Horof

شارك على مواقع التواصل

كعادته في الحضورِ خلال الفترةِ المسائيةِ لمكتبة مصرَ العامةِ، والتي يحتضنها نهرُ النيل بالدقي، بِسَمْتِه الهادئ ولباقته المعتادة، حين يحتاجُ مساعدتي أنا أو زميلتي سارة للوصولِ إلى بعض الكتب، يجلسُ منزويًا في المكانِ الذي يسكنه كوطنٍ عزيز ٍحُرِمَ منه مغتربٌ، أو طفلٌ يتيم ٌ أُعِيدَ للحياة في حضن أمّ، وكأنّ لديه اضطرابُ طيفِ التوحد الذي يفرضُ عليه جبرية اختيار مكانٍ معينٍ لا يفارقه.
كنتُ استغربُ تنوعَ الكتبِ التي يقرأها، ظننته كحاطب ليلٍ أو مبتدئٍ لا يدري ما الذي يريده على وجه التحديد.
كتبٌ من قديم ِالأدب العربيّ كالأغاني للأصفهانيّ، الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطاليّ دانتي أليغييري من الشعر الملحميّ، مسرحيات لشكسبير، تراجم لشعراء وكتاب قدماء ومحدثين، كالفرزدقِ وطه حسين، غسان كنفاني وجبران خليل جبران!
اعتادت سارة أن تُعْملُ توقعاتها حول ما يُدّونه علاء في دفتره الذي لا يفارقه ذهابًا وجيئةً، وكأنّه عينٌ ثالثةٌ ترشده الطريق.
لم يكن هذا فقط شغلنا الشاغل أنا وسارة بقدر ما كنّا نتعجبُ من الحالة التي كانت تصيبه في أثناء اندماجه في القراءة وتدوين الملاحظات، وكأنّه قد تلبسته حالة من حالات الفناء الصوفيّ، أو مغادرةِ روحه لعالمنا المحيط.
حالةٌ غريبةٌ من الإغماء تستمر لبضع دقائق، لا نكاد نلاحظ منها سوى تعرقه الشديد، والرجفة التي تصيبه عن استحياء، وانكفائه على الطاولة التي يجلس إليها.
حتى في هذه الحالة التي يفقد فيها الوعي - أو كما نظن - يظل محتفظًا بطباعه الهادئة، فلا يكاد يشعر به أحدٌ.
ها هي الحالة تعاوده...سارعتُ أنا وسارة للاطمئنانِ عليه..هادئٌ حتى في غفوته وانفصاله عن واقعنا، بملامح طفلٍ صغيرٍ غافله ما يزين الرجال مبكرا ً، أعطته طابعَ ووسامةَ أبطالِ المسلسلاتِ التركيةِ التي غزت قلوبَ بنات قومي حدَ السحر والافتتان.
غافلتني سارة وقذفت محتوى كوبها من الماء في وجهه..يفيقُ من غفوته معتذراً وكأنّه هو من فعل فعلتها الحمقاء.
يلملمُ أوراقه المبَعثرة على الطاولة، تناوله سارة الدفتر الذي التقطته من أمامه وقت غفوته، يخطفه منها متعجبًا كيف فارق يديه وهو شديد الحرص عليه كأمٍّ خبّأت في جسدها ولدها في يومٍ عاصفٍ مطيرٍ حين اتخذت السماء سقفًا غدر بها، ولم يحميها من طلقاتِ الغيوم ِ...يستأذن سريعًا مغادراً المكتبة مع ابتسامة اعتذارٍ ونظرة وعدٍ لزيارة مقبلة.
جلسنا أنا وسارة نحاول وضعَ تفسيرٍ منطقيّ لحالته.
- سارة: هل تظنين يا جاسمين من خلال دراساتك في علم نفس السلوك أن صاحبنا يعاني من نوباتٍ صرعية ٍ تجعله يقعُ أسيرًا لتك الحالة الغريبة؟
- أجبتها متعجبةً من تسرعها في وصف ما رأته..لا أظن يا سارة، فالصرع له علاماتٌ مختلفةٌ منها التحركاتُ التشنجيةُ اللاإرادية، وحدوث ارتعاشاتٍ حول العين أو الفم في حالة حدوث نوبات الصرع الخفيفة، وفي هذه الحالة يُظهر المصاب علاماتِ الشرود الذهنيّ من غير أي تغييرٍ يطرأ على وضعيته التي كان عليها قبل حدوث النوبة.
