victorhero

شارك على مواقع التواصل

منزل "عمر" صديقي أحبه أكثر من منزلنا
أحب طعام أم "عمر" أكثر من طعام أمي
المهندس صالح والد عمر يعمل مهندسً في شركة مقاولات تشرف على بناء مجموعة من الأبراج السكنية
قرّر المهندس صالح السفرَ للعراق لتأمين مستقبل عمر والصّغيرة ملك، وترك ملك بعُمر الثلاثة شهور.
حكتْ لي أمّ عمر عن سفره ووداعِه لها، يومها كانت شابّة نَضرة لم يقترب الحزنُ منها، تحبّ صالح ويحبها، لم يغضبها قطّ، ولم تضايقْه ولو لمرّة واحدة على سبيل التجربة، حياة هانئة، طفلٌ وحيد هو عمر، وزوجٌ يعمل حتّى أذان العصر، يصلّيه ويتحرّك لمنزله، ولا يخرج من المنزل إلّا للنذر القليل.
كان عمر في الحضانه، ما ان يعود المهندس صالح من عمله حتى يلعب مع عمر ويضاحكه حتى تمر الساعات، هكذا كان المهندس صالح، لا يحمل ضغينة لأحد ويحبه الجميع.
ياه يا طنت رانيا للدرجة دي كان عم صالح محبوب ومحدش أبدا بيكرهه.
هكذا قلتُ بلا مقدمات لكي أجعلها تتوقف عن حديثها، فلقد أخبرتني بقصة عم صالح ألاف المرات، وفي كل مرة تنهي قصتها تلك بوصلة بكاء لا تنقطع، وأنا لم أرغب في بكائها هذه المرة.
انتظرْ، كان هناك مَن يكره المهندس صالح، فمهما بلغتِ استقامتك ستجدُ مَن يكرهك، وفي الغالب سيكرهُك بسبب هذه الاستقامة.
مشاكلُ المهندس صالح في العمل بدأتْ مع تسلّمه الموقع الأخير الذي عملَ به في مصر، لم يكن المهندس صالح يسمح بالتلاعب في نِسَب الحديد والأسمنت في الأبراج التي يُشرف على بنائها، فهو ينفّذ المخطّط التي وضعته الشركة المنفذة بحذافيره، لكنْ هذه الفكرة لن تروقَ للكثيرين، حتّى دبّروا له مكيدة، اتّهموه بسرقة هاتف مدير الموقع، وضعَ مدير الموقع هاتفه في غرفة المهندس صالح، وقتها كان امتلاكُ هاتف محمول أمرًا خاصًّا بأثرياء القوم.
أبلغَ مدير الموقع صديقَه ضابط الشرطة عن السرقة، وعلى الرّغم من أنّ الشرطة لا تتحرّك في هذه السرقات بمنتهى السرعة، إلّا أنّ صالح وجد نفسَه في أقلّ من ساعة في قبضة البوليس بتهمةِ السرقة، سيتمّ وصمه طيلةَ عمره بالسرقة لو رفض مجاراتهم فيما يريدونه، ولو قبلَ سيكون عليه مجاراتُهم في قذارتهم، فقرّر أن يقبل بالحلّ الوسط، يتمّ تقطيع محضر السرقة مقابل ترك الموقع نهائيًّا، وهو ما حدثَ بالفعل.
