اكتسب مجتمع الرَّوعة خِبرةً كبيرة في استِرجاع البيانات من النُّسخ الاحتياطية؛ ففي عصر
الشفاء من الموت، يعيش الناس بتهوُّرٍ إلى حدٍّ ما. ومن ثَمَّ يُعاد تحديث بعض الناس
عشرات المرَّات في العام الواحد.
لا ينطبِق هذا عَلَي؛ فأنا أكرَه هذه العملية، ولكن ليس على النحو الذي يَمنعني من
المشاركة فيها. فكلُّ من كانت لديهم تساؤلات فلسفية وجودية مُهمَّة حول هذا الأمر، كما
تعلمون، تُوفُّوا منذ جيلٍ كامل؛ ومن ثَمَّ لم يحتَج مُجتمع الروعة لتغيير مُعتقدات مُنتقِديه؛
كل ما كان يحتاجُه أن يكون أطول عُمرًا منهم فحسْب.
كانت أول مرة أموت فيها بعد مدَّة قصيرة من عيد ميلادي السادس عشر. كنتُ
أمارس الغَوص تحت الماء على شاطئ بلايا كورال بالقُرب من فيراديرو بكوبا. لا أتذكَّر
الواقِعة بالطبع، ولكن من خلال مَعرفتي بعاداتي في مَوقِع الغطس هذا تحديدًا، وبعد
قراءة سِجِلَّات الغطس التي دوَّنَها أصدقائي الغطَّاسون، أعدتُ تشكيل الأحداث لأكوِّن
صورةً عمَّا حدَث.
كنتُ أسبحُ عبر كهوف جراد البحر بقِناعٍ وأنبوبة أكسجين كنتُ قد استعرْتُهما، كما
استعرْتُ بذلة غطسٍمُبتلة، ولكنني لم أرتدِها؛ فقد كانت المياه المالِحة ذات الحرارة المُعتدِلة
كالبلسم، وكرهتُ أن أضعَ حواجز بينها وبين بشرَتي. كانت الكهوف مُؤلَّفةً من الشُّعَب
المُرجانية والصخور وكانت تلتفُّ وتتلوَّى كالأمعاء. وخلال كلِّ حفرةٍ وعند كلِّ ركنٍ كان
يُوجَد جسمٌ كرويٌّ أجوفُ قاسٍ ذو جمالٍ عجيب لا مَثيل له. كان جراد البحر العِملاق
يتحرَّك بسرعةٍ وخفَّة فوق الجُدران المرجانية وعبر الحُفَر، وكانت أسرابٌ من الأسماك
ذات بريقٍ كبريق الجواهر تَثِبُ فجأةً وتُنَفِّذ مُناورةً بِدقَّة تحبِس الأنفاس حينما أقطع انشغالها بمروري إلى جوارها. إنَّ أفضل أوقات التفكير بالنسبة لي هي ما أقضيها تحت الماء، وغالبًا ما أستغرِق في التفكير الحالِم بشكلٍ خطير وأنا في الأعماق. عادة ما يحرِص رِفاقي الغوَّاصون على ألَّا أؤُذي نفسي، إلَّا أنني انجرفتُ بعيدًا عنهم هذه المرَّة ودخلتُ حفرةً صغيرة. وعلَقْتُ بداخلها. كان رفاقي الغوَّاصون خلفي، فطرقتُ بقوَّةٍ على أنبوبي بمِقبضسكيني حتى وضعَ واحدٌ منهم يدَه على كتِفي. لقد أدرَكوا ما كان يحدُث، وحاوَلوا سحْبي إلى الخارج وتخليصي، ولكنَّ أنبوب الأكسجين وصديري التحكم في الطفْوِ كانا مَحشورَين بشدَّة. تبادل رفاقي الآخرون الإشارات اليدوية، في نِقاش صامت لأفضل الخيارات لتحريري. وفجأةً صرتُ أضرِب وأركُل بعُنفٍ ثم اختفَيتُ داخل الكهف، ولكن دون الصديري وأنبوب الأكسجين؛
كنتُ على ما يبدو، أحاوِل قطعَ أحزِمة الصديري ونجحتُ في قطع أنبوب المُنظِّم. وبعدما استنشقتُ دفقةً من مياه البحر،صرتُ حرٍّا ورحتُ أضرِب بعنفٍ في الكهف وأتدحرَجُ داخل بُقعةٍ وَحشيَّةٍ من الشُّعَب المُرجانية النارية الطويلة. استنشقتُ دفقةً أخرى من الماء ملء رئتيَّ، وأخذتُ أركُل بجنونٍ مُحاولًا الوصول إلى ثُقبٍ صغير في سقف الكهف، حيث تمكَّن رِفاقي من استعادَتي بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، وقد غطَّى اللون الأزرق جسدي بالكامل جرَّاء تعرُّضي للغرَق إلَّا من البُقَع الكبيرة الحمراء من آثار الضربات التي تلقَّيْتُها من الشُّعَب المرجانية اللاسِعة.
في تلك الأيام، كان صُنعُ نُسخة احتياطية أكثرَ تعقيدًا بكثيرٍ ممَّا هو عليه الآن. فقد كانت العملية تَستغرِق يومًا كاملًا تقريبًا، وكان لا بُدَّ من إجرائها في عيادةٍ تخصِّصة. ولكن لحُسن الحظِّ كنتُ قد خضعتُ لواحدةٍ قبل بضعةِ أسابيع من سَفَري إلى كوبا مُباشرة، أما نُسخَتي الاحتياطية التالية الأحدَث، فكانت منذ ثلاثِ سنواتٍ بعد انتهائي من سِيمفونيتي الثانية.
استُعِدتُ من نسخةٍ احتياطية ووُضِعتُ داخل مُستنسَخٍ مُكتمِل النموِّ في مستشفى تورونتو العام. على حدِّ عِلمي، فقد استلقَيتُ في عيادة النَّسخ الاحتياطي ثُمَّ استيقظتُ من المَوت في اللحظة التالية، وقضيتُ عامًا تقريبًا أحُاوِلُ التغلُّبَ على الشعور بأنَّ العالَم أجمع يُمازِحني مُزحةً بَشِعة وأنَّ الجُثَّة الغارِقة التي رأيتُها كانت جُثَّتي بالفِعل. في عقلي، كانت ولادَتي من جديدٍ مَجازيَّة وحَرْفية أيضًا؛ فكان الوقت الذي اختفيتُ فيه كافيًا لأجِدَ نفسي مُرتبكًا وأواجِهَ صعوبةً في الاختِلاط مع أصدقاء ما قبل الموت. أخبرتُ دان بالقصَّة خلال صداقتنا الأولى، وبادر على الفور بالتعليق على حقيقة ذَهابي إلى عالم ديزني لأمضيهناك أسبوعًا لمُحاولة فَهم ما كنتُ أشعُر به، وإعادة تجديد نفسي، والانتِقال إلى الفضاء والزَّواج من امرأةٍ مجنونة. فقد وَجَد غرابةً شديدة في فِكرة إعادة تحميل نفسي دائمًا في عالَم ديزني، وعندما أخبرتُه أنَّني سأعيش هناك في يومٍ من الأيام، سألَني ما إذا كان ذلك يَعني أنَّني قد انتهيتُ من إعادة تجديد نفسي. أحيانًا، حينما أمُرِّر أصابعي عبر خُصلات شَعْر ليل الحمراء المُجعَّدة الجميلة، أفكر في مُلاحظته تلك وأتنهَّد بارتياح وأتعجَّب كم كان صديقي دان نافِذ البصيرة.
