tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

تشبثت بذراع زوجها ونهضت مُعلِّقة عينيها على الطبيب المتعجب من رد فعلهما؛ كان يظن أنه قد زفّ إليهما خبرًا مفرحًا فإذا بهما كمَن تلقّيا صفعة غدرٍ للتو، عبّرت عن ذلك بوضوح عندما سألت وهي تغلق أزرار فستانها الأزرق:
- يا دكتور أنا ملتزمة جدًا بحبوب منع الحمل كيف يمكن أن أكون حاملًا؟
- هذا يحدث أحيانًا.. إرادة الله.
قالها وهو يتجه إلى مكتبه الحديدي، فنظرت إلى زوجها كأنها تطالبه بفعل شيء ما حيال هذا الأمر المباغت لكنه لم يسعفها سوى بتربيتتين على كتفها، ثم أمسك بيدها واصطحبها حيث الكرسيان الخشبيان أمام المكتب، وجلسا يرقبانه وهو ينقش بخطٍ باهتٍ كلمات متداخلة في دفتر مستقر فوق بقعة صدأ كبيرة.
ترتكز قوائم المكتب الأربعة على أرضيةٍ ارتدَت بلاطًا خشنًا رماديًّا باهتًا منقطًا بالأبيض، بجانبه عمود حديدي طوله متر تقريبًا يعلوه مصباح دائري عند رأسه، لا أعرف المغزى من وجوده. لم يتميز الطبيب عنهما بكرسيٍ جلديّ ذي عجلات، لا، كان كرسيه خشبي أيضًا مهترئ الأرجل، تنسدل على النافذة المفتوحة وراءه ستارة قصيرة من الدانتيل الأبيض المشوب باصفرار عتيق، وتكتسي حوائط الغرفة من أعلاها إلى أسفلها ببلاط خشن كاكي اللون، بدت لي غرفة من فيلم في أواخر الثمانينات، ولوهلة، أجفلني هذا الاستنتاج، أيعقل أن...؟!
قدم الروشتة إلى الزوج قائلًا:
- على مدام سهير أخذ هذه الأدوية بانتظام لحين موعد الاستشارة.
فأومأ الأخير وهو يطويها ويضعها في جيب بدلته الرمادية المتواضعة، وأخرج منديلًا كتانيًا من جيب آخر وناوله لزوجته فأنشأت تجفف دموعها التي انهمرت على وجنتيها رغمًا عنها. لم ينتبها إلى الطبيب الذي شبك أصابع يديه على مكتبه وأخذ يرمقهما من أسفل نظارته مربعة العدسات؛ أكاد أٌجزم أنه كان يتساءل بداخله تلك اللحظة عن موعد مغادرتهما ليستقبل الكشف التالي. تنحنح، فهبَّا واقفيْن وشكراه بصوتٍ واهن ثم اتجها إلى الباب، فاضطجع الأخير في كرسيه وقال مبتسمًا نصف ابتسامة:
- مبروك.
هزّا رأسيْهما دون ردٍ ودون التفاتٍ وغادرا.

