حينما كنت أقرأ هذا الكتاب القيم الفريد، (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) والذي كتبه رجل كان كل ما يخطه بيمينه المباركة، حبيب قريب إلى قلبي وعقلي وعاطفتي، وهو العالم الجليل المغفور له الدكتور (محمد رجب البيومي) كانت صحبتي لكتبه، كمن يتريض في بستان كبير يعج بصنوف الأشجار والزهور التي تشع بالعبير الفواح، والثمار اليانعة، أتعلم كثيرًا وأستفيد كثيرًا، وأكتب كذلك كثيرًا مما يلهمني به من أفكار ثرية غنية خصبة وافرة.
ومثل الدكتور محمد - رحمه الله- يأتي من هذه الطبقة، التي حينما تنتهي من كل قراءة كل ما كتب، يعتريك حزن وأسف، لأنه رحل دون أن يكتب لك شيئًا آخر تقرأه، تحزن بعمق لأنك انتهيت مما كتب، ولن تقرأ له شيئًا آخر، بعد أن رحل وجاد بكل ما لديه في التاريخ واللغة الأدب.
لكن تبقى فقط ما أفدته منه، وتعلمته من سطوره، ليكون سلوة وترضية وتخفيفًا من هذا الحزن المؤرق.
من يقرأ للدكتور البيومي، لا بد أن يكون حاضر الذهن، متقد الذكاء، حاد البصيرة، فالرجل يطرح لك آراءه وأفكاره التي يمكن أن تكون في موقف أو حكاية أو شعر أو كلمة أو جملة أو سطر من السطور، وإذا لم تكن يقظًا وتتنبه لهذه المغانم التي لا تعوض، ربما يفوتك حظ هائل من المعرفة والثقافة، والدقائق الذهبية فيما كتب.
معلومة بسيطة مما كتبها البيومي عن الشيخ العالم اللغوي الأديب (عبد القادر المغربي) تحكي عنه: "أنه كان من انبهاره بمجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها من باريس جمال الدين وتلميذه محمد عبده؛ كان المغربي من شدة شغفه باللغة العربية في صباه، قد جمع من أعداد مجلة العروة الوثقى خمسمائة كلمة جزلة، وقام بشرحها شرحًا من القواميس اللغوية مسندًا إليها شواهد الأدب ونصوصه".
دراسة أدبية فريدة وجديدة.
كانت مجرد معلومة يسيرة ذكرها الدكتور البيومي عن الشيخ المغربي، لكن هذه المعلومة تخفي وراءها منهجا كاملا متكاملا، وخطوة رئيسة ودقيقة ومهمة، لكل من أراد أن يكون كاتبًا، فسعة وتنوع المفردات، واغتناء قريحة الكاتب بالمعاني المتعددة للكلمة الواحدة، من أبرز وأهم الطرق التي تخطو بك نحو تحقيق الصورة المرجوة للكاتب المحترف، وهو الأمر الذي نذكره دومًا لكل المبتدئين الذين ينشدون فنون الكتابة، لا بد لمن أراد أن يكون كاتبًا؛ أن يحفظ الجُمل والمفردات الجديدة المبهرة المعبرة، حتى تتكون لديه ملكة التعبير، فحينما تكون هناك قضية من القضايا، أو حدث من الأحداث، أو أمر من الأمور، واقتضت الحبكة الكتابية أن أصفه بأكثر من وصف، حتى أضخم أمره، وأنسج حوله عملية إشباع وتركيز وتضخيم؛ فإن سعة المفردات هنا هي التي تمكنني
- ككاتب متميز- من هذا الغرض، وحفظي لكثير من المفردات هو الذي ينوع الأوصاف لما أريد توصيفه بها.
كما أن الصياغة الناجحة هي التي تتضمن ألفاظًا متفردة غير مكررة، فمن العيب والخلل أن أكرر مشتقًا من مشتقات لفظ واحد في عبارات متقاربة، فلا بد من التغيير بالألفاظ المختلفة التي تعطي معنى واحدًا، حتى لا يشعر القارئ بصدمات لفظية، تفسد ذوقه وحسه الموسيقي للحمل والكلمات.
جهز قرطاسًا أو دفترًا صغيرًا، وسجل به كل ما تقابله من جملة أدبية أعجبتك، أو مفردًا جديدًا أخذ سمعك، أو لفظًا مختلفا رن في وجدانك، حاول أن تحفظه وتردد، لينطبع في عقلك الباطن، وبعد فترة يسيرة، لا تجد نفسك إلا وأنت تعبر بنفس هذه الجماليات عندما تكتب.