في المرة الثانية التي مِتُّ فيها كانت التكنولوجيا قد تطوَّرَت إلى حدٍّ ما. أصابتْني سكتةٌ دِماغية شديدة في عامي الثالث والسبعين، ووقعتُ على الأرضية الثلجِية في مُنتصَف مُباراة هوكي بالدَّوري الداخلي، إلَّا أنه بِحلول الوقت الذي نَجحوا فيه بِقطْعِ خَوذَتي وإزاحَتِها عن رأسي، كان الورَم الدَّموي قد سَحَقَ دماغي بالفعل وحوَّلها إلى كُتلةٍ لزِجَة من الدَّم الفاسد. رَقدتُ مُهلهَلًا مُتناثِرَ الأجزاء في عملية النَّسخ الاحتياطي، وفقدتُ أحداث سنةٍ تقريبًا، ولكنَّهم أيقظوني بِرفقٍ باستِخدام نُسخةٍ حاسوبية مُختصَرة من الأحداث التي وَقعتْ في هذا الفاصل الزَّمني الضائع، وظلَّ أحد الاستشاريِّين يَتواصَل معي يوميٍّا على مَدار عامٍ حتى بدأتُ أشعُر بالارتياح وأعتادُ جسدي مرَّةً أخرى وعُدتُ إلى سابِق عَهدي. وأعُيدَ تَشغيلُ حياتي مرَّةً أخرى ووجدتُ نفسيفي عالَم ديزني أقتلِعُ العَلاقات التي كوَّنتُها سابِقًا من جُذورها على نحوٍ مُمنهَجٍ وأسْطُر بدايةً جديدة في مدينة بوسطن، حيث عشتُ في قاع المُحيط أعمَل على حاصِداتِ المَعادِن الثقيلة، وهو المشروع الذي قادَني في نهاية المَطافِ
إلى كتابة أطُروحَتي في الكيمياء بجامِعة تورونتو. بعدما أرُدِيتُ قتيلًا في غرفة التيكي، أتُيحَتْ لي الفُرصة لأثَُمِّن الطَّفَرات الكبيرة التي حقَّقتْها عمليَّات استِرجاع البيانات خلال السنوات العشر الماضية. فقد استيقظتُ في سريري، وسُرعان ما أدركتُ الأحداث التي قادَتْ إلى مَوتي الثالث من وِجهات نظَر أطرافٍثلاثة مُختلفة: اللقَطات التيصوَّرتْها كاميرات المُراقَبة في أرضالمُغامرة، والذِّكريات المُجمَّعة التي استُخرِجَت من نُسخة دان الاحتياطية، ومن مَشهدٍ مُوَلَّد بواسطة الكمبيوتر
لمَوتي من زاويةٍ عُلويَّة. استيقظتُ شاعرًا بالهدوء والبَهجة على نحوٍ خارِق للعادة، مُدركًا أنَّ هذا الشعور ناتِج عن وَضْع أجهزة تنشيط مُؤقَّتة للناقِلات العصبية عند استِرجاعي.
جلس دان وليل بِجوارسريري وكانت خُصلات الشَّعْر التي انفكَّتْ من ذيل حِصانها المربوط تُحدِّد وَجهَها المُتعَب الباسِم. أخذتْ يدي وقبَّلَت مفاصِل أصابعي الناعِمة، وابتسم لي دان في حنان، ليَغمُرَني شعور دافئ مُطَمئِنٌ بأنَّني مُحاطٌ بشخصَيْن يُحبَّانِني حقٍّا. حاولتُ البحث عن كلِماتٍ تُناسِب المَوقِف، وقرَّرتُ الارتِجال، ففتحتُ فمي، ولِدَهشَتي قلتُ:
«! لا بُدَّ أن أقضيحاجَتي »
ابتسمَ دان وليل أحدُهما للآخر. نهضتُ من السرير مُترنِّحًا عاريًا ومشيتُ إلى الحمَّام
بخطًى قوية أحدثَتْ صَوتًا عالِيًا. كانت عَضَلاتي مَرِنةً على نحوٍ رائع، وتنبض بطاقةٍ
وحركة جديدتَين. بعدما أفرغتُ صندوق الطَّرد، انحنيتُ وأمسكتُ بكاحليَّ وجذبتُ رأسي
نحوَ الأرض مُستشعِرًا المُرونة الهائلة لظهري وساقيَّ ورِدفيَّ. اختفتْ إحدى النُّدوب من
رُكبتي، كما اختفتِ الْخُطوط المُتقاطعة العديدة التي كانت مَحفورةً في أصابعي. وحينما
نظرتُ في المرآة وجدتُ أنَّ أنفيَ وَشحمةَ أذُني قد صارتا أصغر حجمًا وأكثرَ تناسُقًا، وكذا
اختفَتِ التَّجاعيد حول عَينيَّ وخطوط العُبوسبين حاجِبي، ونَما لي شَعْر جديدٌ في كلِّ مكانٍ
في جسدي: في رأسي ووجْهي وإبِطي وعانَتي وساقي. مرَّرتُ يديَّ فوق جسَدي وضحكتُ
ضحكةً مكتومة لهذا الشُّعور المُدغدِغ بالتجدُّد. راوَدَني إغراءٌ عابِر بأن أحلِق شعْر جسدي
بأكمله، فقط لأحتفِظ بهذا الشُّعور بالتجدُّد إلى الأبد، ولكنَّ أجهزة التحكم في الناقِلات
العصبية كانت في طريقها للتبخُّر، وتسلَّلَ إليَّ شيئًا فشيئًا شعورٌ مُلحٌّ يتعلَّق بجريمة قَتلِي.
ربطتُ مِنشفةً حول خَصري وعُدتُ أدراجي إلى الغرفة مرةً أخرى. كنتُ أشمُّ رائحة
مُنظف البلاط والزهور واستعادة النشاط والشباب بقوَّةٍ في أنفي، وكانت رائحةً قوية نفاذة
كرائحة الكافور. وقفَ دان وليل حِينما دخلتُ إلى الغرفة وساعَداني لأذهبَ إلى السرير،
«! حسنًا، هذا سيئ » : فقلت
كنتُ مُتَّجِهًا مُباشرة من محطة الإرسال عبر أنفاق المرافق؛ هكذا عرضت ثلاث لقطاتٍ
سريعة التقطتْها كاميرات المراقبة؛ واحدة في محطة الإرسال، والثانية في الرُّواق، والثالثة
عند المخرج في الممرِّ السُّفلي الواقِع بين ساحة الحرية وأرض المُغامرة. كنتُ أبدو مُرتبكًا
وحزينًا بعض الشيء حينما وَلَجتُ من الباب، وبدأتُ أشقُّ طريقي عبر الزِّحام بشكلٍ من
أشكال الخُطى القصيرة المُراوِغة والسريعة ابتكرتُها أثناء قِيامي بالعمل المَيداني الخاصِّ
برسالتي عن التحكم في الحُشود. شققتُ طريقي سريعًا عبر الحشود المُسارِعة لتناوُلِ
الغَداء نحوَ السطح الطويل لغُرفة التيكي المُغطَّى بشرائطَ من الألومنيوم المُتلألئ مُقطَّعةً
ومَطلِيَّة لتبدو كأنها حشائش طويلة.
والآن كنتُ أشاهد لقَطات غير واضحةٍ لي، من وجهةِ نظر دان، وأنا أقترِب منه، مارٍّا
بالقُرب من مجموعةٍ من المُراهِقات لهنَّ مرافِق ورُكَب إضافية ويَرتدِين عباءاتٍ مُكيَّفة بيئيٍّا
وأوشِحةً مُغطَّاة بشِعارات مركز إبكوت، وكانت إحداهنَّ ترتدي إحدى الخوذات اللُّبِّية التي
الذي يقَع خارج لُعبة جولة الأدغال. يُشيح دان بنظرِه بعيدًا « تجار الأدغال » تُباع في مَتجر
تِجاه مدخل غرفة التيكي التي كان فيها طابور قصير من المُسنِّين ثُمَّ أدار عينَيه رُجوعًا
إلى حيثُ كان ينظُر مرةً أخرى، في حين كانت الفتاة ذات الخوذة اللُّبِّية تسحَب مُسدَّسًا
حيويٍّا صغيرًا وأنيقًا وكأنه قضيبٌ له ذَيل يلتفُّ حول ذِراعها. ثم رفعَتْ ذِراعها بعفْوِية
مُبتسِمة، ولوَّحت بالمُسدَّس، تمامًا كما تُلوِّح ليل بإصبعها عند تحميل البيانات، فاندفع
المُسدَّس إلى الأمام. ينظر إليَّ دان مرةً أخرى، ليجِدَني أترنَّح. وبينما تُغرِق أشلاء غُضروفي
الشَّوكي وأحشائي الزائرينَ من حَولي، اندفعَت رئتاي منصدري أمامي وتباعدَت إحداهما
عن الأخرى كجَناحَين. يَطير جُزء من بطاقة اسمي، التي أصبحت شظايا الآن، وتُصيب
جَبهة دان ما يتسبَّب في الطرف بعينَيه، وحينما ينظُر مرة أخرى يجِد الفتَيات المُراهِقات
لا يزلْنَ هناك، بينما اختفَتِ الفتاة التي كانت تحمِل المُسدَّس قبل وقتٍ طويل.
أمَّا اللقطات التي التُقِطت من أعلى، فكانت أقلَّ تشويشًا. كان جميع الأشخاصمُظلَّلين
باللَّون الرَّمادي، ما عدا أنا ودان والفتاة. كنَّا مُحدَّدين باللَّون الأصفر ونتحرَّك بالتصوير
البطيء. وبينما تحرَّكت الفتاة من منزل الشجرة الخاصِّبعائلة روبنسون السويسرية في
اتجاهصديقاتها، ظهرتُ خارجًا من المَمرِّ السُّفلي. يبدأ دان في التحرُّك نحوي، وترفَع الفتاة
ذِراعيها وتضغط على المُسدَّس، فتنطلِق الرصاصة الذكية الذَّاتية التوجيه، المُصمَّمة للتعرُّف
على كيمياء جسدي، على ارتفاعٍ مُنخفِضبالقُرب من مستوى الأرض، وتشقُّ طريقها بين
أقدام الحُشود بسرعةٍ أقلَّ قليلًا منسرعة الصوت. وعندما تصِل إليَّ تخترِق عمودي الفقري
صعودًا وتنفجِر بمُجرَّد دخولها تَجويفي الصدري.
