحميد).
لم يكن يتوقع أن يتمسك (بيتر) بالوجود بعد أن رأي بعينيه شهادة وفاته، والصور الفوتوغرافية لجثته وهي ممزقة إلى أشلاء في الحادث الإرهابي الذي أودى بحياته منذ أكثر من عام، ذلك اليوم الذي ظهرت فيه شخصيته ووعيه الكامل بداخل جسد (عبد الحميد).
كان (حاتم) يظن أن وضع كل الحقائق أمام مريضه الواعي برغم كونه قد فارق الحياة وانتقل بصورة لا يدرك كنهها بجسد آخر، سيجعله يرضخ للحقيقة، ويسلم بها ويعينه على إعادة الأمور إلى نصابها، لينعم بالسلام حينما يترك ذلك الجسد ويذهب إلى رحلته الأخيرة، مفارقًا ذلك الجسد الذي حل به، لا سيما أنه في الأساس أحد رجال الدين، (بيتر) أو الراهب (باسيليوس) لن يرتضي بكل تأكيد (كما كان يأمل) بأن يظل محتلًا لجسد رجل لا ذنب له وهو يسلب وعيه المدرك في حياته، فكل ثانية تمر في حياة (بيتر) الواعي، إنما تنتقص من عمر (عبد الحميد) المفتقد للوعي.
لكن الرد جاء على غير ما توقع تمامًا.
حينها أدرك (حاتم) كم كان تفكيره قاصرًا، ضيقًا، وربما أنانيًّا جدًّا، لقد وقع في خطأ البشر الأكثر تكرارًا وجحودًا في التاريخ، لقد حكم على الأمر من منظوره الشخصي، ولم يضع نفسه أبدًا موضع محدثه، ربما كان ذلك هو السبب في آلاف المشكلات بين البشر، لا أحد ينظر للأمور من منظور الآخر أبدًا، لا أحد يدرك معاناة الآخر، لا أحد يهتم لآلام الآخر، لا أحد يعنيه آمال الآخر، لا أحد يفكر بعقل الآخر ويستوعب ما يعانيه قبل أن يطلق حكمه عليه.
أعاد التفكير مرة أخرى ولكن من زاوية أخرى، ماذا لو كان هو من وجد نفسه في الموقف ذاته، هل كان سيتخلى عن الحياة بتلك البساطة، لقد ظل طوال عام كامل ينتهج ذلك النهج في العلاج، ظنًّا منه أن مريضه الميت من الأساس سيستسلم للموت، لم يفكر أن ذلك الوعي الحائر يلتمس أي نوع من الحياة التي انتهت بداخل جسده.
ربما كان تمسكًا بالحياة، ورهبة من الحياة الأخرى التي يحفها الغموض، حتى وإن كانت تفتح له أبواب الجنة، فذلك طبع البشر، يتمسكون بالحياة حتى آخر دفقة هواء بها، يتلمسون آخر ضوء يتسلل إلى أعينهم، ويرفضون التخلي عنه، حتى يسلب بغير إرادتهم، ربما لو كان الموت اختياريًّا، لما اختاره أحد، حتى الصالحون من البشر، يرهبونه، بل ربما كان الأكثر صلاحًا منهم هم الأشد رهبة من الموت على الإطلاق، فهم أكثر الناس قدرة على إدراك أن كل الأعمال الصالحة والخير والأخلاق التي يمكنهم أن يتبعونها في الحياة، لا تساوي قيمة نعمة واحدة مما حصلوا عليه مجانًا طيلة حياتهم، وفي لحظات الموت دائمًا ما تكشف الحقائق، وتصغر الأمور في أعين البشر، وعندما يعلم كل منهم أن الأجل قد حان، وأن الاختبار قد انتهي زمنه، عاد ليراجع ما تركه من إجابات ويقيّمها، ليجدها هزيلة مهما عظمت، وأراد مزيدًا من الوقت، لعله يستزيد من الأعمال الصالحة، لذلك فإن كان (بيتر) قد وجد المزيد بطريقة ما، فلن يتخلى عن تلك الفرصة بكل تأكيد.