لمسنا هذا ووجدناه في أنفسنا حينما كنا نحفظ الجمل والمفردات من كتب الأدباء والمفكرين، ولم نكن نعمد في ذلك الحفظ أن نكتب بها، أن تكون مددًا يسعف أقلامنا الفقيرة، فلم نحفظها إلا لإعجابنا بدلالها وجمالها، ولكننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا تستجلب ما أُعجبت به، ولا تستحضر في ذهنها إلا ذلك الذي أبهرها وسجلته، فعرفنا هذه الطريقة السحرية المجربة في صناعة الكاتب؛ الذي كنا نرجوه أن يتحقق في أنفسنا، ونأمل وجوده في أقلامنا.
هذا ما كنت أجده وألمسه في حياتي وبداياتي مع الكتابة، كلما حفظت أكثر كلما كثرت المفردات في قلمي أكثر، وكلما تسلحت بعبارات البيان؛ كان أسلوبي راقيا في بيانه، عذبا في تعبيره.
ونأتي هنا لشيء مهم وهو؛ لماذا تجد أكثر الأدباء المشهورين أو النابغين قد حفظوا القرآن في صغرهم، واعترفوا في كثير من تصريحاتهم أنه السر الأعظم في روعة بيانهم، وإليه يعود الفضل الأكبر فيما وصلوا إليه من مكانة أدبية ولغوية كتابة ونطقًا؟!
انتشرت في الآونة الأخيرة بعض المقاطع المرئية في اليوتيوب، لعالمة اللغويات المرموقة د "سهير السكري" رئيس دائرة اللغة العربية بمنظمة الأمم المتحدة، وصاحبة كتاب "محو الأمية في عام واحد"
المرأة التي تلقت تعليمها في أمريكا، وصار تفكيرها وحياتها أشبه بحياة الغربيين، ورغم كونها متبرجة وتلبس الثياب القصيرة فوق الركبة؛ إلا أن أحاديثها المتكررة عن القرآن وضرورة تعليمه للنشء إلى سن السادسة، كان شيئًا مبهرًا ولافتًا.
رفضت العالمة أن يُقبل الأطفال على الشعر والنثر، وإنما أكدت أهمية القرآن بالتحديد، لغناه بالمفردات التي تكسب الطفل قدرة مستقبلية على النطق السليم والقوي.
ففي حوار لها ذكرت؛ أنها سمعت يومًا قسيسًا يلقي كلمة بفصاحة وأداء قوي بياني رائع، فلما انتهى من كلمته سألته:
ما السبب في فصاحتك هذه؟
فرد عليها القسيس بقوله:
تعلمت القرآن في الدير بأسيوط!
لقد كان ردًا مدهشًا من هذا القسيس النابه الفصيح، كما كان ردا قاصمًا من جهة أخرى على المتحسسين من حفظ القرآن وقراءته للناشئة، كي لا يجرح مشاعر المسيحيين، ونبذ تعليم وحفظ القرآن في المدارس من أجل المسيحيين، لتظهر مدى الفقد والخسارة التي يجنيها الطلاب وأولهم المسيحيين، في استلهام القدرات اللغوية والنطق الراشد السليم، ليس على المسيحيين أن يدرسوا أو يحفظوا القرآن ككتاب دين، وإنما هو في غايتهم كتاب بلاغة، إن أرادوا صقل قدراتهم البيانية، وتقويم ألسنتهم واستقامة نطقهم.
رفضت العالمية الواعية دراسة الأشعار وقراءة الكتب، وركزت تحديدًا على القرآن الكريم، كأفضل الطرق لتحقيق الملكات اللغوية للأطفال.
ونوهت إلى مؤامرة الاحتلال على الكتاتيب التي تُحفظ القرآن؛ من خلال دراستهم لطبيعة الشخصية المسلمة التي حققت النجاح والغلب في الأرض، لقد أرجعوا سبب كل هذا إلى الكتاب، الذي يلقن الطفل آيات القرآن وقرروا إلغاء القرآن الكريم والاستعاضة عنه بمدارس لغات حديثة، ونجحوا في هزيمة المسلمين وتجريدهم من أصالتهم ومعاني قوتهم التي تبدأ من اللغة، ومن القرآن الكريم المتمثل في خمسين ألف كلمة، تضع هذا الطفل على مدارج العبقرية والقوة البيانية.
لم تتلقَ الدكتورة تعليمها في الأزهر، ولم تكن تنتمي في يوم من الأيام إلى أيديولوجية دينية مذكورة، حتى تدعو لحفظ القرآن وتدريسه ورفض دعاوي هجره من أجل المسيحيين، وإنما هي امرأة تلقت تعليمها في الغرب، وترتدي كما قلت ثيابًا قصيرة ومتبرجة، وتكشف عن ساقيها، لكنها في المقام الأول تتكلم بشكل علمي سليم، وتضع الأمانة العلمية في المقام الأول دون تحيز لأفكار وأغراض.
أوعيت الدرس يا من تريد أن تكون كاتبا؟!
عليك بالقرآن؛ هذا الكنز الذي يضع قلمك على أول درجة من سلم البيان إن أردت أن تكون من أصحابه.