Darebhar

شارك على مواقع التواصل

بعد ذلك مرت الأحداث بسرعة؛ سمعت صوت طلقٍ ناري يوجه نحوه ولكنه لم يصبه، هرب وتركني مليئًا بالخدوش؛ شعرت بأحدهم يخرجني من حقل القلقاس ويضعني في عربة حديقة، رجرجتني العربة حتى منزل قديم، ثم رجل يحملني من العربة.
آخر ما لمحته عيني كانت صورة لرجلٍ يرتدي ثوبًا صيفيًا موشى بالزهور يكشف عن ذراعيه.
حاولت القيام ولكني لم أستطع، كأن الأرض ابتلعتني، أشعر براحة شديدة رغم أن الفراش من أسفلي خشن الملمس، لم أستطع القيام فأكملت استرخاء.
أثناء غطيطي سمعت صوت ضجةٍ قوية بالخارج أجبرتني على النهوض، اعتدلت في موضعي أحاول فتح عيني، بعد عدة محاولاتٍ نجح الأمر، ملقى على حصيرة كنت في زاوية مكانٍ لا يقل قذارة عن المنزل الذي أمكث فيه، جدران الغرفة مصنوعة من الطين المغطى بالطلاء الأخضر باستثناء بعض المناطق عارية من اللون، وعلى مقربةٍ مني يوجد لمبة جاز تبعد الظلام عن روث بهائم صلب على هيئة قطع صغيرة ورائها، استندت على الأرض أحاول النهوض، صرخت قدمي اليسرى بألمٍ كشفت الغطاء عنها فوجدتها تختبئ أسفل كومة من الشاش والقطن! أزلت الشاش عنها بجنونٍ فوجدت أحدهم قد قضم قطعة منها! تمالكت على قدمي الأخرى ونهضت عن الأرض.
اقتربت من الباب الخشبي وظللت أطرقه، دقيقة وانفتح الباب عن رجلٍ برونزي اللون، في أوائل الخمسينات، كان عاري شعر الرأس، شاربه أبيض تتخلله بعض الشعيرات السوداء كأنه الببر الأبيض، ظللت أنظر إليه حتى بدأ هو الحديث:
- إيه اللي قومك وأنت لسه تعبان؟
صوته غريب، كأن هناك فراغًا بداخله تتأرجح فيه الحروف فتخرج مصحوبة بصدى خافت، نظر إلى قدمي ثم اقشعر:
- ليه شلت الشاش من عليها؟
لم أستطع الحديث، كأن القطة أكلت لساني، ظللت واقفًا أمامه حتى أخذ بيدي.
أخرجني من الغرفة وسار بي قليلًا حتى هبطنا عن الصالة التي ترتفع عن فناء البيت بدرجتين، تمشينا في الفناء الصغير حتى أجلسني على أريكةٍ بجوار الحائط، كان النهار يودع، جذب طاولةً صغيرةً ثم رفع قدمي اليسرى عن الأرض ووضعها عليها، تركني وغاب قليلًا ثم عاد ومعه شاش ومطهر، وضع المطهر على النبش الذي يشوه قدمي فجززت على أسناني متألمًا، غلف تلك الفجوة بالقطن والشاش ثم تركني وذهب نحو مكانٍ صغير يوجد على يمين باب منزله.. أظنه المطبخ، اختلست نظرة إلى ذاك المكان، منزل ريفي صغير مكون من غرفة وحمام على يسار باب المنزل، ومطبخ أدعي أنه ضيق، وصالة صغيرة، مبنى من الطين، سقفه من جريد النخل باستثناء فناء المنزل الذي يرى السماء دون غلاف. نظرت إلى يميني فوجدت وتدًا خشبيًا مغروزًا في الأرض بالقرب من الحائط، وخلفه يوجد القليل من الروث، وخلف الروث وبالقرب من الحمام يوجد حوض صغير يعلوه صنبور نحاسي، دقائق وجاء الرجل حاملًا على يده اليسرى صنية صغيرة، التقط قدمي بيمناه عن المنضدة ثم وضعها أرضًا، أنزل عن يده تلك الصنية متسخة اللون التي تحمل كوبين من الشاي وبعض الفطائر أمامي.
- اتفضل يا أستاذ....
خرج صوتي في تلك اللحظة ناطقًا:
- عيسى.
ابتسم لي ثم جلس بجواري على الأريكة:
- وأنا الدكتور مختار.. دكتور بيطري.
حاولت أن أمزح معه:
- واضح من الروث اللي في الأوضة.
ابتسمت مجاملًا.
- كان فوق السطح.. بس خوفت الدنيا تمطر عليها فنزلته بعد ما نشفت في الأوضة.
