-يتعجبون دومًا مما وصل إليه فلان وفلان من جميل التعبير، وغزارة الأفكار، وسيلان اليد، ووفرة الإنتاج، وشاهق الأسلوب، وجميل البيان.
يتعجبون من ذلك كثيرًا ويُدهشون، ثم لا يلبثون إلا أن يسلموا أن هذه هبة من الله وموهبة النفس، وعطية القادر لصاحبها، ونسوا أم تناسوا ما وفق الله صاحب هذه الموهبة لقدره من الاكتساب والجهد والتعب والمدارسة والاطلاع.
والحق أنني أنظر لأي أديب أو مفكر بلغت موهبته عنان السماء، فلا أجده إلا عظيم الاطلاع، مدمن القراءة، موغل النظر في الأسفار، وهو مما دعاني أن أقول اليوم:
-لو أردت أن تنال من العظمة التي نالوها، والرتبة التي تصدروها؛ فما عليك إلا أن تحاكيهم في نهمهم القرائي، وعشقهم للكتب، وصحبتهم للأوراق.
لقد محقوا أوقاتهم في سبيل العلم، وصارت هذه الأوقات أضيق بكثير من أن تستوعب هذه الرغبة الجامحة في تحصيل الكتب والمجلدات، لقد بلغ من إحساسهم بضيق هذه الأوقات وقلة سعتها، أن صارت الكتب لصيقة بأجسادهم، شأنها شأن الأرواح، فلم يتركوا الكتب من أيديهم في الذهاب والإياب والحل والترحال، في البيت والشارع، في العمل والتسوق، في الراحة والنشاط، حتى أوشكت أن تلازمهم في لحظة الخلاص أو في رؤى النوم!
انظر لأي أديب كيف كانت قراءته، قبل أن تنظر كيف كانت موهبته؟ لعلك تستلهم الدرس والعبرة والمراد، وقد تكون الموهبة ضئيلة في بعضهم، لكن القراءة تنميها حتى تصير كالعملاق الكبير الخلاب.
بقدرتك لو شعرت في نفسك قلة الموهبة، أن تكون شيئا كبيرًا، لو أنك أعطيت القراءة من نفسك ووقتك حظها المعقول، جرب وانظر ماذا ترى؟ إما أن تكون خاليًا معطلًا مهملًا وتنتظر وحي الموهبة وتندرها عليك بحسناتها، فلن تبلغ شيئا يسر النفس ويرضي الفؤاد.
القراءة وحدها يا عزيزي يمكن أن تحقق غايتك وغرضك وأمانيك ومطالب روحك.
موهوب بلا قراءة، كهذا الجندي الذي أعطوه سلاحًا ليحارب به في الميدان، أعطوه له بلا مقدمات وبلا استعداد أو تدريب وتأهيل على حياة الجندية، وما تستدعيه من مظاهر التعب والخشونة والجدية والصلابة والتحمل، ثم بعد ذلك تركوه في الميدان مع سلاحه، كيف له أن يقاوم، أن يحارب وهو لم يتدرب على شيء!
كذلك أنت أيها الكاتب، تقف اليوم وتزعم أنك من أصحاب الأقلام، ولم تقرأ ولم تطلع ولم تدرس، فقل لي بالله عليك كيف تكون أديبا معتبرا له قيمته ومقامه بين الأدباء؟!
هل تعلم "الرافعي"، ومن هو الرافعي؟!
إنه تلك الدرة النادرة في دنيا العربية، فهل تعلم كيف كان؟ حاشاك أن تظنه موهوبًا فقط، ولكني الآن أعرض عليك لمحة من حياته، لعلك تدرك أن الذي صنع الرافعي بالقدر الأوفى، لم تكن موهبة بين الضلوع، بقدر ما كانت قراءة شرسة عتية.