الصالحون والعصاة على حد سواء يرفضون الموت، الصالح يبتغي أن يستزيد من الصلاح، والعاص يحلم أن يعود لعتق رقبته من خطاياه.
لذلك كان المنتحر، الواضع نهاية لحياته بمشيئته، شخصًا مريضًا يعاني من اختلال عقلي، أو اضطراب نفسي، شخصًا لا يلقي بالًا لمصيره، ومثل ذلك الشخص هو بالتأكيد فاقد للوعي، بينما كان (حاتم) يتعامل مع وعي بلا إنسان، إذ لم يكن يدري أي الحالتين هي الأصح نفسيًّا وعقليًّا.
لكنه أدرك في النهاية أن حيلته لن تجدي نفعًا أبدًا.
أدرك أنه يحارب الفطرة حين يطلب من شخص أن يتخلى عن الحياة، حتى وإن كانت حياة ممسوخة لا يدرك أحدهم كيف وجدت أو كيف ستنتهي ومتى.

أخذ نفسًا عميقًا وأغمض عينيه للحظات، قبل أن يفتحهما وينظر إليه بجدية وهو يردف قائلًا:
- حسنًا يا (بيتر)! وما العمل برأيك الآن في هذا الوضع غير المفهوم.
- الحقيقة يا دكتور/ (حاتم) أنا لا أفهم كيف حدث ولا أدرك ما الكيفية التي وضعتني بداخل هذا الجسد، ولا أخفي عليك أنني خائف، بل أرتعد من الرعب من صورة جسدي الممزق بذلك الشكل، ومن وجودي بذلك الجسد، أنا لا أدرك من أنا الآن، وكيف أنا، أنظر في المرآة فأشاهد شخصًا آخر لا أعرفه، ولا أعرف ماذا أفعل بداخله، ولا أعرف لمتى سأظل هكذا، أو لماذا أصبحت بهذا الشكل.
- حسنًا يا (بيتر)، دعنا لا نستبق الأحداث، سأتعامل معك على كونك مريضًا عاديًّا، وكأنك شخص حقيقي، ونحاول سويًّا معرفة الإجابات على كل تلك الأسئلة.
- وأنا حقًّا أريد مساعدتك، لكن ليس بالموت، هل تفهمني؟
- أفهمك يا (بيتر)، وأعدك أنني لن أسعى لموتك، لكنني ربما استطعت أن أرشدك إلى طريقة أفضل للحياة، هنا أو في الجانب الآخر، والآن هل تسمح لي بالبداية في العلاج؟
- سل ما شئت.
- حسنًا! هل يمكنك أن تخبرني، كيف بدأ هذا الوضع الغريب، كيف وجدت نفسك بداخل جسد (عبد الحميد)؟
- كل ما أتذكره هو أننا كنا نسير بالحافلة في طريق الدير، عائدين من رحلة قصيرة لزيارة أماكن تواجد العائلة المقدسة في كنيسة المغارة بجبل (درنكة)، كنت مرافقًا للزائرين حتى أصل بهم إلى مدينة أسيوط، ثم كان مخططًا أن أعود بصحبة السائق ثانية إلى الدير، كانت الأجواء هادئة، وكانت الزيارة عظيمة، كان بالمغارة التي قطن بها السيد المسيح والسيدة العذراء العديد من الزائرين، بالطبع كان غالبيتهم من المسيحيين، كما كان بعضهم من المسلمين الذين كانوا يقومون بزيارة المكان التاريخي الفريد والبئر التي كانت ترتوي منها العائلة المقدسة، وكانوا مبهورين بالمكان مثلنا تمامًا، كان ذلك من دواعي سروري، ومما يؤكد فلسفتي في الحياة وإدراكي لعظمة الأديان وتأثيرها في البشر، وعظمة هذا الشعب المسالم المشترك في التاريخ والمتعايش في سلام