وجدت جيهان نفسها في ذات المكان مجددا، و كالعادة الضباب الكثيف جعل الرؤية صعبة جدا لكنها استمرت في التقدم خطوة وراء الأخرى و بينما هي تتجول إذ بها تسمع صوتا خافتا ينادي من بعيد فاتجهت نحوه راكضة، و ظلت تقترب من مصدر الصوت شيئا فشيئا حتى اتضح لها أخيرا، لقد كانت بيان تنادي باسمها و هي تتجول في الأرجاء باحثة عنها: "جيهان! يا جيهان! أنا أعلم أنكي هنا، هيا ردي علي! جيهااااان!!!"
فصرخت جيهان مناديةً: "بيان أنا هنا!"
استدارت بيان نحو جيهان بسرعة ثم ركضت باتجاهها قائلة: "نعم! لقد علمت أنكي ستكونين هنا."
استغربت جيهان من كلامها و قبل أن تسألها عن ما تعنيه أمسكت بيان بقوة بأيدي جيهان و سحبتها ناحيتها و قالت لها: "جيهان هذا ليس مجرد حلم و هذه ليست مجرد تخيلات، ما يحدث حقيقي و أنا حقيقية لقد كنا نتشارك نفس الحلم طوال هذا الوقت!"
"ما الذي تقصدينه؟"
"لسبب ما نحن نتشارك هذا الحلم معا و بسببه هناك أمور غريبة تحصل، أخبريني ألم تحصل معك أي ظواهر غريبة مؤخرا؟"
"حسنا لقد ظهر لي هذا الكتاب فجأة."
رفعت جيهان الكتاب الذي كان في يدها و أشارت إليه، ثم قالت بيان: "ألم يحصل معكي أي شيء آخر؟"
"لا، لا أعتقد ذ-"
جفلت جيهان للحظة ثم نظرت إلى بيان التي لاحظت ذلك فقالت لها بثقة: "حصل شيء آخر، صحيح؟ ما هو؟"
"حسنا، لقد كنت أتصفح الإنترنت و رأيت إعلانا مكتوبا باللغة الفليبينية و لسبب ما تمكنت من معرفة أي لغة هذه رغم أنني لم أرها من قبل كما و تمكنت من قراءتها..."
"نعم، لقد حصل معي شيء مشابه أيضا، بينما كنت في دورة المياه في المدرسة انتقلت فجأة إلى مكان آخر في وسط اللامكان و أيضا عندما كنت في غرفتي وجدت نفسي فجأة أسقط من السماء."
"كل هذه الأمور حدثت معنا منذ أن بدأ هذا الحلم يراودنا، في الحقيقة لقد شككت في كون هذا أكثر من مجرد حلم لكن الآن أنا متأكدة!"
أومأت بيان رأسها موافقة ثم سألتها: "إذا ماذا نفعل الآن؟"
نظرت إليها جيهان مطولا و هي تفكر في خطوتهما التالية و قبل أن تقول أي شيء فإذ بها تسمع صوتا غريبا يتحدث قرب أذنها.
"اسمحا لي."
شعرت جيهان بقلبها على وشك التوقف من الخوف و تسمرت في مكانها غير قادرة على الحركة فأمسكتها بيان و جرتها خلفها و مدت يدها في محاولة لحمايتها من هذا الغريب، عندها فقط تمكنت جيهان من رؤية ذلك الشخص و دب الذعر في أوصالها عند رؤيتها لرجل منحني إلى الأسفل يرتدي رداء أسود اللون و قناعا ذهبيا ليس فيه أي ثقب للنظر من خلاله، ثم استقام الغريب في وقفته و لاحظت كل من جيهان و بيان طوله الفارع المخيف و رغم ارتدائه لذلك الرداء إلا ان نحافة جسده كانت واضحة، تراجعت بيان إلى الخلف بضع خطوات و جيهان معها. ثم قال ذلك الرجل: "يبدو لي بأنني و دون قصد مني قد قمت بإخافتكما، اعتذاراتي الشديدة."
استدارت بيان و نظرت إلى جيهان ثم رفعت صوتها قائلة: "من أنت و ما الذي تفعله هنا؟!"
قام الغريب بالاعتدال في وضعيته ثم قال بصوت عميق: "اعذراني إذ لم أعرف بنفسي بعد، أنا أدعى جزلان و أنا هنا لإرشادكما و تقديم النصح لكما..."