فتح باب سيارته الخنفساء لزوجته وحين دلفت، جلس هو أمام المقود وقاد بصمتٍ لم يقطعه أحدهما طوال الطريق ولو بتنهيدة بسيطة حتى وصل إلى أحد الأحياء الشعبية، بطرقاتها المعبأة بالأتربة، وشوارعها المزدحمة بالعمارات السكنية، وأطفالها الراكضين خلف السيارة يتسابقون للتشبث بها أثناء سيرها. صفَّها بجانب عربة فول خشبية تنتظر حمارها الذي سيجذبُها متجوِّلًا بها في الصباح أمام عمارة قديمة. ترجَّلا، فانفضَّ الأطفال صارخين مبتعدين عن مؤخرة السيارة. اتجها إلى تلك العمارة القديمة، فرفعت السيدة تنورتها وتحسست بطرف كعب حذائها المسنون العتبةَ المكسوّة بالسباغ، وعندها هرولت قطة برتقالية مذعورة الوجه من الداخل باتجاهها مباشرة، فانزلقت وكادت تتهاوى لولا أن زوجها قد أمسك بمرفقيها في اللحظة الأخيرة.
وكأنهما لا ينتميان حقًا لهذا المكان، كانا يسيران تحت الأضواء الصفراء في مدخل العمارة الضيق بسرعة لكن بحذر، ينأيان بجسديهما بعيدًا عن عينيّ الوابور المشتعلتين على قدريْن كبيريْن من الفول، السيدة في الأمام وزوجها خلفها، يلوِّحان بأيديهما تجاه وجهيهما ليحجبا عنهما حرارة الموقد، وينتفضان إثر نهيق الحمار الصادح بغتة من إسطبله في بير السلم، ويرقبان باب شقة الطابق الأرضي على يمينهما وهما يصعدان الدرج متوجسين خيفة من أن يُفتح فجأة، فلا الطاقة كافية للجدال ولا الأجوبة وافية لكمّ الأسئلة، وأمام عتبة شقتهما القابعة في الطابق الثالث، التقطا ما هرب من أنفاسهما.
جلست على حافة سريرهما وانتزعت من كعبيها مسماريه ثم تنهدت قائلة:
- ما العمل الآن يا غريب؟
أخرج رأسه من ياقة قميصه القُطنيّ الأبيض وأجاب ملقيًا بنظرة عابرة على بطنها:
- سننتظره.
- ودراستي؟ ألم نخطط لتأجيل الحمل حتى أنهي الثلاث سنوات المتبقية.
- وحصل يا سهير، ها.. نجهضه؟!
فغرت فاهها واغرورقت عيناها بالدموع، فزفر ملتفتًا إلى شماعة خشبية بُنيَّة طويلة كغصن الشجرة بجوار الباب، وعلّق معطف بذلته على نتوء بارز من أحد جوانبها. سمع بكاءها، فتحسس معطفه مقرِّبًا خطوط جبينه الثلاثة من بعضها، ونكث رأسه متأملًا قاعدة الشماعة الدائرية ثم أطلق العنان لقدميه، فقادته إليها.
- أنا سأساعدك في شغل البيت.
قالها معانقًا يديها، فاستعبرت:
- تساعدني؟! أنت تعود من الجامعة مُجهدًا من إلقاء المحاضرات والاجتماعات في مجلس القسم وتسهر الليل على رسالة الماجيستير، وأنا بالكاد أوفق بين تلبية أوامرهم ودراستي.
قالت جملتها الأخيرة وهي تشير إلى الأسفل، فأحاطها بذراعيه قائلًا:
- غدًا سأطلب منهم إعفائكِ من أعمال البيت، لا تقلقي، سنتعاون وسأوفر الوقت لذلك.
ولم تجد أمام نبرة صوته الحانية ولمساته الرقيقة على شعرها بدًا من الاستسلام للأمر المفروض على عاتقها.


راقبت تلك المشاهد حتى استحالت الشاشة إلى سواد قاتم وأنا عاجز تمامًا عن تفسير ما يجري، لا أفهم، ما هذه الشاشة السينمائية العملاقة؟! وكيف ظهرت هكذا في الجدار من العدم؟! وما هذا المكان برُمَّته؟ أما يفترض بي أن أكون ميتًا، لِمَ أرَى هذا الآن؟
لم يكن استنتاجي أن ذاك الرجل هو زوج تلك السيدة منذ رؤيتي لهما عند الطبيب محض استنتاج عابر يحتمل الصواب أو الخطأ، كنت أعلم ذلك علم اليقين، بل كنت واثقًا من ذلك أكثر من ثقتي مما إذا كنتُ على قيد الحياة أم لا؛ إنهما والداي، وذاك لم يكن مقطعًا من فيلم سينمائي، وإنما كان مقطعًا من حياتي التي بدأت في بطن تلك السيدة الجميلة.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.