قالت أم عمر مسترسلة في الحديث: ساعات الدنيا بتحطّلك اختيارات لأسئلة، وأي إجابة هتجاوب عليها هتطلع غلط، وانتَ كلّ اللي هتعمله ساعتها إنّك هتحاول تختار الإجابة اللّي فيها أقلّ نسبة خطأ، وأقلّ نسبة خسائر ليك، أصلك في النهاية كده كده هاتخسر
ضاقتِ الحالُ بالمهندس صالح وأسرته، خاصّة بعد معرفة مدام رانيا أنّها حامل في طفلة، لم يجدْ صالح عملًا بسهولة، فقرّر السفر، عملًا بحكمةٍ ورثها عن والدتُه
“إذا ضاقتْ بيك يا صالح حتة.. فسافر.. أرض الله واسعة”، وقتها كانت العراق تطلبُ عمالًا ومهندسين في كل التخصصات، فقدّم أوراقه إلى السفارة العراقية، وتمّ قبوله، طلب تأجيلَ السفر حتى تضع زوجتُه طفلتهم
تم قبول طلبه وأمهلوه ٦ أشهر لكي يلحقَ بالدفعة التالية التي ستسافر للعراق، عادةً لا يقبلون بالتأجيل، لكنْ لسببٍ لا يعلمه وافقوا، ربما هو رزقُ الفتاة الصغيرة التي لم تأتِ بعد، كانت تقول له أمّه: “البنات رزقها واسع يا ولدي”، ربما هذا رزقها.
وضعتْ رانيا السعيد ابنتها بدون تعب أو وجع، ربما نصيبها من الوجع لم يأتِ بعد، سمّتها ملك، أصرّت على الاسم، مع رفض صالح له في البداية، كان يريد تسميتَها “سهير”؛ على اسم والدته ، لكنّها أصرت قالت لزوجها: دي ملك ورحمة من ربنا يا صالح، رحمة من ربنا عشان مانيأسّش يا أبو عمر
ضحك صالح حتى كاد يبكي من كثرة الضحك
- خلاص نسمّيها رحمة.‬‬‬
ضحكت أم عمر هذه المرة، كانت الضحكة الأخيرة لها مع زوجها
كان على المهندس صالح أنْ يسافرَ إلى العراق بعد أنْ ظلموه في بلدِه علّه يجدُ في الغربة يدًا تربّت على كتفه، ويجد كفًّا يمسح دموعَ عينه، علّه يجد ما فقدَه هنا
غادرَ صالح تاركًا ملك؛ ابنةَ الثلاثة أشهر دونَ أن تنطق أيّ حرف من كلمة “بابا”، وسيغادر الدنيا دونَ أن يسمعها منها وجهًا لوجْه
ظالمة هي الحياه، لم تنصف الكثير، المهندس صالح كان من بينهم
كان المهندس صالح رجلًا شديدَ الانضباط، تستطيع أن تضبطَ عليه ساعتك وأنتَ مطمئن، في بداية كلّ شهر يكون هناك مبلغٌ في حساب زوجته، لم يتأخّرْ يومًا عن إرسال الأموال وتحتَ أيّ ظرف، لكنّ مرارة الغربة جعلت صالح يقرّر أنْ يظل فيها مرّة واحدة، يشعرُ بمرارتها مرّة واحدة طويلة بدلًا من أن يتجرّعها مرّات كثيرة، قرّر أن يعيش في الغربة خمس سنواتٍ يجمع مبلغًا كبيرًا من المال، ويعود لمصر بدون رجعة للغربة التي أكلتْ عليه وشربت
ربما تجدُ في الغربة سريرًا دافئًا، محفظة مَليئة بالنقود، ربّما تجد بها ما لا تجده في وطنك الذي تظنّه تركك قبل أن تتركه، لكنها تظلّ غربة، وتكتشفُ بعدَ فترة أنّ وطنك لم يغادرك كما كنتَ تظن، وستشتاق حتّى للحظاتِ الحزن في وطنك، ستشتاق له في فيلمٍ قديم يأتيك على غفلة، في أغنية سمعتها مرّة ولم تنتبهْ لها، لكنّ إعادة سمعها يأخذك لمناطق أبعد، معادلة صعبة، ربما تموتُ قبل أن تفهمها
فكرةُ المكوث طويلًا في الغربة فكرةٌ رفضتْها زوجتُه رانيا السعيد، الزوجة التي كانت تُمنّي النفْس بعودة زوجها ليزيل عنها ما ألمّ بها، لترتمي في حضنه وتخبرَه ما عانتْه في غيابه، لحظات الخوف في كلّ لحظة وهو بعيد، لحظات الرعب عندما تسمع عن إصابةِ مصريّ في العراق، لحظات الوجع عندما ينوأ بها الحِمْل فتتذكّر زوجها وتبكي، لكنّها في النهاية رضخت لرغبته، نعم ستشتاقُ إليه، لكنّها علمت أنّه سيعود إليها ويطيّب جراحَها، كان عزاؤها أنه لنْ يفارقها بعدها أبدًا، أو هكذا كانت تظن
لم تكنْ تعلم رانيا السعيد أنّ موافقتها على قراره خنجرٌ سيطعنُها طوالَ العمر، وْ كما قالت لي وهي تحكي: “يا أشرف.. أنا ضربت نفْسي بالجزمة ١٠٠ مرة عشان وافقت.. لوْ رجع بيّا الزمن ألف مرّة مش هوافق
طنت رانيا، الزمن مش هيرجع
انخرطتْ في البكاء قبلَ أن تفقد الوعي
دخلتْ ملك بأكواب الشاي التي أحضرتها من المطبخ، فسقطت الأكوابُ من يدها وهي تصرخ وتشير نحوها.