لقد علمني الرافعي أن الكتاب في حياته كان كل هيامه، في حله وترحاله، في غدوه ورواحه، في راحته وشغله، في نشاطه وسكونه، فقد كان إذا زاره زائر في مكتبه، جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله، ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مـا بين يديه ويقول لمحدثه:
-"تعال نقرأ ...، وتعال لتقرأ هذه" معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة.. وفى القهوة، وفى القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفى يده كتاب، وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر من طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب (ملازم) من كتاب؛ أي كتاب ليقرأه في الطريق، وفي القطار طنطا وطلخا (وبالعكس) استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام على، وكان لم يبلغ العشرين بعد.
ثم تأمل ما أخبرنا به صديقنا الأستاذ "مهند النعيمي" عن الكاتب "عزيز السيد جاسم" قوله: -عندما يقف قلمي على السطر بلا حراك، أدرك تقصيري في القراءة.
إنها القراءة إذن صانعة القدرات والإبداع ومولدة الطاقات.
يذكرني هذا دوما بمحطة المنفلوطي.
ائتوني بأديب لم يقرأ له؟ ولم يؤثر فيه المنفلوطي، ولم يعترف أن له فضل عليه، وأنه كان شغوفًا بكتاباته، ائتوني بمعلم لم ينصح طلابه وهم يتعلمون الإنشاء، أن يقرؤوا له حتى تلين عباراتهم وترق ألفاظهم، وتتحلى كلماتهم برقي البيان وصور البلاغة.
إنه (مصطفى لطفي المنفلوطي) الذي لم يكن غزير التأليف، لكنه ترك بما ألف من نزر يسير، بصمة مؤثرة لا في الأجيال التي قرأت له حال ظهوره فقط، وإنما في الأدب العربي كله على مر عصوره وأجياله، فإلى هذه اللحظة يتوجه كل من أراد أن يتعلم، كيف يكون أديبا أو كاتبا إلى نصوص المنفلوطي التي لا ترقق أدبه فقط، وإنما يسبقه تأديب الحس والشعور والوجدان.
كان والدي - رحمه الله- يقول لي:
-كنا ونحن صغار نتعلم في طنطا، فإذا ما انتهينا من المدرسة، توجهنا إلى المكتبة العامة؛ لقراءة العبرات والنظرات، وكنا نجدها بالية مهترئة من كثرة ما تمسكها أيدي التلاميذ، ويقبل عليها طلاب الأدب والبلاغة وفنون الإنشاء.
وكذلك أنا ومن خلال هذا التوجيه، كنت واحدًا من الذين قرأوا للمنفلوطي في صغرهم، قرأت الفضيلة، والعبرات والنظرات وفي سبيل التاج وماجدولين، تعلمت كيف يكون الإنشاء؟ واستقيت من مَعين اللغة وتعبيراتها وصور بيانها، مما ساعد وساهم في تكوين ذوقي الأدبي الخاص بي.
بكيت وتألمت وعشت لحظات من مناخ الأحزان التي ساهمت في تنمية إحساسي وشعوري بآلام الآخرين، والإحساس ببلاء المبتلين.
كان أدب المنفلوطي يأتي في الدرجة الثانية بعد أدب التراث وكتبه الضخمة العظيمة، بل كان على حد تعبير "نجيب محفوظ":
-محطة المنفلوطي أو مرحلة المنفلوطي.
ولست أبدا مؤيدا للأستاذ العقاد في نقده للمنفلوطي، ولا أعد هذا النقد إلا من قبيل الغيرة للشهرة والمكانة التي نالها.
كما ندم "طه حسين" أشد الندم حينما كبر ونضج، على هجومه على المنفلوطي وأدبه إلى حد الوقاحة، وكان يخجل كلما تذكر هذا التهور.
رحم الله المنفلوطي الذي إن شئت فقل صاغ خلقا، وشعورا وحسًا قبل أن يصوغ أدبا.
ورحم الله من قال:
-"ما كنت أكتب للناس لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرًا ممّا كتبت".