- لكنّه يا جاسمين يعاني من شرود ذهنيّ!
- سرحتُ بخاطري قليلا ًفي حالته، وقد تداخلت الأفكار وتصارعت بداخلي حول تفسير تلك الحالة الفريدة التي لم تمرعليّ من قبل..أفقتُ على صوت سارة وهي تجذبني من ذراعي...جاسمين أين سافرتِ بخيالك؟
- لعلها حالةٌ من الإغماء يا سارة.
- أمسكت سارة بخصلة من خصال شعرها تتأملها وتداعبها، ثم قالت: لكن ما أعرفه عن الإغماء أنه حالة من فقدان الوعي المؤقت بسبب انخفاضٍ في تدفق الدم إلى المخ، وتكون حالة الإغماء مصحوبةً بسقوط المريض ِعلى الأرض إذا كان واقفًا أو جالسًا ثم يسترجع وعيه بعد ذلك تلقائيًا..وهذا لا ينطبق على الحالة التي معنا.
- نظرتُ إليها باستغراب...هل صارت حالةً تستوجبُ الدراسةَ يا سارة؟
- بنظرةٍ ماكرةٍ، وهل هناك فرصةٌ أفضل من تلك الفرصة الحية أمامك كي تطبّقي عليها رسالتك للحصول على درجة الماجستير؟
- متى تتوقفين عن استغلال الفرص يا سارة؟ ثم هممتُ بمغادرة قاعة المكتبة.
- أمسكت سارة بذراعي مجدداً...انتظري يا غريبةَ الأطوار، ماذا عن تفسيرك إذن؟
- أجبتها، وقد نال مني الضيق، كالليل حين يرخي سدولها على الدنيا معلنًا ظلمته وعتمته الكئيبة..هناك يا سارة ما يُسمّى بالإغماء الوعائيّ المبهميّ، والذي ينتج في أثناء التوتر والضغط النفسيّ، أو بعد المرور بأزمة صعبة، أو إثر الشعور بالألم، وهذا النوع من الإغماء يحدث في أثناء الوقوف أو الجلوس، وعادةً ما يعودُ الشخصُ إلى وعيه في غضون ثوانٍ إلى دقائقَ معدودةٍ.
- تنتفضُ سارة من مكانها..سارعت إلى هاتفها، ثم اقتربت منّي كي تريني بعض الصور.
- تعجبت من انتفاضها، ولكنّ ما رأيته ألجم لساني، وكأنّي هذا الممسوس الذي تمكّن منه شيطانه، فعجز عن الحديث أو الاستجارة بكلمات الله التامات التي يلوذُ بها المسلمون..لا أدري كم مرّ من الدقائق كي أستعيدَ قدرتي على الكلام، كيف تسمحين لنفسك يا سارة أن تلتقطي تلك الصور لدفتره؟
- حاولت سارة أن تبرر موقفها المخزي، معللةً ذلك بأنها محاولةٌ منها لتفسير ما حدث لتقديم يد المساعدة والعون.
- لا يحق لكِ بأية صورةٍ من الصورِ أن تقتحمي عالم الرجلِ والولوجِ خفيةً إلى خصوصياته حتى لو من باب النية الطيبة والمساعي ال....
- قاطعتني سارة...انظري فقد أمسكت بأول خيطٍ لحل اللغز.. صاحبنا له حبيبة يكتب لها في دفتره الذي يدون فيه ملاحظاته حول ما يقرأه من تلك الكتب.
- حاولتُ انتزاعَ هاتفها منها كإعلان ٍ صاخب ٍ يُعبّرُ عن رفضي هذا الاقتحام الذي لا يختلفُ كثيرًا عن سلوك اللصوص وقطاع الطرق.
- نازعتني الهاتف..بدأت تقرأ بعضًا من السطور..
" عنيزة ! لقد شاب القلبُ، ووهنت عزيمةُ الرحيل.