أمَّا الفتاة، فكانت قد قطعَتْ بالفِعل مسافةً كبيرة في اتِّجاه العَودة إلى أرضالمُغامرة؛
الشارع الرئيس عند بوابة الولايات المُتحدة الأمريكية. تتحرَّك الكاميرا الطائرة بسرعةٍ أكبر
لتلحَقَ بها وهي تندَسُّ بين الحشود في الشارع وتتفاداهم وتشقُّ طريقها خلالَهم مُتَّجِهة
نحوَ الممرِّ المؤدِّي إلى قلعة الجمال النائم. تختفي، ثم تظهر مرَّة أخرى بعد أربعين دقيقة
في أرضالغدِ بالقُرب من مجمع الجبل الفضائي الجديد، ثم تختفي مرة ثانية.
هل تَعرَّفَ أيُّ » : بمجرَّد أن انتهيتُ من مُعايشة تلك الأحداث في خَيالي، سألتُ قائلًا
بدأ الدَّم يَغلي في عُروقي الآن ولأوَّل مرةٍ تُطبَق قبضتايَ «؟ شخصٍ على هوية هذه الفتاة
الجديدتان الناعِمَتان وأطراف أصابعي الغَضَّة.
لم ترَها أيٌّ من الفتيات اللاتي كنَّ معها من قبل. كان وَجهُها » : هزَّ دان رأسه قائلًا
كانت سفن سيسترز مجموعة «.« الأمل » واحدًا من أقنِعة مجموعة سفن سيسترز؛ قِناع
رائجة من الأقنِعة التي كانت كلٌّ فتاةٍ مُراهِقة تحرِصعلى ارتداء واحدة منها.
«؟ وماذا عن مَتجر جانجل تريدرز؟ هل لدَيهم سجِلٌّ لمَبيعات الخوذات »
لقد راجَعْنا سجِلَّات مَبيعات جانجل تريدرز على مدار الستَّة أشهر » : عبسَتْ ليل قائلة
الماضية؛ ثلاثٌ فقط ممَّن اشترَيْنها طابَقْنَ عُمر الفتاة الظاهري، ولدَيهنَّ جميعًا حُجَج
«. غِياب مُوثَّقة. يبدو أنها قدسرقَتْها
ورأيتُ في عَيني خَيالي رِئتيَّ تندفِعان من صدري كالأجنِحة، «؟ لماذا » : سألتُ أخيرًا
كقناديل البحر، والفقرات تتناثَرُ كالشظايا. رأيتُ ابتسامة الفتاة الصغيرة، كانت ابتسامةً
مُثيرة حِسِّيٍّا، وهي تَسحَبُ الزِّناد وتُوجِّهه نَحوي.
لم يكن الأمر عشوائيٍّا. لقد كانت الرصاصة مُصمَّمة للتعرُّف عليك بكلِّ » : قالت ليل
«. تأكيد، وهذا يعني أن هذه الفتاة اقترَبَت منك عند نقطةٍ ما
صحيح، وهو ما يعني أنها زارت عالم ديزني خلال السنوات العشرة الماضية. وهكذا
قلَّصنا نِطاق البحث.
«؟ ماذا حدَث لها بعدَما غادَرَت أرضَالغد » : سألتُ قائلًا
«. لا نعلم. ثَمَّة عُطلٌ أصاب الكاميرات ففَقَدناها ولم تُعاود الظهور قط » : أجابت ليل
بدَت نبرة ليل حادَّة وغاضبة؛ إذ كانت تأخُذ وجود أيِّ مُعدَّات مُعطلة في المملكة السحرية
على مَحْملٍ شخصي.
فقد «؟ مَن قد يرغبُ في فِعل ذلك » : تساءلتُ مُبغضًا نبرة الرثاء التي بَدَت في صوتي
كانت أول مرة أقُْتَلُ فيها، ولكن لم يكن عليَّ أن أبُالِغ في ردَّة فِعلي تجاه الأمر هكذا.
في بعضالأحيان يأتي الناس » : ارتسمَتْ على وجه دان نظرة شاردة ثم تحدَّث قائلًا
بأفعالٍ لأسبابٍ تبدو مَنطقية تمامًا بالنسبة لهم، أسباب قد لا يفهمها باقي العالم. لقد
ثُمَّ «. شاهدتُ بعض الاغتيالات، ولم تبدُ منطقيةً على الإطلاق بعد مرور وقتٍ على حدوثها
أحيانًا يكون من الأفضل البحث عن النفسيات بدلًا من » : مرَّر يده على ذَقنه وأردف قائلًا
«؟ يقوى على فعلشيء كهذا « قد » الدوافع: من
صحيح. كلُّ ما كنَّا نحتاجه هو التحقيق مع جميع المرضى النفسيِّين الذين زاروا
المملكة السحرية على مَدار السنوات العشر الماضية! سيُقلِّص ذلك نِطاق البحث إلى حدٍّ
بعيد! سحبتُ شاشةً ذهنية وتحقَّقتُ من الوقت؛ لقد مرَّ أربعة أيام منذ مَقتلي. كانت لديَّ
مُناوبة عمل؛ إذ كنتُ أتولَّى مسئولية الأبواب الدوَّارة بالقصر المسكون. كنتُ أحبُّ العمل
بدَوامٍ أو اثنين من هؤلاء في الشهر حتى أبُقي قدميَّ على أرضالواقع، فقد كان يُساعِدني
على استعادةصَوابي وأنا أطهو في المناخ النقيِّ لِمُحاكاة السيطرة على الحشود الخاصة بي.
نهضتُ وذهبتُ إلى خِزانتي وبدأتُ في ارتداء ملابسي.
«؟ ماذا تفعل » : سألتْنِي ليل بقَلَق
«. حان وقتُ المُناوَبة. لقد تأخَّرت »
«. ولكنك لستَ في حالةٍ تسمح لك بالعمل » : أجابَت ليل وهي تَجذِبُني من مرفقي
فسحبتُ نفسي بعيدًا لأتحرَّر منها.
لن أسمح » : ثم أطلقتُ ضحكةً جافَّة وأردفتُ قائلًا «. أنا بخير. إنني بأفضل حال »
«. لهؤلاء الأوغاد بتعكير صفو حياتي بعد الآن
هؤلاء الأوغاد؟ فكرتُ في نفسي، متى قرَّرتُ أنهم أكثرُ من شخص؟ ولكنني كنتُ أعلم
أنني على حق. من المُستحيل أن يكون شخصواحد قد خطط لكل ذلك؛ فقد نُفِّذَ كلُّشيءٍ
بدقَّةٍ وإتقان مُتناهِيَين.
انتظر لحظة، أنت بحاجة إلى » : تحرَّك دان ليسُدَّ طريقي إلى باب غرفة النوم قائلًا
«. الراحة
فتنحَّى جانبًا. «. أنا من سأقرِّر ذلك » : رمقتُه بنظرة كئيبة قائلًا
«. سأرافقك إذن، فقط من باب الاحتياط » : ردَّ دان
ضغطتُ لاستِعراض نِقاطي من الووفي ووجدتُ أنها ارتفعت بضع شرائح مئوية
نتيجةً لنقاط التعاطُف التي اكتسبتُها، إلَّا أنها كانت تنخفِض الآن؛ فقد كان دان وليل
يشعَّان سُخطًا واستهجانًا. تبٍّا لهما!
استقللتُ سيارتي الصغيرة وسارع دان نحو باب مقعد الراكب في حين أدرتُ المُحرِّك
وانطلقتُ مُسرعًا.