استغرقتُ دقائق لأجعلَ السيدة رانيا السعيد تستيقظ، كانت وهي في غيبوبتها تهمس ببعض الكلمات، استطعت أن أفسّرها بصعوبة، “وحشتني يا صالح”، قالت لي “ملك” وقتها وهي تحاولُ أن توضّح لي بعض الأمور التي تستعصي على الفهم
- هي كلّ مرة بيُغمي عليها بتقول الكلمتين دول.. وحشتني يا صالح
كتّر خيرها.. الوحدة لما يكون حبيبها قدّامها ومش طايلاه بتتجنن..، ما بالك بقى باللّي مش هتعرف تشوفه تاني
همّت ملك لإحضار زجاجة عطرٍ من غرفتها لإيقاظ أمّها، كبرت ملك، تلك الفتاةُ الصغيرة التي تأخّرت في النطق لأكثر من اربع سنوات حتى ظنّوا أنّها لا تتحدث، أصبحت شابة، أصبحت يافعة، شعرُها طويل كالليل الذي يمرّ على والدتها، عيونها واسعة كعيونِ المهى
كبرتْ لدرجةِ أنّها تستطيع أن تصيغَ جملة تبدو كحكمةٍ مقبولة، كانت تقترب منّي أكثر وهي تقول جملتها “الوحدة لما يكون حبيبها قدّامها ومش طايلاه بتتجنن”، جملتها لم تكنْ مُستساغة لي بالقدر الكافي لكنني لم أتوقف أمامها طويلًا.
أنا وملك لا ننقطع عن التواصل
كانت ترسلُ إلي رسائل يومية، لم أفتحْ هاتفي يومًا إلّا وجدت رسالة من ملك، تقول فيها أيّ شيء، لا يهمّ الموضوع الذي تتحدّث به، يمكنها أن تتحدّث عن برشلونة ، الفن، الرسوم الجديدة على الجدران، في كلّ يوم كانت تفاجئني بجديد، ترسلُ لي صورة أضحكتها، وصورةً أعجبتها، وصورة أبكتها، ٩٠٪ من الصور التي على هاتفي أرسلتها ملك، والـ ١٠٪ البقية أرسلتُهم أنا لها، أمّا أنا فكنت أتعامل معها على أنّها ابنتي، شقيقتي الصغرى، قطعة منّي تمشي على قدمين، كنت أحبّها أكثر من أيّ سيدة، كلّ النساء يجئنَ ويرحلنَ وملك هي الباقية، لن أحبّ زوجتي كما أحبّ ملك، هي الطفلة التي كبرت على يدي أنا وعمر، ملك كانت الفتاةَ التي لا يُردّ لها طلبٌ بالنسبة لي، كانت ابنتي
جاءت ملك وفي يدِها زجاجة عطرها، رشّت عليّ بدلًا من أن ترشّ على والدتها، تداركت الموقفَ سريعًا، وقالت لي: سوري” يا أشرف.. معلش متلخبطة شوية
مِن معرفتي بملك، هي تكذب، تدّعي أنها تمرّ بحالة اللخبطة، لكنّها في قمة يقظتها، لا يهمّ.. الأيام كفيلة بكشف سرّك يا ملك
رشّت على والدتها من عطرها فأفاقت قليلًا، ودعْني أخبرك عطرها يخطف أنفَك، يجعلك تتعلّق به، نفضت رأسي لأخرجَ من تلك الدائرة، فأفاقت أمّها وكانت تبدو شاردة بعض الشيء
- حمدًا لله على السّلامة يا قمر.. حدّ يخضّ حدّ كده يا ست الكل:‬‬‬
قلتُها وأنا أحاول أن أساعدها على استعادة وعيها، أمّا هي فبحثتْ بقدمها عن حذائها، ووضعتْ ساقيها فيه دون أن تنظر إليه، كانت هائمةً إلى مكان ما في رأسها، وهي تهمّ بالمغادرة، ودون أن تنظر إليّ، قالت: إوْعى تمشي يا أشرف.. هانتغدى سوا.. النهارده، هاأكّلك من إيدي… وهاكمل لك الحكاية