- وليه بتنشف روث البهايم؟
سألت مستفسرًا.
- عشان هي مصدر النار الوحيد اللي هنا.. بلم الروث اللي بيفضل من البهايم اللي حواليا.. أو اللي بكشف عليهم وبعمله قطع وأحطه في الشمس فوق الأوضة لحد ما ينشف.. بعدين بنزله أطبخ بيه.. بديل للغاز.
- طيب وليه مبتستخدمش الخشب؟
- الخشب غالي أوي.. الروث أرخص وببلاش.
لم أعلق على كلماته، باركتها بهزة رأسٍ، وجهت أنظاري نحو قدمي وسألته مستفسرًا:
- إيه اللي حصلي؟
- كنت راجع من ليلة ذِكر من 3 أيام.. سمعت صوت حد بيصرخ قريب من البيت.. جبت البندقية وطلعت.. لقيت سلعوة بتشدك من رجلك وداخله بيك القلقاس.. ضربت عليها نار.. وجبت براويطة حطيتك فيها وجبتك ع البيت.. لقيتها واكلة حتة من رجلك.. دواتك على قد ما قدرت وسبتك في أوضتي جوه.
سكت مليًا ثم أردف:
- أعذرني إنها مش أد المقام.
- أد المقام ونص أكيد.. متشكر.
- متشكرنيش.. أنا سبب عشان تعيش.
نظر لي مبتسمًا:
- اتفضل كُل.. بقالك كتير تعبان.
التقطت بين أصابعي فطيرة وقربتها من فمي، تيبست قليلًا ثم نظرت نحوه مستفسرًا:
- أنا هقدر أمشي امتى؟
- أنت مش ف سجن.. بس هنا مفيش شبكات تليفون ولا مواصلات.. لو عايز تمشي لازم تركب حمار عشان يطلعك للطريق الرئيسي.. بس الأفضل ليك إنك ترتاح كام يوم لحد ما تقدر تتحرك.
سكت قليلًا ثم أردف:
- شكلك مش من سكان البلد؟
- وعرفت إزاي؟
- أنا أعرف أغلب الناس هنا.. البلد هنا صغيرة وكل سكانها عارفين بعض.. وكمان أنت طريقة كلامك ولبسك بتقول إنك مش من هنا.
- أنا من الزمالك.. وجيت هنا عشـ...
قاطعني:
- عشان عندك حروق في رجلك ولازم تغسلها بميه نضيفة.. وإحنا ربنا مش راضي عننا عشان كده خللنا مية النيل مشعة.. بس اعذرني.. ده مش سبب مقنع إنك تنزل الريف.. فيه سبب تاني؟
لم يجد مني ردًا، فقط صمت فاق صمت بيرغن.
- أعذرني لو بتدخل في حياتك الشخصية.. أنت ليك حد قاعد عنده أوديك له؟
هززت رأسي نافيًا، أردف:
- ممكن تقعد معايا هنا لحد ما تكون بخير.
- لأ أنا هروح بيتي.
- لازم يكون معاك حد عشان يغير لك ع الجرح كل شوية.
- بلاش تكابر وخليك قاعد.
لا أعلم ما الذي جعلني أوافق، ولكني هززت رأسي مباركًا كأني آلي.
- تمام.. أنت هتنام في الأوضة اللي كنت قاعد فيها.. ولو احتجت حاجة زعق عليا.
- وأنت هتنام فين؟
- ف الفارندا.. مكان ما كنت بنام الـ 3 أيام اللي فاتوا.
- أنا كده مش بتقل عليك.
- سيبك من كلام المسلسلات ده وهات إيدك أسندك عشان تدخل ترتاح م البرد.
استندت عليه ثم أدخلني الغرفة، أجلسني على الحصيرة وألقى على قدمي الغطاء، خرج ثم عاد بعد دقيقة ومعه بعض الفطائر وضعها أمامي ثم انصرف، بمجرد أن أغلق الباب وراءه انقضضت على الفطائر أغتصبها؛ كنت جائعًا لدرجة أن معدتي بدأت في التهام بقية أعضائي، ابتلعتها كلها ثم أسلمت ظهري للأرض، نظرت أمامي فجذب انتباهي جملة دُونت على الحائط:
"إن كنت تشعر بالملل من طريقة الحساب المرهقة والطويلة هذه، فعليك أن ترثي لحالي؛ حيث اضطررت إلى تكرار الحسابات خمسين مرة تقريبًا، واستغرق الأمر مني وقتًا ضائعًا كبيرًا".
لم أشغل تفكيري بمعناها، سرحت في قفص العصفور الفارغ المعلق على الحائط مليًا حتى ناداني الموت الأصغر؛ فلبيت النداء.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.