سألني دان وأنا أنعطِفُ بالسيارة نحو الناصية الموجودة عند نهاية طريقنا المسدود:
«؟ هل أنت واثق أنك بخير »
«. ولم لا؟ إنني بأفضل حال وكأني شخصجديد »
يا له من اختيار مُضحك للألفاظ! قد يظنُّ البعض أنك شخص جديد » : فردَّ قائلًا
«. تمامًا
لن نعود إلى هذا الجدال مرة أخرى. أشعر أنني كما كنتُ وليس لأيِّ » : تذمَّرتُ قائلًا
شخصٍآخر أن يدَّعي غير ذلك. فمن يهتمُّ ما إذا كنتُ قد استُرجِعتُ من نُسخةٍ احتياطية
«؟ أم لا
«؟ ما أريد قوله هو أن ثَمَّة فَرقًا بينك وبين نُسختك المطابقة. أليس كذلك »
كنت أعلم جيدًا ما يفعله. كان يُحاول إلهائي بواحدٍ من جدالاتنا القديمة، إلَّا أنني
لم أتمكن من مُقاومة الطُّعم، كنتُ أسوق براهيني واحدًا تلوَ الآخر، فساعدَني ذلك على أن
أهدأ قليلًا. كان دان هذا النوع من الأصدقاء الذي يَعرفُك أكثر مما تعرِف نفسك. أردفتُ
إذن أنت تقول إنك إذا مُحيتَ وأعُيدَ خلق كلِّ ذرَّة فيك من جديد، فلن تُصبح ما » : قائلًا
«؟ كنتَ عليه من قبل
بصورة جدلية، بالطبع. أن تُدَمَّرُ ويعاد خلقك من جديد يختلف عن » : أجاب قائلًا
«؟ عدم تعرضك للتدمير مطلقًا، أليس كذلك
راجِع معلوماتك عن ميكانيكا الكمِّ يا صديقي. إنك تُدمَّر وتتجدَّدُ تريليون مرة في »
«. الثانية الواحدة
«… على مُستوًى محدود جدٍّا جدٍّا » : فردَّ
«؟ وما الفارق الذي يُحدثه ذلك »
حسنًا، سأتغاضىعن ذلك. ولكنك لستَ نُسخة طبق الأصل. أنت مُستنسَخ، ودماغك »
«. مُستنسَخة، وهذا يختلف عن الدمار الكمي
من اللطيف حقٍّا أن تقول ذلك لشخصٍ قُتِلَ لِتوِّه يا صاحِ. ألديك مشكلةٌ ما مع »
«؟ المُستنسَخين
وانطلقنا مُسرعَين.
كان طاقم عمل القصرالمسكون مُبهِجين ومُواسِين بشكلٍ مُثير للاشمئزاز. فكان كلُّ واحد
منهم يحرِص على الاقتراب منِّي ومُلامَسة كَتِف سُترة رئيس الخدَم القاسية المُنَشَّاة التي
كنتُ أرتديها ويسألني إذا كان يُمكِنه مُساعدتي بأيِّ شكل … ابتسمتُ لهم جميعًا نفس
الابتسامة الثابتة وحاولتُ أن أركِّز على الزوار؛ كيف ينتظرون، ومتى وَصلوا، وكيف تفرَّقوا
عبر بوابات الخروج. كان دان يحوم على مَقربةٍ منِّي، وأحيانًا ما كان يأتي إليَّ، في رحلةٍ
تستغرِق ثماني دقائق واثنتَين وعشرين ثانية، كي يُخفِّف من إزعاج أعضاء فريق العمل
الآخَرَين لي.
كان قريبًا منِّي عندما حان وقتُ استراحتي. بدَّلتُ زِيَّ العمل بملابسيالعادية ومَشَينا
عبر الشوارع المرصوفة بالحصى، مرورًا بقاعة الرؤساء، ولاحظت أثناء انعطافي حول الزاوية
«. لقد فعلوه » : أن ثمَّة شيئًا مُختلفًا في منطقة اصطفاف الطوابير. غمغم دان قائلًا
نظرتُ عن كثَبٍ فوجدتُ الأبواب الدوَّارة مُغلقة بلافتةٍ إعلانية ذات وَجهَين على شكل
ميكي يرتدي باروكةَ بِين فرانكلين ونظارته ثنائية البؤرة ومُمسكًا بمِجرفةٍ كُتِب عليها:
«! نأسَفُ على الإزعاج! أعمال تجديد من أجل خدمةٍ أفضل »
لمحتُ أحد المُقرَّبين من دِبرا يقِف خلفَ اللوحة وقد ارتسمتْ على وجهه ابتسامة رضا
عن النفس. كان من الصينيين الشماليين وكان في بداية حياته قصيرًا وبدينًا، ولكنه خضع
لعملية تطويل عِظام ورَفْع لعظام الوَجْنَتَين حتى بدا وكأنه عفريت. ألقيتُ نظرةً واحدة
على ابتسامته وفهِمتُ ما يَجري: لقد نجحَتْ دِبرا في وضع مَوطئ قدمٍ لها في ساحة الحرية.
لقد قدَّموا خططًا تتعلَّق بالقاعة الجديدة إلى لجنة التوجيه بعد ساعةٍ من » : قال دان
«. مَقتلك، وقد أعُجبَتِ اللجنة بتلك الخطط، وكذا الشبكة. ويتعهَّدون بعدَم الِمساسبالقصر
«. أنتم لم تذكروا هذا » : قلتُ مُحتدٍّا
ظننَّا أنك ستستنتِج ذلك. كان التوقيتُ سيئًا، ولكن لا يُوجد دليل على أنهم وضعوا »
خطَّة مَقتلك للقاتل. لدى الجميع حجَّةُ غياب، كما أنهم عرَضوا تقديم نُسَخِهم الاحتياطية
«. كدليل إثبات
حسنًا، حسنًا. إذن فقد كان لدَيهم خُطط مُجهَّزة بالفعل لتجديد القاعة من قبيل »
الصُّدفة، وقدَّموها بعد مَقتلي من قبيل الصُّدفة، حينما كان جميع أعضاء اللجنة قَلِقين إزاء
«. ما ألمَّ بي. إن الأمر كله مُجرَّد مُصادفة كبيرة
لسنا أغبياء يا جولز. لا أحد منَّا يظنُّ أنها مُجرَّد مُصادفة. إن » : هزَّ دان رأسه قائلًا
دِبرا من الأشخاصالذين يحتفظون بالكثير من الخُطَط البديلة من باب الاحتياط، ولكن
«. هذا لا يجعل منها قاتلة، بل مُجرَّد شخصٍانتهازي مُستعدٍّ جيدًا لمواجهة أيشيء
شعرتُ بالغَثَيان والإرهاق. اتَّجهتُ إلى أحد أنفاق المرافق، كوني أحد أعضاء فريق
العمل، ومن ثَمَّ انهرتُ قُبالة أحد الجُدران مُسنِدًا رأسي إليه. تسرَّب إليَّ شعور بالهزيمة
حتى تملَّكني تمامًا.
افترِضْ » : جثَمَ دان على الأرضإلى جواري، نظرتُ له فوجدتُ على وجهه ابتسامةً هازئة
«. في الوقت الحالي أن دِبرا قد فعلَتْ هذا حقٍّا وأوقعَتْ بك حتى تتمكن من تَولِّي السلطة
ابتسمتُ رغمًا عنِّي. كانت هذه طريقتُه في توضيح الأمور وفي التصرُّف كلَّما كنتُ أقَع
«. حسنًا، لقد افترضتُ ذلك » : في واحدٍ من ألاعيبه البلاغية في الماضي
أولًا: لماذا تقتُلُك أنت بدلًا من ليل أو أيٍّ من الأعضاء القُدامى الأصليِّين؟ ثانيًا: لماذا »
تسعى للسيطرة على قاعة الرؤساء وليس على جزيرة توم سويَرْ أو حتى القصرالمسكون؟
«؟ ثالثًا: لماذا قد تعقُب كلَّ ذلك بحركةٍ مُثيرة للشكوك وفاضحة كهذه
حسنًا. أولًا: أنا مُهمٌّ بما فيه الكفاية لأكون مُثيرًا للمشاكل، » : أجبتُ مُتأهِّبًا للتَّحدِّي
ولكنني لستُ على القدْر نفسه من الأهميَّة لأقيم تحقيقًا كاملًا. ثانيًا: جزيرة توم سويَرْ
واضحة جدٍّا للعَيان، لا يمكن تجديدها دون أن يرى جموعُ الناس الغُبارَ المُتطاير من
الشاطئ المُقابل. ثالثًا: لقد قضتْ دِبرا عقدًا في بكين، حيث الدقَّة والدَّهاء لا يُشكِّلان أهمية
«. كبيرة
ثم انطلق كالِمدفَع يَسرِد ردَّه، وبينما كنتُ بدَوري أجهِّز «. بالطبع، بالطبع » : قال دان
إجابتي، ساعدَني لكي أنهَضورافقَني إلى سيارتي الصغيرة وهو يُجادِلني طوال الطريق،
حتى إنَّني في الوقت الذي لاحظتُ فيه أننا لم نعُد في المُتنزَّه، كنتُ قد وصلتُ إلى المنزل
ومُستلقِيًا في السرير.