قالت بيان: "إرشاد؟ نصح؟ ما الذي تتحدث عنه؟"
"ألم تقوما بفك شفرة مدخل الكتاب؟"
"بلى، و لكن-"
"الطريقة الوحيدة التي تمكنني من التواجد هنا معكما هي عن طريق فك شفرة الكتاب و إتقان التعاويذ."
"تعاويذ؟ ما الذي تتحدث عنه؟"
"بيان ربما يقصد تلك العبارات التي ظهرت في الكتاب."
قامت بيان بفتح الكتاب ثم تأملت العبارتان المكتوبتان فيه ثم أدارت الكتاب و أرتهما لجزلان: "أتقصد هذه؟"
"بالضبط."
نظرت بيان مطولا نحو جيهان و ظلت مترددة حول ما إذا كانت تستطيع أن تثق بهذا الغريب: "لن ألحق أي أذا بكما، بالعكس فأنا هنا لمساعدتكما لذلك أرجو أن تسترخيا و ترخيا دفاعكما."
ارتبكت بيان من كلامه لكنها هدأت قليلا عندما قامت جيهان بإمساكها و طمأنتها قائلة: "لا بأس يا بيان، لدي شعور بأنه يمكننا الوثوق به."
استرخت بيان بعد سماعها لكلام جيهان، ثم تقدمت جيهان حتى أصبحت على مسافة لا بأس بها من جزلان و قالت مطالبة: "لقد قلت أنك هنا لإرشادنا و نصحنا، إذا كان هذا صحيحا اذا فلتجب عن أسئلتنا الآن!"
انحنى جزلان ثم قال و هو مطأطئ لرأسه: "سمعا و طاعة."
"أولا، ما هو هذا المكان؟ و لما نحن هنا؟"
"هذا المكان هو مساحة قد أوجدها الكتاب حتى يتمكن من الاتصال معكما بسهولة و هو يدعى "الفراغ"، ففي حالة النوم تنفصل الروح عن الجسد فيقوم الكتاب بتوجيه الروح إلى هذا المكان بينما يقوم بحماية الجسد في نفس الوقت."
"أتقصد بأن هذا ليس حلما؟"
"أخشى ذلك."
"و لماذا أحضرنا إلى هنا؟ ما هو الهدف من وجودنا هنا؟"
"لقد قام الكتاب بإيجاد هذا المكان من أجل مساعدتكما على تأسيس جوهركما و صقل مهاراتكما فأنتما في النهاية حاملتان للصحوة."
"هذا مجددا ما الذي تعنيه بتأسيس جوهركما؟"
"و ما الذي تقصده بالصحوة؟"
"لقد ولدتما بقوة استثنائية و نادرة عن باقي البشر، هذه القوة كفيلة بجعل المستحيل ممكنا و هي تدعى بالصحوة و لكن عدم تعلم كيفية التحكم فيها قد تنجم عنه نتائج وخيمة، و من أجل تفادي هذا القدر سيقوم الكتاب و نفسي بإرشادكما من أجل التحكم في قوتكما إلى أن تتمكنا من {تأسيس جوهركما}."
قالت بيان بتوتر: "هذه القوة، هل هي خطيرة؟"
"للأسف نعم، لكن طالما أنا موجود هنا لن أسمح لأي مكروه بأن يصيبكما."
أحكمت بيان قبضتها في توتر غير متأكدة من إمكانيتها على استيعاب الأمر، لقد عاشت حياة طبيعية إلى حد الآن و لكن فجأة أصبحت تمتلك قوة نادرة و خطيرة، لقد كان الأمر صدمة كبيرة بالنسبة إلى بيان لكن ليس لجيهان التي قد لمعت عيناها بحماس لدى سماعها لكلام جزلان ثم سألته قائلة: "هل هناك أشخاص آخرون مثلنا؟"
"نعم و لا، فهم مثلكم لديهم قوى خاصة لكنها لا تسمو لقوتكما التي كما قلت سابقا هي نادرة و استثنائية."
فكرت جيهان في نفسها قائلة: "إذن هناك أشخاص آخرون!"
أمسكت بيان بذراع جيهان و نادت اسمها في قلق، لاحظت جيهان ذلك فوضعت يدها فوق يد بيان و طمأنتها بأن كل شيء بخير ثم استدارت باتجاه جزلان الذي لا يزال يقف في نفس المكان و قالت بثقة : "و متى تنتهي عملية تأسيس الجوهر هذه؟"
"عندما يستبدل البياض في صحف الكتاب بحبر التعاويذ عندها تكون مهمتي قد انتهت."
