tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

حللتُ رابطة عنقي وأنا في المصعد الكهربائي بعدما ضغطتُ على الزر الذي سيقودني إلى الطابق الأخير للفندق، ولكنني ما زلت أشعر بالاختناق، وكأن هنالك يدًا خفيَّة تتناول رقبتي وتطبق عليها بعنف، فلم أعد أميز سبب صعوبة التقاط أنفاسي، أهو نقص الأكسجين في هذا الصندوق الحديدي المغلق أم تلك اليد الخفية؟ ولكن لا بأس؛ دقائق وسأتخلص من هذا الشعور، سأستريح للأبد من هذا الثُقل الذي لازم قلبي لسنوات، لقد اخترت مكانًا جيدًا، أحد أعلى المباني بالقاهرة، فندق ارتفاعه مائة واثنان وأربعون مترًا يُطلُّ على النيل، لذا، إذا لم أمُت جرّاء سقوطي من هذا الارتفاع الشاهق، فبالتأكيد، سيكون موتي بالغرق في النيل أمرًا مُحتمًا.
تسلقت حافة السور المحيط بسطح الفندق بعدما عقدت رباط حذائي المفكوك، فداعب الهواء وجهي، وأزاح تلك اليد الخفيّة عن رقبتي بهدوء، ثم انسكب في رئتيّ حتى اتسعتا. حرصت على ألا أطأطئ رأسي؛ لا أريد للمنظر زعزعتي عن قراري. هاجم عينيّ شعاع منتصف الظهيرة، فصددته بيدي. أمرٌ مُضحك، أن أتجنب ألمًا يصيب عيني وأنا على وشك الإلقاء بجسدي من ارتفاعٍ لا أكادُ أرى نهايته؛ لكنها الغريزة البشرية التي تميل إلى تجنب الألم حتى الرمق الأخير، عدَّلتُ رابطة عنقي، أغلقتُ عيني باطمئنان ورسمت ابتسامتي، فردت ذراعيّ وهويْتُ بجسدي في الفراغ معانقًا الموت بكامل أناقتي وببالغ اشتياقي.
اخترقت حواجز الرياح مقاومًا بطش قوتها وعنفوانها، حاولت غلق فمي بلا جدوى، كان متسعًا لأقصى مداه، تتطاير قطرات لعابه عكس الجاذبية، وبصعوبة، قاومت الثقل الضاغط على جفوني، فانكشف جزءٌ بسيطٌ من بؤبؤ عيني أتاح لي رؤية الصورة بوضوح، إنني أتهاوى كحصاةٍ ضئيلة الحجم وسَط فضاءٍ فسيح، أيُنقص تهشم الحصاة من هذا الفضاء الواسع شيئًا؟! بالتأكيد لا، ولكنني لا أريد أن أموت، لقد تأخرت في إدراك هذه الحقيقة، لكنني أدركتُها على أية حال، فهل لي من منقذ؟ يا إلهي...
أغمضت عيني، شدَدْتُ عليهما، تمنيت لو يُغشى عليّ لأفقد الشعور إلى الأبد، بسطت كفيّ مستسلمًا لمصيرٍ قد اخترتُه بكامل حماقتي حتى ارتطمتُ بشيء لا أعلم كنهه، والغريب، أنني لم أشعر بأي ألمٍ إثر اصطدامي، وكأن جسدي قد استقر على إحدى السحابات القطنية!