مع توقُّف الدُّمي المُتحرِّكة في قاعة الرُّؤساء وتخزينها خلال فترة التجديد، صار لدى ليل
مزيد وقتٍ حتى إنها لم تكن تعرِفماذا تفعل به. كانت إما تتجوَّل حول الكوخ الصغير، أو
يجلس كلانا في غرفة المعيشة يُحدِّق إلى النوافذ بنظرةٍ خالية من التعبير، نستنشِق أنفاسًا
سريعة وسطحية من هواء فلوريدا الساخن الخانق. كانت بِحَوزتي المُلاحظات الخاصة
بعملي عن إدارة طوابير الانتظار الخاصة بالقصر، وأخذت أستعرضها بلا هدف. كانت
ليل في بعض الأحيان تعكس شاشتي الذهنية حتى تتمكن من رُؤيتي وأنا أعمل، وتُقدِّم
اقتراحاتٍ استنادًا إلى خِبرتها الطويلة.
كانت زيادة الإنتاجية دون التأثير سلبًا على التجربة التي سيحظى بها الزائر عملية
حسَّاسة ودقيقة. ولكن كل ثانية كنتُ أتمكن من إنقاصِها من زمن طوابير انتظار الخروج،
كانت تُمكنني من إدخال ستِّين زائرًا جديدًا واستقطاع ثلاثين ثانية من إجمالي وقت
الانتظار. وكلما زاد عدد زوار القصر، كان ذلكضربةً قاصمة لرصيد أتباع دِبرا من الووفي
إذا حاولوا التدخُّل لتعطيل ذلك. لذا استعرضتُ ملاحظات عملي بحرصٍ وأمانة ووجدتُ
أن بإمكاني تقليص ثلاث ثوانٍ من زمن لعبة المَقبرة عن طريق تحويل عرَبات الموت إلى
يسار المسرح وهي تنزِل من نافذة العُليَّة؛ فمن خِلال تَوسيع مجال رؤيتهم، تمكنتُ من
عرْضجميع المَشاهِد أمام الزوَّار بسرعةٍ أكبر.
أضفتُ التعديل على جولة الطيران الافتراضية، ونفَّذتُه بعد الانتهاء منه، ودعوتُ باقي
أعضاء اللجنة المسئولين عن إدارة ساحة الحريَّة ليأتوا ويَختبروه بأنفسهم.
كانت ليلة شتوية أخرى رطبة، حلَّ فيها الظلام قبل الأوان. كان بِصُحبة أعضاء
اللجنة ما يكفي من الأصدقاء والأقارب فتمكنَّا من مُحاكاة زمن طوابير الانتظار في غير
أوقات الذُّروة، ووقفنا جميعًا نتصبَّب عرقًا في منطقة انتِظار ما قبل العرْض في انتظار
فتح الأبواب، وكنَّا نسمَع عواء الذئاب وصرخاتٍ أخرى مُرعِبة قادمة من مُكبِّرات الصوت
المُخبَّأة عن الأنظار.
انفتحت الأبواب وظهرتْ ليل ترتدي زِيَّ خادِمةٍ رَثٍّا وعيناها مُحدَّدتان باللون الأسود
وغُطيَتْ بشرتُها بمسحوقٍ أبيضَحتى بدَت في شحوب الأموات. نظرتْ إلينا بتمعُّنٍ وبرود
«. السيد جريسي يطلُب المزيد من الجُثَث » : ثم قالت بنبرة مُنَغَّمة
بينما نحن مُحتشِدون في ظلام الرَّدهة البارد ذي الرائحة الكريهة، حاولَتْ ليل أن
تُداعِبَني بحنان. التفتُّ لأداعِبَها بدَوري، ورأيتُ رفيق دِبرا القَزم يَحوم حول كتِف ليل،
فَذَوَت ابتِسامتي على شفتي.
التقَتْ أعيُنُنا لوهلة، ورأيتُ في نظرته شيئًا ما؛ مَزيجًا من القسوة والقَلَق لم أتمكَّن
من تفسيره. أشاح ببصرِه بعيدًا في الحال. كنتُ أعلَم أن دِبرا سيكون لها جواسيس وسط
الحشود بالطبع، ولكن في وجود فتًى قَزم يُشاهِد ما يحدُث، قرَّرتُ أن أجعل هذا العرْض
هو الأفضل على الإطلاق.
كان تحسين العرْض من الداخل عمليةً حسَّاسة ودقيقة. كانت ليل قد تَنَحَّت جانبًا
من الجِدار المكسوِّ بالألواح الخشبية المؤدِّي إلى الغُرفة المطاطة رقم اثنين، وهي أحدَث ما
تمَّ إصلاحه مُؤخرًا. وبمجرَّد دخول الحشد إلى الغرفة، حاولتُ أن أوجِّه أعيُنَهم عبر تعديل
وَضعِيَّات جسدي بحيث تُوجِّه انتباههم على نحوٍ غير ملحوظ نحوَ الكشافات الجديدة.
وعندما جاء صوت الموسيقى التصويرية، بعد تحسين جودتها مؤخرًا، من خلف تماثيل
الغرغول التي تحمِل مصابيحَ جِدارية في أركان الغرفة المثمنة الأضلاع، أحنيتُ جسدي قليلًا
في اتجاه الصور المُجسَّمة المُتحركة. وقبل أن تنطفئ الأضواء بلحظةٍ واحدة، وجَّهتُ ناظريَّ
بشكلٍ استعراضينحو السقف ذي الستائر ووجدتُ أن الحضور قد لاحظوا إيماءتي، ومن
ثَمَّ كانوا ينظرون حين تدلَّتِ الجثة المُضاءة بالأشعة فوق البنفسجية من السقف الحالك
السواد مُتأرجِحة من عُقدة المشنقة المُلتفَّة حول عُنقها.
اتَّجه الحضور إلى منطقة طابور الانتظار الثانية حيث استقلُّوا عربات الموت. غمغم
الناس بصوتٍ مُنخفض مُندهِشين ونحن نشقُّ طريقنا فوق الرصيف المُتحرِّك. استقللتُ
عربتي وبعد أقلَّ من ثانية استقلَّ أحدُ الأشخاصإلى جانبي. كان القَزم.
كان حريصًا على عدَم النظَر في عيني مُباشرة، ولكني شعرتُ بنظراته الجانبية
الخاطفة نَحوي ونحن نمرُّ أمام الثُّريَّا العائمة دخولًا إلى الرُّواق، حيث كانت أعين الصُّور
المُعلَّقة على الجُدران تراقِبُنا. منذ عامين، زدتُ سرعة هذه الجولة وأضفتُ محورًا دوَّارًا
عشوائيٍّا إلى عربات الموت، مُقلِّلًا خمسةً وعشرين ثانيةً من الزمن الكُلِّي للُّعبة بزيادة من
٢٣٦٥ إلى ٢٦٠٠ زائر في سَعةِ الإنتاجية في الساعة الواحدة. وكان إثبات صحَّة الفكرة
هو ما قاد إلى كلِّ الثواني الأخرى التي نجحتُ في تقليلها منذ ذلك الحين. تسبب التأرجُح
العنيف لعربة الموت في احتكاكٍ غير مقصود بيني وبين القَزم، وبينما كنتُ أحاول الوصول
إلى حاجِز الأمان لمستُ يدَه بغير قصد، فشعرتُ بها باردة ومُتَعَرِّقَة.
كان مُتوتِّرًا! كان مُتوتِّرًا حقٍّا! ما الذي يدعوه للتوتُّر؟ أنا من تعرضتُ للقتل، ربما
كان مُتوتِّرًا؛ لأنه كان من المُفترَض أن يُنهيَ المُهمَّة. رمقتُه أنا الآخر بنظراتي الجانبية،
في مُحاوَلة لرؤية أيِّ انتفاخاتٍ مُريبة في ملابسه الضيِّقة، إلَّا أنَّ العربة من الداخل كانت
مُبطنة بطبقةٍ من البلاستيك الأسود المُحَبَّب ما جعلها مُعتِمةً للغاية. كان دان يجلس في
العربة التي خلْفنا برفقة أحد أعضاء طاقم عمل القصر العاديين؛ فاتصلتُ بقوقعة أذُنه
كانت مُغادَرة أيِّ شخصٍ «. استعدَّ للقفْز من العربة عند إشارتي » : وتحدَّثتُ لاصوتيٍّا قائلًا
لعربته ستتسبَّب في اعتراض طريق الأشعة تحت الحمراء، وهو ما يُوقِف نظام التشغيل.
كنتُ أعلم أن بإمكاني التعويل على ثِقةِ دان بي دون الحاجة للكثير من الشرح، فتمكنتُ
من التركيز على مُراقبة صديق دِبرا عن كثَب.
مرَرْنا بِردْهةِ المرايا ودخلْنا رَدهة الأبواب التي تخرج من عتباتها أيادٍ بَشِعة الشكل
تضغط على المفصَّلات بقوة في حين تُسْمَعُ تأوُّهات مُسجلة ممزوجة بأصوات طرْق عنيف.