على مر العصور، كنت غارقًا في التفكير في ما كنت أتمني أن أستطيع فعله في تعليم الصغار هذه القيم والمبادئ، وأخذت عهدًا على نفسي أن استكمل مشروعي الذي بدأته، وظللت أتخيل كيف سيصبح الأمر إن تم تطبيق ما حلمت به، وبينما كنت كذلك، إذ تعالى فجأة صوت انفجار، تلته أصوات طلقات نارية، وارتجت الحافلة بعنف، ثم قبل أن أستمع إلى صوت آخر وجدت كتلة من اللهب تحيط بي وشعرت بضغط شديد يدفعني إلى الخلف ويحطم أضلعي، وأغمضت عينيّ لوهلة، قبل أن أفتحها مجددًا لأجد نفسي في غرفة لا أعرفها جالسًا على مقعد أمام جهاز حاسب آلي، لم أفهم شيئًا، قمت من جلستي فزعًا أحاول الخروج من الغرفة مسرعًا، مررت أمام مرآة، لمحت بها شخصًا آخر، تسمرت في مكاني وعدت خطوة إلى الخلف، وقفت أمام المرآة انظر إلى هذا الشخص، وأحرك يدي لأشاهد يده تتحرك في المرآة بشكل متطابق، لم أشعر بنفسي ثانية وفقدت الوعي.
- إذًا، ما فهمته من حديثك، أنك لا تدرك كيف حللت في هذا الجسد.
- بالطبع، كان هذا أول عهدي به، ثم عاودت الأمر دون أن أفهم مرة ثانية، ربما بعد بضعة أيام فجأة، أفقت على وجودي بداخله، عشت فترة من الوقت واعيًا لما حولي، ثم فجأة ذهبت كأنما يفصل أحدهم التيار عن جهاز ما ويعيده وقتما يشاء.
- وأين تكون حينما يفصل التيار كما تقول؟
- لا أدري، كل ما أتذكره أنني أحيا بداخله على فترات متقطعة، كأنني أغمض عيني للحظة وأفتحها فأجد أنه قد مر بضعة أيام، وربما أسابيع لا أتذكر أي شيء في تلك الفواصل، ولا يمر عليَّ الزمن بتلك الكيفية، أنا فقط أعيش حياتي كومضات متفرقة ومتقطعة بينما يمر الزمن ولا أدركه سوى من تاريخ اليوم في ساعة أو هاتف (عبد الحميد).
- لكنك بصورة ما قد زاد حضورك في حياته في الآونة الأخيرة، فكيف يحدث ذلك؟
- لقد تعلمت أن أتمسك بالحضور، أو بكوني مستيقظًا في جسده، كأنني أصارع شيئًا ما لا أدركه يجذبني لفقدان الوعي، لكنني أصبحت اتغلب عليه أحيانًا، حينما لا أستسلم للذهاب بلا مقاومة.
- إذًا لقد أصبحت بصورة ما تسيطر على وجودك واعيًا حينما تريد.
- نعم، هذا صحيح، أستطيع أن أخبرك أنني أتخلى عن ذلك حينما يصيبني التعب، فأركن إلى الراحة ربما بذلك الفقدان للوعي، الذي لا أدركه، ولا يمر عليَّ بمعيار زمني، فقط كأنه غمضة عين، وحين أعود بعد لحظة أجد نفسي بكامل طاقتي مجددًا، كأنني قد خلدت إلى النوم ساعات طويلة، بينما منذ حللت بجسده لم أدرك النوم لحظة واحدة.
- ما أفهمه من كلامك، وما لا بد أن تدركه أيضًا هو أنك وعي كامل، لا ينام ولا يشعر بوهن، بل إن جسد (عبد الحميد) الحي هو الذي يشعر بالتعب، لذلك يصيبك أنت ذلك الإحساس، فتتركه لينعم ببعض الراحة حتى تعود من جديد في استيقاظ كامل.