"إذن فنحن نعتمد عليك في إرشادنا طوال هذه المدة."
رفع جزلان رأسه في دهشة ثم اقترب و ركع على رجل واحدة و قال: "إنه لشرف كبير أن يتم الاعتراف بي كمرشد لحاملة الصحوة."
وكزت بيان جيهان بقوة ثم قالت: "ما الذي تفعلينه بحق السماء؟"
"ماذا؟ أنت تقلقين كثيرا فقط استرخي."
ألقت بيان بنظرة حادة إلى جيهان لكنها لم تهتم و اتجهت نحو جزلان سائلة: "إذن جزلان..."
"نعم!"
"أخبرني كيف نقوم باستعمال هذه التعاويذ بالتحديد؟"
"كل ما عليك فعله هو فهم المبدئ الأساسي وراء عمل هذه التعاويذ و طريقة تفعيلها."
"و ما هو المبدئ الأساسي؟"
"العقل."
"العقل؟"
"أظنك أنكما قد اكتشفتما ذلك بالفعل، الطريقة الوحيدة لتفعيل هذه التعاويذ هي عن طريق استعمال العقل و فهم التعويذة بحد ذاتها، فمثلا تعويذة الانتقال الآني لا تفعل إلا اذا كان المستعمل له رغبة قوية في الانتقال و تصوير المكان الذي يريد الذهاب إليه بالتفصيل داخل عقله، كما حدث مع الآنسة بيان..."
نظرت جيهان إلى بيان التي أومأت برأسها في إيجاب ثم تابع جزلان الكلام: "لكن هناك تعاويذ لا تحتاج دائما إلى أي عامل خارجي لتفعيلها و إنما هي تعتمد على العقل الباطني للمستعمل و تفعل عندما تلاقي شروطا معينة، فمثلا تعويذة الترجمة تفعل تلقائيا عندما يرى المستعمل نصا بلغة ما فيترجم تلقائيا داخل رأسه كما هو الحال مع الآنسة جيهان...لكن في حالة أرادت النطق بلغة غير لغتها الأم فهي تحتاج إلى استعمال عقلها و أن تفكر مليا في أي لغة تريد التحدث بها حتى تتفعل التعويذة."
"إذن هناك بعض التعويذات التي تحتاج إلى إعمال العقل و المخيلة حتى تتفعل لكن هناك أيضا تعاويذ تتفعل تلقائيا في الظروف المناسبة؟"
"بالتحديد."
و قبل أن تسأل جيهان سؤالا آخر بدأ الظلام يكتسح المكان فجأة فنظرت باتجاه جزلان الذي قال: "يبدو بأن وقتنا قد وصل إلى نهايته، سأكون في انتظار لقائنا التالي عن قريب."
انحنى جزلان و اختفى في وسط الظلام ثم فجأة استيقظت جيهان من نومها و جلست على سريرها تحاول استيعاب ما حصل عندها اتسعت عيناها بعد تذكرها لما حدث في الفراغ لتقفز من على سريرها و تتجه نحو غرفة بيان، فتحت الباب بقوة و رأت بيان و هي جالسة على حافة السرير تحاول النهوض فسألتها في لهفة: "الفراغ؟"
ردت عليها بيان: "جزلان؟"
شعرت جيهان بحماس شديد إذ ألقت بنفسها على بيان فسقطتا على سطح السرير معا، كانت بيان محتارة من تصرفات جيهان فسألتها: "ما بكي؟"
قهقهت جيهان و ردت عليها: "أنا فقط متحمسة."
كانت بيان على وشك أن تدفعها و تنهض من السرير لكنها توقفت عند رؤيتها لجيهان و هي تضحك فمررت راحت يدها على شعرها و داعبته بلطف ثم قالت: "ماذا الآن؟"
رفعت جيهان رأسها و نظرت إلى بيان و قالت و البسمة لا تغادر شفتيها: "ماذا تعنين؟ لدينا القدرة على جعل المستحيل ممكنا..."
ثم نهضت جيهان من على فوق بيان و أمسكت بيديها و جرتها نحو وسط الغرفة ثم قالت لها: "لنستمتع."