فكرت في الأمر: إذا أردتُ أن أقتُل شخصًا في هذا القصر، فما أفضل مكان لفعل ذلك؟
بدا دَرَجُ غرفة العُليَّة — أي الجولة القادمة — رهانًا جيِّدًا. وفجأة أدركتُ حقيقةً قاسية؛
سيَقتُلني القَزم في ظلام الدَّرَج ويقذِف بي من فَوق الحافَة عند المُنعطَف الخفيِّ باتجاه
المقبرة وينتهي الأمر. هل سيستطيع قتلي وأنا أحُدِّق في عَينيه مُباشرة؟ لقد بدا مُتوتِّرًا
للغاية كما كان. استدرتُ في مقعدي ونظرتُ إليه في عَينَيه مُباشرة.
ابتسم لي ابتسامة باهتة وأومأ بالتحية. ظللتُ أحُدِّق إليه وطبَّقتُ قبضتيَّ استعدادًا
لأي شيء. نزلْنا إلى أسفل الدَّرج، رءوسنا لأعلى، نَستمِع إلى الأصوات الصاخبة الآتية من
المقبرة ونَعيق الغُراب الأحمر العَينَين. لمحتُ دُمية حارس المُتنزَّه الآلية المتحركة وهي تهتزُّ
وجفلت، ثم أطلقتصرخةً لا صوتية حادَّة ودُفِعتُ إلى الأمام بقوَّة وقد أخذ نظام تشغيل
اللُّعبة يهتزُّ حتى توقَّف.
«؟ جولز، هل أنت بخير » : سمعتُ صوتَ دان في قوقعةِ أذُُني يقول
لقد سمع صرختي اللاإرادية المُتفاجئة وقفزَ من العربة فتوقفَتِ اللعبة. كان القَزم
ينظرُ إليَّ بمزيجٍ من الشفقة والدَّهشة.
لا صوتيٍّا « ليل » اتصلتُ ب «. كلُّشيءٍ على ما يُرام، كلُّشيءٍ على ما يُرام. إنذار كاذِب »
لأخبرها بأن تُعيد تشغيل اللعبة في أسرع وقتٍ ممكن، وأن كلَّشيءٍ على ما يُرام.
أمضيتُ باقي الجولة واضعًا يديَّ على حاجز الأمان وعيناي مثبَّتتان أمامي، مُتجاهلًا
القَزم بحزم. تفحَّصتُ المُوَقَّت الذي ضبطتُه سابقًا. لقد فشِل العرض التجريبي فشلًا
ذريعًا؛ فبدلًا من تقليل ثلاث ثوانٍ من الزمن الكلي للجولة، أضفتُ ثلاثين! كنتُ أرغب في
البكاء.
ترجَّلتُ من العربة وخرجت مُسرعًا من طابور الخروج، واستندتُ على السور بكلِّ ثِقَلي
وأنا أحُدِّق إلى مقبرة الحيوانات الأليفة بنظرةٍ خاوية. سَبَحَ رأسي في الأفكار: كنتُ فاقدًا
للسيطرة، أقفز خوفًا من خيالات. كنتُ مُرتعبًا.
ولم يكن لديَّ أيُّ سببٍ لهذا الخوف. لقد قُتِلتُ بالتأكيد، ولكن ماذا كلَّفني ذلك؟ بضعة
وهم يُفرِّغون نُسختي الاحتياطية في جسدي الجديد، وفجوة رحيمة « فُقدان الوعي » أيام من
في ذاكرتي منذ رحيلي من محطة النَّسخ الاحتياطي حتى مَقتلي. لم أكن من هؤلاء المجانين
فلم يكن الأمر أنهم فعلوا شيئًا سيدُومضرَرُه على ،« مَحمَل الجد » الذين يأخذون الموت على
أي حال.
أما أنا فقد تسببتُ في أضرارٍ دائمة: فقد أوقعتُ مزيدًا من الضرر بليل، وعرَّضت
أعضاء اللجنة، والأسوأ من ذلك، القصر المسكون، للخطر. لقد تصرَّفتُ بحماقة. تناولتُ
طعام العشاء، وكان عبارة عن برجر تناولتُه دفعةً واحدة، وابتلعتُه بصعوبةٍ لأتغلَّب على
شعوري بالغَثَيان.
شعرتُ بشخصٍخلْفي مُباشرة، فاستدرتُ وعلى وجهي ابتسامةٌ مرتبكة ظنٍّا منِّي أنها
ليل جاءت تسألني عما حدَث، ولكنني وجدتُ نفسي في مُواجهة القَزم.
مرحبًا، لم » : مدَّ يدَه إليَّ وتحدَّث باللهجة الرَّتيبة لشخصٍيُشغِّل برنامجًا لتعلُّم اللغة
تسنَح لنا الفرصة للتَّعارُف، ولكنني أردتُ أن أخُبِرك أنني أستمتعُ بعملك كثيرًا. أنا تيم
«. فانج
صافحتُه بقوَّة ووجدتُ يدَه لا تزال باردةً ورطبةً بالأخصِّفي قلب حرارة مساء فلوريدا
جفَلتُ من صوتي الذي بدا وكأنه نِباح. احذَر — هكذا قلتُ لنفسي— ،« جوليوس » : وأجبت
هذا لطفٌ منك. أنا أحبُّ العمل الذي قُمتم به جميعًا في لعبة » : لا داعيَ لتصعيد العداء
«. القراصنة
ابتسم ابتسامة من القلب وبدا مُحرجًا وكأنه تلقَّى إشادةً كبيرة من أحد أبطاله
حقٍّا؟ أعتقدُ أنه جيِّد جدٍّا، تُتاح لك في المرة الثانية العديد من الفُرَصللتنقيح » : الشخصيِّين
وإيضاح الرؤية. حسنًا، كانت بكين مُثيرة للاهتمام، ولكنهم كانوا في عجلةٍ من أمرِهم كما
تعلم. أعني أننا كُنَّا نُعاني الأمَرَّين. في كلِّ يوم كانت تأتينا دفعة جديدة من واضعي اليد
الراغبين في هدم المُتنزَّه. كانت دِبرا تُرسلني دائمًا إلى الأطفال لآخُذَهم في جولاتٍ حاملًا
إيَّاهم على ظهري حتى نُحافظ على رصيدنا من الووفي وكانت هي تتولَّى إجلاء المُغتصبين.
وكان من الجيد أن تتسنَّى لنا الفرصة لتعديل التصميمات والاطِّلاع عليها مُجدَّدًا دون
«. وجود البرنامج الترفيهي
لديَّ علم بهذا الأمر، بالطبع، لقد شكلَتْ بكين عناءً حقيقيٍّا لمن بَنَوها من أعضاء
اللجنة اللامركزية، فقد قُتل العديد منهم العديدَ من المرَّات المُتتالية. حتى دِبرا نفسها ظلَّت
تُقتَلُ يوميٍّا لمدَّة أسبوع كامل وأعُيد استرجاعها في سلسلة من الأجساد المُستنسَخة مُسبقًا في
اختبار تجريبي أوَّليٍّ لأحد نُظم تشغيل الألعاب، وهو ما كان أسرع من مراجعة المُحاكيات
المُصمَّمة بمُساعدة الكمبيوتر. كان معروفًا عن دِبرا سعيها الحثيث وراء الفرص السانحة.
وأشرتُ برأسيتِجاه القصر. سعدتُ «. بدأت أكتشف شعور العمل تحت ضغط » : قلت
عندما رأيتُه يبدو مُحرَجًا ثم مُرتعبًا.
«! لن نمَسَّ القصرأبدًا، إنه مثالي » : قال
كان دان وليل مُقبلَين نحوي على مهلٍ وأنا أستعدُّ لتوجيه ردٍّسريع. كان القَلَق بادِيًا
عليهما. الآن حينما أفُكر في الأمر، أجدُ أنهما كانا يَبدُوان قَلِقَين للغاية بشأني منذ أن
استُرجِعت.
كانت مِشية دان غريبةً ومتكلفة وكأنه يتكئ على ليل لتساعده على المشي. كانا يبدوان
كحبيبَين، فاعترتْني دفْقة لاعقلانية من الغيرة المُتأجِّجة. كنتُ مُحطمًا عاطفيٍّا. إلَّا أنني
أخذتُ يدَ ليل الكبيرة ذات الندبة في يدي بِمُجرَّد اقترابها منِّي وضممتُها إليَّ حامِيًا. كانت قد
بدَّلت زِيَّ الخادِمة وارتدَتْ ملابسَ عاديَّة: مِئزرًا ذكيٍّا من نَسيجٍ ذي مَسامٍ ضيقة يتنفَّس
بالتزامُن مع تنفُّسها.