عنيزة...بحثتُ عن قلبك الإعصارِ ومشاعرك المحيطِ طويلًا طويلًا , وكم زرتُ فيكِ الصورَ وقبّلت العيون، حاملاً معي في روحي ونفسي صورتك الحقيقة، غير أنّي يا منايَ وترياق هوايَ قد سئمتُ الترحالَ والبحثَ في خبايا الصور وأسرار النفوس.
فأنا وإن كان حبك يدفعني ويأمرني للبحث عنه واحتضانه للأبد، إلا أنني أراكِ أغلى من أن أعرضك على نخاسات القلوب وبائعات الهوى العَفِن ".
- نزلت الكلمات علينا كصاعقة من السماء في ليلةٍ مطيرةٍ من ليالي كانون الثاني، فمن هذه الحبيبة التي يعاتبها هذا العتاب المحمول على أكف المرارة والوجع الرهيب؟ ومن تلك المرأة التي سئم من الترحال بحثًا عنها؟
- في نظرة ٍساخرةٍ...وهل ضاقت به الدنيا ليكون اسم حبيبته هذا الاسم الأثريّ العتيق؟
- سرحت بخاطري، الأمر يزيد تعقيداً يا سارة وكأنّه وهمٌ أو سرابٌ.
- بطريقتها الساخرة، دعيني أمنحكِ الوصفَ الذي تبحثين عنه يا جاسمين،
" كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍۢ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا "
- ضحكتُ منها، وهل تظنين أني سأعدم دليلًا نقليًا من كتابي المقدس يا سارة كما ذكرتِ أنتِ من القرآن الكريم؟
" وَيَصِيرُ السَّرَابُ أَجَمًا، وَالْمَعْطَشَةُ يَنَابِيعَ مَاءٍ فِي مَسْكِنِ الذِّئَابِ، فِي مَرْبِضِهَا دَارٌ لِلْقَصَبِ وَالْبَرْدِيِّ.".
- لن تعدمي الرد كعادتك يا جاسمين، ولكن دعينا نسترح قليلًا من هذه المباراة في استحضار أدلة وحي السماء، أو هذا اللغز الذي يزداد تعقيدًا، أخبريني يا صديقتي عن آخر قصصك مع أنطوني.
- لم أستطع إخفاء انفعالي حيث تسارعت نبضاتُ قلبي وتصارعت خيبات الأمل بنفسي المكلومة من مرارة التجربة وبشاعة الأحداث التي مررت بها..قررتُ أن أُنهي هذا الحوار العبثيّ قبل أن يبدأ، هذا موضوع مات قبل أن ينثرَ ما في رحمه على أرضِ الحياةِ، فيُخلّف مزيدًا من الأوجاع والمسوخ والعلاقات السامة التي تُعَجّلُ برحيلنا قبل الأوان بأوان.
- في محاولة سريعة منها كي تخفف من حدة انفعالي .. مسوخ كمسوخ الزومبي، تلك الجثة المتحركة التي أثارتها وسائل سحرية من الساحرات؟
- انتزعت يدي من قبضتها لمغادرة المكتبة متعللةً بموعدي مع أمي كي نزور طبيبها.
- بطريقتها المعتادة وتدخلها في تفاصيل حياتي من خلال مظلة الحب وعهود الصداقة السليمانية.. سأتركك الآن على أن تخبريني غدًا.
- ضحكت منها، غدًا صديقتي اللدود، ولكن عذرًا، فهذا حديثٌ أمره يطولُ وأنا الليلة مشغولٌ.
وكعادتها وذهنها الحاضر لم تترك لي اقتباسي لتلك الجملة من البرنامج الإذاعي " أنا وصديقي الفيلسوف " بصوت الإذاعي سعد الغزاوي ردًا على الممثلة سميرة عبد العزيز، فباغتتني بتقليدها لصوت الممثلة زوزو نبيل بصوتها الذي لا تخطئه أذن في حلقات ألف ليلة وليلة عبر أثير الإذاعة المصرية العتيقة حين ينقذها ضياءُ الفجر من سيف شهريار.. " مولاي ".
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.