كنتُ في هذا الوقت أتّصل بعمر لأعرف أينَ ذهب كلّ هذه المدة، كان الموعد بيننا أن نلتقي في منزله، لكنه لم يأتِ، قالت لي أمّه خرجَ من الصباح الباكر
عمر يعيش قصة حب هذه الأيام، لا شيئ يجعلك خارج منزلك كل هذا الوقت إلا قصة حب ملتهبة
دخلتْ ملك عليّ تاركة أمّها في المطبخ، كانت تمشي ببطء، كأنّها تخاف من أنْ تقترب منّي، من معرفتي بها هي تريد الاقترابَ منّي لتخبرني بما يجولُ في خاطرها بشأن شيء ما لكنّها تخاف، حاولت أن أسرع من خطواتها، فقلت لها: تعالي يا ملك.. قوليلي أنا سامعك: لو كلامك عجبني، هدّيكِ الشوكليت بوكس اللّي جبتهولك
- ولو ما عجبكش يا سي أشرف
- هاناكله أنا وماما رانيا قدّامك.. ونخلّيكِ تحسّي معاناة اللّي قطعت جوزها ومعرفتش تسرّب جثّته.
وقتَها اقتربت ملك بسرعة أكبر لكنها مازالت بطيئة، في هذه اللحظة قرّرت أن أرفع من صوتي، جرّب أن ترفع صوتك على فتاةٍ قصيرة، ستجدها ترتفع إلى سقف الغرفة وهي تهبّ مفْزوعة، وقتها قلتُ لها بأعلى درجة صوت لدي: اخْلصي يا ملك بقى.‬‬‬
في أقلّ من ثانية كانت ملك تجلس بجواري، لقد جاءتْ بسرعة شديدة، ثمّ ارتسمتْ على وجهها ابتسامة مُصطنعة، وقالت لي: يا أشرف، حدّ يزعق في آنسة شيك زيّي
طالما قالت لي ملك “يا أشرف”، فهي تشعرُ بأنني سأرفضُ ما تقترحه، عندما تثق فيما تقول كانت تقول لي: “ يا أشروف”، دونَ أن أنظر لها هذه المرّة قلت لها: قولي يا ملك… أنا سامع
غطّت وجهها بعيونها خشيةَ أن تتلقّى صفعة منّي، مع أنني لم أفعلها من قبْل, ولن أفعلها مستقبلًا
- أشرف، أنا عايزه أعمل كواي .. عايزة اتْشهر.. عايزة أبقى مشهورة، والناس تشاور عليّا
لم أردّ، فاسترسلت: أنا جرّبت بأكونت فيك.. ولبست ماسك .. وبقى عندي 3٠٠ ألف فولورز.. متخيّل في 3٠٠ ألف واحد بيتابعوني.. أنا بقى عايزه أظهر بشخصيّتي الحقيقية.. عايزه يبقى عندي جماهير كتير قوي… عايزه أكون مشهورة بجنون
لم أردّ، فحاولت التبرير: أنا مش عايزه أبقى مشهورة.. قصدي يعني مش عايزه أبقى مشهورة عشان نفسي.. عايزه أبقى مشهورة عشان استغلّ شهرتي، وأعمل خير. صدّقني يا أشرف، أنا موهوبة
حاولت أن أشترك معها في الحوار: في إيه؟‬‬‬
- نعم.. مفهمتكش يا أشرف
- أنتِ بتقولي موهوبة.. موهوبة في إيه؟
- أنا بعرف أحرّك شفايفي على أيّ فيديو وببقى مُقنعة قوي.. أنا قلّدت محمود حميدة وحسن شكوش وسعيد صالح
- تحريك الشفايف عمرها ما كانت موهبة يا ملك
قلت تلك الجملة، وراقبت تأثيرها على ملامحها، فوجدتها مصغية في اهتمام