هل مت؟ جسدي ممدد لكن أهو قطعة واحدة؟ ألم يُحطَّم إلى أشلاء؟ بإمكاني تحريك ذراعي وتحسُس الأرض التي سقطتُ عليها، ملساء كسطح اسطوانة من المارشميللو الناعم... لحظة! كيف لذراعيّ التحرك؟! وأنّى لي رفاهية الإحساس بملمس الأشياء؟! إنني حتى أشعر بمقلتيّ تتحركان أسفل جفوني، وأشم رائحة العود المألوفة إلى أنفي، لكنني لا أسمع أي صوت، أهذا هو هدوء ما بعد الموت؟ أأنا في القبر؟ هل تحولتُ إلى روح؟
استجمعت شجاعتي وفتحت عيني أوسعهما، ففوجئت بضوءٍ ساطع يضربهما بقوة. ظلّلتهما بكفيّ، أزحتهما ببطء، فتراءى لي سقف المكان الأبيض المقوَّس. اعتدلت جالسًا فلم أجد صعوبة في ذلك؛ جسدي سليمٌ تمامًا! التفتُّ حولي، نفقٌ ساكنٌ متوهج بلون سحابات ناصعة البياض، سقفه أملس من أي مصباح، لكنني أراهن مع توهجه أن مئات المصابيح مخبأة بجوف جداريه المتوازيين المتباعدين بمقدار ثلاث خطوات من خطواتي الواسعة، وعلى ضيق المسافة الفاصلة بينهما، بدا لي كل جدار منهما ممتدًا بلا بداية ولا نهاية تحدُّ طرفيه.
استندت على الجدار الأيسر وحاولت الوقوف فانزلقت يدي؛ كان أملسًا، وكأن أحدهم قد قذف على سطحه عبوة من زيت الطعام للتو. استندت على ركبتي ونهضت مقاومًا تأرجحي للأمام وللخلف. تمكنت من فرد ظهري فانزلقت وكدت أسقط على مؤخرتي؛ كانت الأرضية مُلطخة ببقايا الزيت المتساقط من الجدار. هممت بخلع حذائي غير أنني توقفت برهة أتساءل: "أيوجد روح ترتدي حذاء؟ وما حاجتها إلى السير على قدمين؟ أما زلت على قيد الحياة حقًا؟!". رفعت يدي أتحسس وجهي، إنها ذقني الشائكة التي تعلن عن نبأ احتلال بضع شعيرات لها من جديد، وهذه بالفعل يدي بأصابعها الطويلة الناعمة التي لا تلائم أيدي الرجال، على رأي نادر، ولكن كيف؟ وما هذا المكان؟ ترنح جسدي فأسرعت بخلع الحذاء وأصبح سيري على الأرضية أكثر ثباتًا.
تلفَّتُ في مكاني، أرنو ببصري باحثًا عن شخصٍ ما هنا أو هناك، أتأمل النقوش البيضاء البارزة على الجدار الأيمن، تبدو كرسمٍ ما لكنه غير واضح المعالم، لمست أحد خطوطه الناتئ بسبابتي فدُفس داخله، أبعدت سبابتي فانتفخ من جديد، إنه كجدار مصنوع من المطاط! كررت فعلتي مع خطوط أُخَر، وبينما أدفس النقوش داخل الجدار وأراقبها وهي تعود سيرتها الأولى بذات اللحظة التي أبعد فيها إصبعي، إذ ظهرت صورة فوتوغرافية أصغر من حجم الكف على بُعد ثلاثة أشبار من يدي، انبثقت من العدم فجأة كبثرة ناتئة على وجهٍ أملس، اقتربت منها فراعني ظهور صورة أخرى بجوارها، تلتها أخرى فأخرى كطفحٍ جلديّ بات انتشاره على الجدار خارجًا عن السيطرة، لم أملك سوى تأمُلها وهي تتصاف وتتراص جنبًا إلى جنب، خمس صور فخمس صور في كل صف، صفٌ فصف حتى اكتمل مستطيل مُكوَّن من ستة أصفف.
أنشأت الصور ترفرف على الجدار كرفرفة الغسيل على الحبال في يوم عاصف، فاقتربت من الصورة الأولى وألقيت نظرة فاحصة على الرسم الرمادي الشاغل منتصف خلفيتها السوداء، إنها صورة جنين كتلك التي تُلتقط بالأشعة التليفزيونية، انتزعتها، فتوقفت الصور عن الاهتزاز، تحسست منحنياتها، فانتشلني من تأملها صوتٌ رقيق مألوف لامرأة تسأل: "متأكد يا دكتور؟!".
التفت نحوها فزلّت قدمي وكدت أسقط لولا أنني فردت ذراعي وتمايلت إلى الأمام والوراء مرتين متطلعًا أمامي في ذهول؛ لقد تحول الجدار الموازي لجدار الصور إلى شاشة عرض سينمائية كبيرة ممتدة بامتداده، تعرض بداخلها امرأة مستلقية على سرير في غرفة كشف مغطاة حتى عنقها بملاءة بيضاء، تتطلع مع الرجل المنتصب بجانبها إلى الطبيب الواقف أمامهما بنظرات متسائلة.
لم يعد تحول الجدار إلى شاشة عرض سينمائي أمرًا مذهلًا، فقد كان الأمر الأكثر إذهالًا والذي كاد يُفقدني صوابي حينها، هو أنني أعرف تلك السيدة وذاك الرجل الذي بجانبها، أعرفهما حق المعرفة.




0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.