ليل، دان، هذا تيم فانج. كان يُخبرني لتوِّه قِصصًا عن الحرب التي دارت في مشروع »
«. القراصنة ببكين
«. لقد كان عملًا شاقٍّا بالفعل » : لوَّحَتْ له ليل وصافَحَه دان بجِدِيَّة قائلًا
خطر لي أن أشُغِّل بعض شاشات الووفي، كان ذلك ردَّ فعلٍ تلقائيٍّا بطبيعة الحال
عند مُقابلة أي شخص، إلا أَنَّني كنتُ لا أزال غير مُتحمِّسٍ له. ضغطتُ على شاشة الووفي
الخاصة بالقَزم ووجدتُ أن لدَيه العديد من نقاط الووفي غير المُباشرة: نقاط احترام نالَها
من أشخاصٍتختلفمُعظم آرائهم عن آرائي، وهو ما كنتُ أتوقَّعه على أي حال. ولكن ما لم
أتوقَّعه أن تكون نقاطه المُرجِّحة — تلك النقاط التي تُعطي مِصداقية إضافية لتصنيفات
الأشخاصالذين أحترِمُهم — مُرتفعةً أيضًا، بل كانت أعلى من نقاطي، وزادَني ذلك ندَمًا
على سلوكي غير اللائق تِجاهه. فالحصول على احترام القَزم — تيم، لا بُدَّ أن أتذكَّر أن
أنُادِيَه تيم — من شأنه أن يكون له ثِقَل وتأثير بين كل المجموعات المؤثرة.
كان رصيد دان في ازدياد، إلَّا أن ملفَّه الشخصيَّكان لا يزال مُتدنِّيًا للغاية. كان قد
حصل على قدرٍ كبير من نقاط الووفي غير المباشرة، وعزوتُ ذلك على نحوٍ غريب إلى حادثة
مَقتلي؛ إذ أعطاه أتباع دِبرا قدْرًا سَخيٍّا من الإشادة والثناء لرَبَاطة جأشِه في التعامُل مع
لملَمَةِ أشلاء جُثَّتي ونقْلِها بعيدًا عن خشبة المسرح، مما قلَّلَ من الاضطراب والفوضىأمام
قراصنتهم المُدهِشين.
كنتُ شاردًا تمامًا، على النحو ذاته الذي استغرقتُ به في أحلام اليقظة وقادَني إلى
الموت وسط الشُّعَب المُرجانية بشاطئ بلايا كورال، ثم استفقتُ منشُرودي جافِلًا، وأدركتُ
أن ليل ودان وتيم كانوا يتجاهَلون انقطاعي عما حَولي بأدبٍ مُخجِل. كان من الممكن أن
أرُاجع ذاكرتي القصيرة المدى لمعرفة فحوى الحديث الذي دار بينهم، ولكن هذه العملية
إذن كيف تسير الأمور في قاعة » : كانت ستُطيل من فترة صمتي، اللعنة! وأخيرًا سألت تيم
«؟ الرؤساء
رمقتْني ليل بنظرة حذرة؛ فقد تنازلت عن القاعة لأعضاء اللجنة التابعين لدِبرا، لمَّا
كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لتجنُّب الظهور بمظهر الطفل الأرْعَن الذي لا يُبالي بنِقاط
الووفي العظيمة. والآن كان عليها الاستِمرار في ادِّعاء التعاوُن المُزيَّف، وهو ما يَعني عدَم
التلصُّصعلى دِبرا والبحث عن حِججٍ للانقضاضعلى عملها.
ابتسم لنا تيم نفس الابتسامة الواهِنة التي حيَّاني بها، ابتسامة بدَت رقيقة على نحوٍ
إننا نُبلي بلاءً حسنًا على ما أعتقد. لقد وضعَت » : رائع على مَلامِحِه الناعمة الدقيقة وقال
دِبرا القاعة نُصبَ عينيها لسنواتٍ طويلة قبل أن تذهب إلى الصِّين. إنَّنا نَستعيض عن
كلِّ شيءٍ بوصلات إرسال ذات نطاقٍ عريض لصُوَر مُتكاملة من حياة كل رئيس: عناوين
الصحف، والخطب والسِّيَر الذاتية المُكثفة، والأوراق الشخصية. سيكون الأمر كما لو أن كلَّ
واحدٍ من هؤلاء الرؤساء قد أفُرِغَ بداخلك في ثوانٍ معدودة. قالت دِبرا إننا سنقوم بتخليق
ولمعتْ عيناه في الشفق. «! الرؤساء في ذهنك في لمح البصر
لم أمرَّ بتجربة التخليق السريع هذه لدِماغي إلَّا مُؤخرًا؛ لذلك فقد لمَس وَصْف تيم
للأمر وترًا بداخلي. لقد كانت شخصيتي تَبدو مَهزوزة قليلًا داخل عقلي وكأنها وُضِعَت على
نحوٍ غير سليم، وهو ما جعل وجود صُور مُتكاملة لحوالي خمسين رئيسًا مكدَّسة داخل
عقلي إلى جانب شخصيتي الأصلية فكرةً جذَّابة على نحوٍ غريب.
«؟ رائع! هذا لا يُصدَّق. وما الذي تُخطِّط له بالنسبة للبِنية التحتية والمنشآت » : أجبت
أَضْفَت المئات من المباني الرسمية التي تعود إلى الولايات المتحدة القديمة على قاعة الرؤساء
أجواءً من الكرامة الوطنية الهادئة، ومن ثَمَّ فالعَبَث بها سيكون كإعادة تصميم أعلام
الولايات الكونفدرالية الأمريكية.
هذا ليس تَخصُّصي في الواقع، أنا مُبرمج، ولكن يُمكنني أن أجعل أحد » : قال تيم
«. المصمِّمين يُرسل إليك بعضالخُطط الخاصَّة بهذا، إذا شئت
سيكون هذا جيدًا. ولكنَّني أعتقِد أننا لا بُدَّ أن » : قالت ليل جاذبةً إيَّاي من مرفقي
وبدأتْ تَجذبني بعيدًا وأمسك دان بمرفقي الآخر. خلفَ ليل، لمعَتْ «. نذهب إلى المنزل الآن
ليبرتي بيل وكأنها كعكة زفاف ضخمة شبحِيَّة في قلب الشفَق.
يا للحظِّ التَّعِس! سيقضيزملائي الليلة في القاعة الجديدة. أنا مُتأكد أنهم » : قال تيم
«. سيسعدون إذا مررتُ عليهم
سيطرتْ عليَّ الفكرة، سأدخل مُعسكر العدو وأجالِسُهم وأعرِف أسرارهم. أجبتُ
كان رأسييَطنُّ قليلًا. أزاحت ليل يديها «! سيكون هذا رائعًا » : سريعًا وبصوتٍ عالٍ للغايةٍ
بعيدًا.
ولكننا سنستيقظ باكرًا في الغد، لديك مُناوبة عمل في الساعة الثامنة صباحًا، » : قالت
كانت تكذِب ولكن كانت هذه هي طريقتها في إخباري «. وسأذهب أنا إلى البلدة لشِراء البقالة
بشكلٍ غير مُباشرأن ما أوُشِكُ على فعله ليس تصرُّفًا ذكيٍّا من وِجهة نظرها، إلَّا أنَّ إيماني
به لم يتزَعْزَع.
مُناوبة الساعة الثامنة صباحًا؟ لا مُشكلة، سأكون هنا بالفعل عندما يَحين » : أجبت
موعدها. سأستحِمُّ سريعًا في حمام سباحة مُنتجع كونتمبراري صباحًا، ثم أعود وأستقلُّ
«؟ القطار الكهربائي المُعلَّق للعودة في الوقت المُحدَّد لأبُدِّل ملابسي، اتفقنا
ولكننا يا جولز كنَّا سنذهب لتناوُل العشاء في مطعم طاولة » : حاول دان إقناعي قائلًا
«. سندريلا الملكية، ألا تتذكر؟ لقد حجزتُ بالفعل
«. أوه! يمكننا تناوُل الطعام في أي وقتٍ آخر. هذه فُرصة لا تُعوَّض » : قلت
«؟ إنها كذلك بالفعل، هل تُمانع إذا أتيتُ معك » : قال دان مُستسلمًا
إذا كان سيتصرَّف » : تبادَل هو وليل نظراتٍ ذات مَغزًى كانت ترجمتها في عقلي
لم أبالَ على الإطلاق؛ فقد قررتُ أن أتحدَّى «. بحماقة، فلا بُدَّ لواحدٍ منَّا أن يظلَّ معه بالفعل
الأسد في عَرِينه.
«. اتفقنا، فلننطلق إذن » . لم يكن تيم واعيٍّا لكلِّ ما يدور على ما يبدو
في طريقنا إلى القاعة، ظلَّ دان يتَّصِل بقوقعة أذُني وظللتُ أحَُوِّلهُ إلى البريد الصوتي، وفي
الوقت نفسه، لم يتوقَّف ثلاثتُنا عن الثرثرة. كنتُ مُصمِّمًا على إصلاح ما أفسدْتهُ في القصر
مع تيم وأكسِب وِدَّه.