- مش كل حاجة ينفع تتعمل،لو حركتي شفايفك النهاردة: بكرة هتعملي أي حاجة
- أي حاجة ازاي يا أشرف
- أي حاجة يا ملك، ترقصي.. تغني.. تخلعي.. هتلاقي نفسك بتعملي أيّ حاجة عشان تحصلي على جرعة السّعادة اللي بتحصلك لما الناس يعجبها فيديوهاتك، لما الإعجاب هيقلّ هتلاقي نفسك مستعدة تعملي أيّ حاجة عشان ترجّعي الشهرة دي تاني
قالت الجملة التي يقولها الجميع في مرحلة بداية السقوط: لا بسّ أنا هحطّ لنفسي خطّ أحمر لا يمكن أتخطاه.‬‬‬
وقفتُ من مكاني، وأصبحت أراها بعينِ الطائر المحلّق، لم ترفع عينَها إلي، ووضعتُها في مستوى منخفض، لغة جسدها فضحَتها، ملك لم تكنْ مقتنعة بما تقوله
- الموضوع ده مفيهوش خطوط حمرة يا ملك، وقتها مش هتعرفي ترجعي
حاولتْ أن تتكلّم لكنّي نظرت إليها لأمنعها
- ملك، أنتِ جوهرة.. والجواهر خُلقت لتُصان.. أنتِ ملكة مينفعش تعملي زيّ بقية الناس.. حتى لو الشعب كله عمل أنتِ “ملك” ليّا ولعمر ولماما رانيا.. أمل كبير أنّ بكره أحلى.. أنتِ مينفعش تبقي زيّ حدّ.. ولا أيّ حدّ مهما حاول يعمل هيبقى زيّك.. أنتِ اللّي محمد منير غنّالها “وأنتِ مين يطولك وأنتِ العالية فوق
ارتسمتْ على ملامحها ابتسامة الخجل، كانت جميلة حينَ تخجل، جميلة حينَ تتكلم، جميلة حينَ تصدق، وجميلة حينَ تكذب، كانت ملك جميلة في كلّ حالاتها، وقفتْ على الكرسي لتحاول احتضاني على مديحها، وقتها دخلَ عمر، فقتل محاولة الحضن في مهدها
دخولُ عمر على ملك التي كانت تحاولُ احتضاني رسمَ على ملامحه غضبًا لم أرَه به من قبْل، دون أن يتحدّث أشار إليها أن تخرج، فدخلتْ إلى حجرتها وهي تنظر للأرض. وضعَ عمر مفاتيحه وهاتفه على أقرب كرسي قابله، واقترب منّي وسلّم عليّ سلامًا فاترًا، فهمتُ أنه غاضب من محاولة حضن ملك التي باءت بالفشل، قلت له لأغيّر من ملامح وجهه قليلًا: أنتَ كنت فين يا بني.. بقالي ساعة برنّ عليك… تليفونك علطول مقفول ليه… خلّي بالك شكله حبّ جديد
نظر إلي في رجاء قائلا: خلّي بالك ملك بتحبّك.. بلاش يا أشرف.. لو ليّا خاطر عندك بلاش… أنا عارف إنّ ملكش ذنب.. بسّ ملك دي صغيرة مش هتستحمل صدمة.. أنا عارف إنّ انتَ مش عارف.. بسّ حاول تصدّها.. خلّيك وحِش معاها.. بقولهالك غصب عنّي.. ممكن متجيش هنا تاني؟
- أنا هبقى أجيلك أنا يا أشرف
لم تسعفني الكلمات لكي أرد على كلامه، ابتسمت في وجهه ابتسامة هو نفسه يعلم أنها أبلغ من ألف جواب
انسحبت خارج الشقة دون أن أغلق الباب خلفي خشي ان تسمع صوت اغلاقه ملك أو والدتها
قررت الخروج من الشارع الذي يوجد به منزل عمر، واقسمت ألا أعود اليه مرة أخرى