- هو كذلك بالفعل.
- لكنني لا أعتقد أن الإجهاد البدني هو ما يصيبك بالتعب، فذلك ليس منطقيًّا.
- أنت على حق، إن ما يصيبني حقًّا بالتعب هو كثرة التفكير أو الدهشة والخوف مما أنا علية، ومن المستقبل، أو مثل هذا الحديث الذي أجهدني مثلما لم يحدث ليّ من قبل.
- ما تخبرني به منطقيًّا جدًّا، لأنك ببساطة لا تملك ارتباطًا عصبيًّا بخلايا هذا الجسد، أنت فقط مجموعة من البيانات والمعلومات أضيفت إلى عقله، يصيبها الوهن سريعًا لأنها لا تجد ما تستمد منه قوتها أو تتغذى عليه مثل إدراك (عبد الحميد) المتوائم مع خلايا عقله والمتكون بصورة طبيعية ومتراكمة زمنيًّا ومنطقيًّا لعقله، أنت يا سيدي دخيل على وعيه، أستطيع أن أشبه لك ذلك بلغة برمجة الحاسب الآلي، بأن وعيك كأنه (فيروس) أصيب به عقل (عبد الحميد) حين لم يمتلك برنامج حماية له، ولا يمتلك الآن برنامجًا مضادًّا للفيروس.
- لا أعتقد أن تشبيهك هذا يا دكتور ينطبق على ذكريات وحياة البشر، بل وآلامهم وآمالهم.
- بل إنه أفضل تشبيه من وجهة نظري يا عزيزي، الفارق الوحيد الذي أغضبك في الأمر، أنك في وضع الفيروس لا الذاكرة الأصلية، ربما إن كانت الأوضاع معكوسة لارتضيت بوجهة نظري فورًا.
- ربما، لكن ذلك ليس هو وضعي الآن.
- حسنًا، نستطيع أن ندرك من ذلك، لأنك بلا جسد تمتلكه، فقد أصبحت مجرد إدراك واعٍ، مجموعة من الذكريات والمشاعر والأحاسيس ترفض الموت، وتحيا بصورة أو بأخرى رافضة التخلي عن تلك الحياة، ولكن إلى متى؟
- لا أعلم.
- الأهم من ذلك، هو أن نعلم لماذا تحديدًا ترفض الموت، إن كان ذلك حقيقتك التي لن تستطيع الهرب منها، وإن آجلًا أم عاجلًا، سيموت أيضًا الجسد المضيف، وعلى الأغلب سيتشتت حينها ذلك الإدراك الذي أتحدث إليه.
- دكتور أنا أشعر بإجهاد شديد أشعر بفقدان الوعي، أنا... أنا أذهب يا دكتور.
أمسك (بيتر) برأسه وهو يخفضها إلى الأسفل قليلًا، بينما كان (حاتم) يضع يده على كتفه وهو يقول له:
- لا ليس الآن قاوم بالله عليك، لم أنتهِ من أسئلتي بعد.
- أي أسئلة يا دكتور؟
قالها وهو يرفع رأسه وينظر نحوه قاطبًا حاجبيه في دهشة، حينما أردف (حاتم) قائلًا:
- أريد أن أعلم ما سبب رفضك الموت في ذلك اليوم؟ وماذا كان مشروعك الذي تتحدث عنه، وحلمك الذي تريد تحقيقه؟
- أي يوم يا دكتور؟ وأي مشروع بالله عليك؟ وأي حلم؟ أنا حي أرزق أمامك، ماذا تقصد بذلك السؤال الغريب؟
نظر إليه (حاتم) بدهشة للحظات، قبل أن يطرح عليه سؤاله الأخير:
- من يحدثني؟
- ماذا أصابك يا دكتور بالله عليك، ألا تعرفني... أنا (عبد الحميد)!
2 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.