كان أتباع دِبرا جالسين على المسرح على كراسي ذاتِ أذْرُع وقد رُصَّت الدُّمى الآلية
المُتحرِّكة للرؤساء في أكوامٍ مُنظمة بالمباني المُلحقة. كانت دِبرا تجلس مُسترخية في كرسي
لنكولن ورأسها مائل بكسَل وساقاها مُمدَّدتان أمامها. طغَت على القاعة، التي كانت دائمًا
ما تفوح برائحة الأوزون والنظافة، رائحة العرَق وشحْم الماكينات والرائحة النَّتِنَة لأحد
أعضاء اللجنة، كان قد أمضىطَوال الليل في المكان. احتاجت القاعة إلى خمسة عشر عامًا
من البحث والتنفيذ وبضعة أيام قليلة لهدْمِها.
كانت دِبرا في هيئتها الطبيعية، بنفس الوجه الذي وُلدت به، على الرغم من تجديده
عشرات المرات بعد مَيْتاتِها العديدة. كان وَجهها أرستقراطيٍّا شمعيٍّا وطويلًا ذا أنفٍ أبِيَّة
خُلقت للتحدِّي والمواجهة. كانت في نفس عمري على الأقل، على الرغم من أنها كانت تبدو
وكأنها في الثانية والعشرين. شعرتُ أنها اختارت هذه السنَّ بالذات؛ لأنها تنطوي على
مَخزونٍ هائل من الطاقة والحيوية.
لم تتنازل وتقِف لتُحيِّيني حينما اقتربْت، ولكنها أومأتْ لي بكسَل. انقسم باقي أفراد
اللجنة إلى تجمُّعات صغيرة، مُنكبِّين على أجهزة الكمبيوتر. كانت لهم هالات سوداء أسفل
أعينهم، فبَدَوا كحيوانات الراكون ومظهر المَهووسين الذين جفا النوم أعيُنَهم، حتى دِبرا
نفسها، التي نجَحَت في أن تبدوَ كسُولةً ومُتحمِّسة في الوقت نفسه.
تساءلتُ في نفسيمُحدِّقًا في دِبرا: هل قتلتِني؟ لقد قُتِلَتْ دِبرا عشرات، إن لم يكن مئات
المرات، برغم كلِّشيء. وقد لا يكون الأمر مُهمٍّا بالنسبة لها.
مرحبًا! لقد عرَض تيم أن يأخذنا في جولةٍ عبر المكان! تَعرفين دان. » : قلتُ بابتهاج
«؟ أليس كذلك
«؟ أوه، بالطبع. أنا ودان أصدقاء. أليس كذلك » : أومأتْ له دِبرا برأسها قائلة
كان يتسكع معهم منذ «. أهلًا دِبرا » : لم يختلِج وجه دان الخالي من التعبير، وقال
أخبرته ليل عن المخاطر التي تُحدِق بالقصرمُحاولًا جمع بعضالمعلومات لنا لنستخدمها.
كانوا يعلمون ما يَعتمِل في نفسه بالطبع، إلَّا أن دان كان ساحرًا بما يكفي، وكان يعمل
بكد، وهو ما جعلهم يغضُّون الطرْف عنه. ولكن يبدو أنه تجاوَز حدٍّا من الحدود على نحوٍ
ما باصطحابي معه، وكأن حضوري قد حطَّم ذلك السيناريو الضِّمنيَّ بينهم بأنه ينتمي
إلى لجنة دِبرا أكثر من انتمائه للجنة ليل.
«؟ هل يُمكنني أن أرُيهم العرْضالتجريبي يا دِبرا » : قال تيم
«. بالتأكيد، لمَ لا؟ ستُحبُّون هذا يا رِفاق » : رفعَت دِبرا حاجِبًا في دهشةٍ ثم قالت
اصطحبَنا تيم سريعًا إلى الكواليس حيث كنتُ أعمل أنا وليل ونحن نقطُر عرَقًا على
الدُّمى الآلية المتحرِّكة ونسترِق بعضالمُداعَبات الحسِّية خِلسة. كان كلُّشيءٍ مُمزَّقًا ومكدَّسًا
ومُغلَّفًا، لم يُضيِّعوا ثانيةً واحدة، لقد قَضَوا أسبوعًا يهدِمون عرضًا ظلَّ يُقدَّم على مدار
أكثر من قرنٍ كامل. كان قماش السكريم الذي كان يُعرَضعليه الأجزاء المراد إبرازُها من
العرْضموضوعًا على الأرضومُلطَّخًا بالأوساخ وآثار الأقدام والزَّيت.
اصطحبَني تيم إلى محطة نَسْخٍ احتياطي لم تُجَمَّع بالكامل بعد. كان الإطار الواقي
لها غير مُثبَّت ومُلقًى حوله العديد من لوحات المفاتيح اللاسلكية والمؤشرات والقفازات
المُبعثرة. كانت تبدو وكأنها نموذج أولي.
هذه هي محطة إرسالنا. نستخدم حتى الآن تطبيقًا تجريبيٍّا يعمل من » : قال تيم
خلالها: خطب لنكولن القديمة، ومونتاج لصورٍ من الحرب الأهلية. فقط شَغِّلْ خاصيَّة
«! وُلُوجِ الزُّوَّار وسأفرِّغ الذاكرة الأساسية للتطبيق لديك. إنه مُثير
سحبتُ شاشتي الذهنية وشغَّلتُ خاصية وُلُوج الزُّوَّار. أشار تيم بإصبعه إلى
الكمبيوتر، فغمر عقلي كلُّ ما يخصُّ شخصية لنكولن وجَوهره: كلُّ فارِق دقيق لا يكاد
يُدرَك في خطاباته، وتَشنُّجاته المدروسة بِعناية، وبُثور وَجهه، ولِحيته، ومِعطَفه. لوهلةٍ
شعرتُ كأنني لنكولن نفسه، ثم سُرعان ما انقضى هذا الشعور، ولكنني تمنيتُ لو كان
لا يزال بإمكاني تذوُّق النَّكْهة النُّحاسية لطلقات المَدافع وتَبْغ المَضْغ.
ترنَّحتُ إلى الوراء. كان رأسي يَسبَح وسطَ انطباعاتٍ حِسِّية سريعةٍ اتَّسمَتْ بالثراء
والتفصيل الدقيق. وسُرعان ما أدركتُ أن قاعة الرؤساء الخاصَّة بدِبرا ستُحقِّق نجاحًا
مُبهرًا.
أخذ دان دَوره في تجربة محطة الإرسال أيضًا، وأخذتُ أنا وتيم نُراقب تعبيرات وَجهه
التي تحوَّلَت من الشكِّ إلى البهجة. نظر لي تيم في ترقُّب.
«! هذا رائع حقٍّا. رائع للغاية بالفعل. كم هو مؤثر » : قلت
«. شكرًا! لقد برمجتُ الصور المُتكاملة؛ إنه تَخصُّصي » : احمرَّ وجه تيم خَجلًا وقال
تحدَّثَت دِبرا من خلفه؛ كانت تمشيبتؤَدَةٍ تِجاهنا وكان دان يرتجُّ خروجًا من الذاكرة
واتَتْني الفكرة في بكين عندما كنتُ أموت كثيرًا. هناك شيءٌ رائع في تجربة زَرْع » : وقالت
«. الذكريات، وكأنك تُعمِل عقلك بالفعل؛ أحبُّ الوضوح الاصطناعي للتجربة ككل
إنها لطيفة وسلسة. أليس » ، ثم التفت إليَّ «. ليست اصطناعية بالمرَّة » : نَشَقَ تيم قائلًا
«؟ كذلك
شعرتُ بصعوبات ومخاطر شديدة خَفِيَّة تحت السطح، وكنتُ أجهِّز إجابتي حين
يُحاول تيم باستمرارٍ أن يجعلَ التجربة الكلية أكثر انطباعية وأقلَّ حاسوبية. » : قالت دِبرا
إنه مُخطئ بالطبع. فنحن لا نُريد مُحاكاة تجربة مُشاهدَة العرض، بل نرغَب في أن
«. نتجاوَزَها
نتجاوزها، بالطبع. ولكن الطريقة التي سنفعل بها ذلك » : أومأ تيم على مَضَضٍقائلًا
بأن نَشعُر كما لو كنا مكان الرؤساء؛ بأن تكون ،« إنسانية » هي من خلال جعْلها تجربة
التجربة قائمة على التعاطُف. ما الجدوى من التخليق السريع لحِفنةٍ من الحقائق الجافَّة
«؟ المجرَّدة ووضعها في دماغ أحدهم