وفي الطريق كنت أسأل نفسي سؤالًا واحدًا، الأفضل أن نعاقب على فعل اقترفناه، أم نعاقب على فعل لم نقترفه
لو لم يأكل آدم التفاحة وقرر الرب أن يخرجه من الجنة هل كان سيتقبل العقوبة بلاذنب
عندما خرجتُ من منزل عمر لم أنْوِ قطعَ علاقتي به، كنت أعذره، هو يدافعُ عن أخته الوحيدة من رجل مثلي، لا أخفيك سرًّا لو كانت لي أختً ما تمنيت لها زوجًا مثلي، ربما أكون شخصًا طيبًا غيرَ مؤذٍ وإذا تسبّبت في أذًى لشخصٍ فهو أنا، لكني شخصٌ لا أؤتمن، متقلّب المزاج جدًّا، سريع الملل، لا يُعتمد عليّ، في كلّ الصفات التي لا ترغبها في عريس لابنتك.. باختصار كنتُ الشخص المملوء بالعيوب
ثمّ إنّي لا أحبّ ملك، لو تغاضى عمر عن فكرة أنّ أختَه الصغيرة تحبّ صديقَ عمره، فكيف سيقنعني أن أتزوّج أخته الذي يعرف بحُكم قربِه منّي أنّي لا أحبها إلّا كأختي! عمر أخذ القرارَ الصحيح، ولا يمكنني أن ألومَه عليه. خرجت يومها من عند عمر، وقرّرت أن أقطع كلّ رابطٍ بيني وبين ملك، رسائلها لا أردّ عليها، وضعت رقمَ هاتفها في قائمة المكالمات غير المرغوب بها، حظرتُها على الفيس بوك وعلى الواتساب وعلى تليجرام ، أيّ منفذ كان يمكنُها من الوصول لي أوصدته، وكانت حركة حمقاء منّي لأنّها لم تجدْ بدًّا من أنْ تأتي لي
كانتِ الساعة التاسعة صباحًا، كان صوتُ الطّرق على الباب عاليًا للدّرجة التي تجعل من طرقها وسيلة لإيقاظ كلّ سكان العمارة وليسَ إيقاظي فقط، لا أعلم مِن أين أتتْ ملك بهذه القوة، رّبما هي قوة الحب، ربما كانت اللهفة التي تجعلنا نفعل أشياء ما كان يخطرُ ببالنا أننا نقدرُ عليها، لم يتوقّف الطرقُ ثانية واحدة في طريقي من غرفة نومي لبابِ الشقة، نظرت من العين السّحرية فوجدتُها هي، كان على وجهها كلّ علاماتِ التوتر التي ممكن أن تصيبَ فتاة في سنّها، على وجهها ارتسمت المئات مِن علامات الاستفهام التي تبحث عن مجيب، وكنت أنا المجيب
في البداية قرّرت ألّا أفتح، ربّما بعدَ دقائق ستشعر بالملل، وترحل، وتعفيني من عناءِ فتح محادثة معها، سأكون فيها الطرف الخاسرَ والظالم مهما قلت، ملك تحبّ، ومَن يحب يكون منطقُه معووجًا لأنّ قلبه الذي يقيس المنطق لا عقله، فما حكم القلب في منطقٍ بُني على العقل، لكنْ بعد دقيقة واحدة صرفتُ النظر عن فكرة تجاهلها لأنها كانت مصمّمة أن أرد، ما جعلني أفتح لها هو توسّلها على الباب؛ حيث دمعت عينها ووضعتْ رأسَها على الباب، وهي تتحدّث بكلام خالطته الدموع
فتحت الباب، أول شيء فعلته ملك القت بنفسها بين أحضاني
خشيت أن يرانا أحد السكان فتتأكّد شكوكهم عنّي بأني الفاسق الفاجر، فأغلقتُ الباب برجْلي، وأجلستُها على الكنبة المطلة على المطبخ
- تشربي ايه يا ملك:
كان سؤالًا سخيفًا بالطبع
ملك لم تأتِ خلسةً من خلف أهلها لكي تشرب شيئًا، ملك جاءت تبحث عني، كما كنت أبحثُ عن الحنان في منزلها، نظرةُ العوز التي في عيون ملك هي نظرةُ الفقد التي احتلّت عيني من قبل وأنا أغادر شارعهم، لم تتأخّرْ هي في الإجابة على سؤالي السّخيف، وقالت لي: آه عايزه أشرب.. عايزه أشرب حنيّة.. ماليش أنا في القسوة.. معودتنيش عليها، أصعب فترة بتعدّي على الطفل هي فترة الفطام، وعشان تفطم الطفل لازم تدّيله القدر اللّي يكفيه، أنا اتفطمت قبل ما آخد القدر اللّي يكفيني… لو بتعرف تعمل الحنيّة اعْملّي معاك
هربت من منطقها الذي قد علمته لها من قبل، وجاءت هي لكي تثبت لي أنها نجحت وتفوقت على استاذها
‫ - تعالى يا أشرف.. متهربش.. أنا عايزه أفهم منّك كام حاجة وهمشي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
تركت أفكاري وتوجهت نحوها، جذبتني من ذراعي وأجلستني بجوارها
كنتُ في هذه اللحظة منقادًا تمامًا لملك، لا يوجد لدي أدْنى رغبة لمخالفتها، كلّ ما ستقوله صحيحًا، ليس ذنبُها أنّها أحبّت الرجل الذي تفتّحت عينها عليه، الرجل الذي رأته رمزًا للتحرّر، والذي تعلّمت علي يديه كلّ شيء، هي لم تخطئ لأنّها أحبت، الحبّ ليس خطأ، الخطأ أنّنا نعيش في مجتمعات ترى الحبّ خطأ.
- أشرف، أنا ضايقتك في حاجة!؟ مبتردّش عليّا في أيّ وسيلة.. مبتجيش البيت عندنا قلت يمكن زعلان من اخوية، لكنْ عمر كلّ يوم عندك، تجاهلت كلّ رسالة جاتلك منّي، ليه يا أشرف؟
رفعت رأسي، فلمحت في عيني دمعة، حاولتْ أن تمسحها، وبسبب صغر حجمها أصبحت كلّها فوق صدري، أبعدتها قليلًا، فشعرتْ بالإحراج فعادتْ لمقعدها، مسحت دموعي، ونظرتُ لها، كانت عيني حمراء، أشعرُ بحريق مُستعر بداخلها
- ملك.. أنتِ مش بسّ أختي، أنتِ بنتي.. أنتِ اتربّيتِ على إيدي، أوّل يوم ليكِ في الحضانة أنا اللّي كنت ماسك إيدك مش حد تاني، لما كنتِ بتعملي مشكلة في المدرسة أنا اللّي كنت بروح مع ماما مش اخوكي، وكنت دايمًا باجي في صفّك حتى لو غلطانة، فاكرة البنت اللّي جبتِ مقصّ وقصيتي لها شعرها في تلتة ابتدائي عشان مش شايفة السبورة منها؟ ورغم إنّ انتِ غلطانة كنت بقول للمدرسة .. المفروض هي تقعد في الدّيسك الأول علشان تشوف كويس، البنت بتحبّ التعليم يا استاذة، أنتِ يا ملك بنتي اللي مخلفتهاش، لكن ربّيتها
اكملت حديثي دون أن أنظر لعينيها
- أنا مش معترض على إنّك بتحبيني.. الحبّ ده لا بإيدي ولا بإيدك.. أنا مش عايزك تتعلّقي بيّا.. أنا خايف عليكِ.. خايف على بنتي اللّي ربّيتها.. ألاقيها مش عارفة تنام من كُتر التفكير في راجل مش بيحبّها.. الراجل ده أنا.. خايف عليكِ من وجع الحب يا ملك.‬‬‬
