"الألم والقلم"
يا لهما من كلمتين على وزن واحد واتساق متحد وتشابه في النطق والوزن.
ولكن لا تحسبن أبدًا أن هذا التواؤم في اللفظ والحرف فقط، فما بين الألم والقلم تجانس كبير في المعنى والحقيقة، قبل أن يكون في النطق واللفظ.
هكذا قالها الكاتب الكبير "أنيس منصور" حينما قرأت له مرة:
-يجب أن نقول بألم فلان، لا بقلم فلان! لأن القلم يكتب بألم، والكتابة ثمرة المعاناة.
من أراد أن يكون لقلمه قيمة، فليكتب بألم، بتعب، بمعاناة، بإحساس، بحماس.
ولكن كيف تكون الكتابة ألمًا وهي متعة وموهبة؟!
إنها ألم مع أصحاب الفكر وذوي الرسالة، حتى أهل النفاق يجدون ألمًا في نفاقهم.
أعتقد أن "العقاد" هو الكاتب الوحيد الذي أعتقد أنه لم يتألم، ولكنه كان يُؤلم.
وبعد هذا؛ لا تحسبن كل الكتاب يؤمنون بالألم، ويشعرون بوجع الكتابة، إنهم فقط أصحاب الفكر وأصحاب الرسالات، والذين نصبوا من أقلامهم منارات الإصلاح، فترى الواحد فيهم يمثل ضمير أمته، ويحمل على كاهله همومًا، يرجو رفعتها وينشد كمالها، ويسعى إلى إصلاحها.
والكاتب يتعب ويصبر ويجاهد وهو يعصر وجدانه وعقله في التفكير؛ حتى يصل إلى الجديد، فهذا الجديد هو إكسير الكاتب، وبغيره لن يكون كاتبًا معتبرًا، أو يتلمس الناس في كتاباته قيمة مذكورة.
والوجع والألم لهما صورة أخرى أشد تعبيرًا، وهي ألم المقاومة والعراك، والتحدي والمواجهة والقتال، فالكاتب الجيد لن يسير قلمه هكذا في الحياة بسلام، بل سيمر بكثير من العقبات والتحديات ما بين اليأس والإحباط، والهجوم والعدوان، فتنظر إلى حياته فتجدها وكأنها حرب شعواء.
لقد أردت لهذه السطور أن تناقش كثيرًا من قضايا الكتابة والكتاب، ما يجدونه وما يعانون منه، وما ينتفعون به، وما يكسبهم مهارة القلم، وما به يعون كيف يسير طريق الثقافة في ساحتنا الحاضرة؟
بعض الكتاب يشعرون بتعب شديد وهم يعصرون قلوبهم وعقولهم في استحضار المعاني وتفسير المشاهد والتداخلات النفسية العميقة، التي يريد لها أن تعبر عنها أساليبهم الأدبية، ليست المشكلة في التعبير والبيان، ولكنها تبدو أكثر فيما يعرضه الكاتب على العقول والأذهان.
لنصل إلى نتيجة جامعة دقيقة؛ وهي أن الوجع يصيب أهل الفكر والرأي والإصلاح، ولا ينفصل عنهم أولئك الروائيون؛ الذين يبثون فكرهم في الرواية التي تقبض على عقل الإنسان وتأسر قلبه وتفيده بما يعلمه ويقوّم حسه وسلوكه وخلقه، ويصنع رقيه المنشود في الحياة.
وقد أواتيك هنا بمفاجأة خطيرة، أن هذا الوجع الذي أريد التحدث عنه ليس من قبيل الوجع الذي يُحدث الصراخ والأنين، ولكنه الوجع الذي يحمل عناصر البقاء أحيانا، وأحيانًا أخرى يحمل مقومات السعادة.
يقول بعض الأدباء:
-"قلت لها أنا مدينة من مدن الكتابة كلما حرقوها.. أمطرت على الأرض كتابات جديدة، بأساليب جديدة، لم يتعب الحاقدون ويستمروا في حربهم، وأنا لم أتعب بل أنا حزين مثل وجه القهوة والوطن".
ويقول الفيلسوف "عبد الرحمن بدوي":
-"إن كل مؤلف جديد تؤلفه إنما هو بمثابة خنجر تغرسه في قلب خصومك وحاقديك".
أحببت أن أشير إلى هذا الكتاب بعنوان (وجع الكتابة)، فهيا بنا نفتش فيه عن صور هذا الوجع، وألوان هذا الألم.
حاتم إبراهيم سلامة