قالت وهي تبتسم في خفوت: والحلّ إنّك تسيبني أضرب أخماس في أسداس.. وانتَ عارف إنّي مبفهمش في الرياضة.. اللّي بتقوله ده كلام يُحترم حتى لو مش على مزاجي، لكنه كلام وجيه
قلت لها وأنا أحاول أن أضحك: لا يا ملك، ده مش كلام وجيه والله، ده كلامي أنا
نظرت إلي في وهن: افيه سخيف متقولهوش تاني.. كلامك مفهوم, لكني مش هقدر أفهمه، أنا بحبّك.. مطلبتش منك أيّ حاجة مقابل الحبّ ده.. ومش هطلب منّك حاجة، أنا مبسوطة وانا كده.. أنتِ ليه عايز تحرمني من الحاجة اللي بتبسطني
قلت لها محاولًا أن أكون هادئً: مشكلتي يا ملك مش في الحب نفسه، مشكلتي معاكي هتكون في مشتملات الحب ده
قالت وهي تحاول أن تجهد نفسها على استكمال الحديث: أنا مش عايزة منك حاجة يا أشرف
قلت لها وأنا في كامل قواي العقلية: الغيرة، حبّ التملك، التفكير، ألف حاجة وحاجة بتيجي مع الحب يا ملك، كل دا مش هاتقدري تتحمليه لوحدك، مش هاتقدري تقدمي وماتاخديش، كل دا هايكون عليكي كتير وهايوجعك يا ملك، انتي لسة صغيرة، واللي جاي هايبقى أصعب، ارجوكي ماتضغطيش عليا، ارجوكي، مش هاتحمل أكون سبب وجع قلبك وانا اللي طول عمري باحمميكي من أي وجع، مش هاتحمل أكون سبب وجعك أبداً.
قالت في جدية ربما كانت تحاول أن ترسمها: انت ليه مش بتحبني زي ما بحبك يا أشرف
أجبت عليها في جدية مماثلة: لانك نقية وأنا ملوث، لانك عايزة تكوني أسرة، وأنا ماعنديش الشجاعه للخطوة دي، انتي عايزة حياه معايا مستحيل اقدر اعيشهالك، الحياه اللي انتي شايفاها بيننا دي عمرها ما هاتكون برة الحلم
أسترسلت في الحديث: انا الاختيار الأسوأ يا ملك: انتي عايزة حد يحافظ عليكي، وأنا معنديش مانع أكون مع بنت كل ساعة
نهضت من مقعدها، ‫ أمسكتْ بحقيبة يدها وهي تهمّ بالانصراف، وقالت لي ما يُشبه التعليمات النهائية التي سأطبّقها بإراداتي أو بدونها: بصّ يا أشرف.. أنا هفضل أحبّك.. دي حاجة مريّحاني.. بسطاني.. أنت تحبّني متحبنيش أنتَ حر… وانت هترجع تاني تردّ عليّا لما أكلمك.. وتشوف رسايلي وتقولي يا حبيبتي وتبعتلي إيموشن القلب الأزرق اللّي بحبه، وأنا هعملك صورك “استيكرز”، وهبعتلك على الواتساب، وانتَ تقولّي تصبحي على خير يا ملك حياتي.. وانا أقولك وانت خيري يا أشروف حياتي، آه وابقى شيل القرف بتاع السّت اللّي كانت بايتة عندك امبارح من ورا الكنبة، يخرب بيت ذوقها لأنّها اختارت الألوان دي ويخرب بيت ذوقك إنّك اخترتها، ويخرب بيت ذوقي إنّي حبيتك.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
2 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.