هنسميها إيه يا «عز»؟
قالت عز «بصوتٍ واهنٍ، وعلامات تعب الولادة ترتسم على وجهها الشاحب فتزيده شحوبًا، وجسدها النحيل لا يمنحها القدرة على الكلام بصورةٍ طبيعيةٍ»:
«نور يا محمد، إنت مش شايف إنها زي فلقة القمر إزاي، والضي بيشع من وجهها الجميل».
قال محمد «والفرحة تغمر قلبه»:
«على بركة الله، «نور» وهي نور».
ضم محمد ابنته البكرية في حضنه برفقٍ وحنانٍ، ناظرًا في وجهها الذي يتلألأ تحت ضوء الفجر المنبعث من خلف شباك الحجرة المعتمة، إلا من بقايا شعاع خافتٍ صادرٍ من لمبة جاز معلقة في «الطاقة»، معلنًا عن إشراقة صبحٍ جديدٍ، شعر معه الأب الفلاح البسيط طيب القلب بأنَّ حياته ستتغير للأحسن على يد المولودة الجديدة، فقد استقبلها فؤادة بانشراحٍ وسرورٍ.
***
محمد لم يكن مثل غيره من رجال القرية يفضلون ولادة الذكور عن الإناث، وإذا رزقوا بالأنثى اسودت وجوههم، وانقبضت قلوبهم، عقيدة لديهم عششت وكبرت وتجذَّرت في أعماق أنفسهم، وسيطرت على قلوبهم وعقولهم يتوارثها الأجيال، جيلًا بعد جيلٍ، أن «ليس الذكر كالأنثى».. فالأولاد عزوة وسند للأب، يعتمد عليهم في أعمال الحقل الشاقة، أما البنات فلا فائدة من ورائهنَّ سوى الجلوس في البيت، يساعدن الأم في شئون البيت، وانتظار قطار الزواج». محمد كان مختلفًا، يرى أنَّ البنت رزق من الله، وأنَّ الله دائمًا يأتي بكل ما هو طيب وجميل، وكان على يقين أنَّ الله الذي رزقه بالبنت سيرزقه بالأولاد، ولم يخيب الله ظنه، فما هي إلا سنوات قليلة وأنجبت له «عز» ما تمناه من الأولاد: «مهدي وسلامة ورمضان»، كانت تفصل بينهم سنوات قليلة.
*** *****
محمد إمام إنسان مسالم، وهبه الله بسطة في الجسم، إلا أنه كان يملك من الطيبة والحنان ما يأسر به أهل بيته، حياته كانت عادية كأي فلاح بالقرية يعمل بالزراعة، يومه روتيني، يبدأ مع أذان الفجر أو قبله بقليلٍ، يصلي، ثم يذهب يقضي طوال النهار في الحقل، يزرع ويقلع ويحرث ويروي ويجمع المحصول. ومع غروب الشمس يعود إلى البيت، أيامًا متشابهة ليس بها جديد، حياة اعتاد عليها واعتادت عليه، عاش بداخلها وعاشت بداخله، حياة مستقرة لا تعرف التقلبات، أو النوات، تشبه الأرض في ثباتها، وتدور مع مواسم ودورات الحصاد.
أما الزوجة «عز» فكانت ذات شخصية صارمة، جادة قد توصف بالقوية إلا أنَّ بها مسحة من الحنان، مثل نساء قريتها تقوم على أمور بيتها، وتساعد الزوج في حقله إذا طلبها، لديها من الأخوات اثنتان: نعيمة الكبرى، وخضرة الصغرى، وهما متزوجتان، ولديهما من الأولاد والبنات، أبوهنَّ كان يقيم في محافظة تسمي بني سويف، وكان يمتهنَّ تجارة المواشي، جاء إلى قرية سقارة في إحدى المرات للعمل في التجارة، فأعجب بدفء جوها، وطيبة أهلها، فطاب له الحال للعيش فيها، فاستقر به المقام بها، كانت حياته ميسورة إلى حدٍ كبيرٍ، بسبب تجارة المواشي، قد رزقه الله بالبنات اللاتي تزوجن في حياته، وكل منهنَّ كونت أسرة، وكانت زوجته تدعي «فتنة»، عاشت من العمر سنين طوالا، مائة عام إلا قليل، حتى أصبح ظهرها لم يقوِ على مواجهة متاعب الشيخوخة والزمن، فانحنى كغصن شجرة الصفصاف الذي يكاد يلامس الأرض، كبرت «عزّ» وتزوجت من محمد الذي يكبرها في السن، وكان محمد متزوجًا بامراة أخرى من قبلها، أنجبت له 3 بنات، لا يُعرف بالضبط: هل طلقها وأخذت البنات معها وعادت إلى بيت أبيها، وعكفت على تربيتهن حتى كبرن وتزوَّجن فيما بعد، أم أنها ماتت وتركت له البنات، وقام هو بتربيتهنَّ حتى تزوجنَّ، ثم تزوَّج بعد ذلك من «عز» التي أنجبت له «نور»، ثم تبعها ثلاثة أبناء: مهدي وسلامة ورمضان.
نعود إلى «نور» بطلة حكايتنا.
ملأت «نور» حياة الأب فرحة وحنانًا، فكان يحبها حبًا شديدًا لطيبة قلبها، ومساعدتها لأمها في شئون البيت، رغم صغر سنها، كانت طفلة مطيعة، ذكية، نشيطة، ليست مثل بنات سنها، لا تسبب مشاكل بشقاوتها، تلعب وتملأ البيت مرحًا في براءة، دون إحداث ضجيج أو إزعاج، ارتبطت «نور» بالأب أكثر من ارتباطها بأمها، رغم طيبة أمها التي لا تخلو من مسحة الجدية والصرامة، ورثتها من أمها «فتنة» التي كانت صارمة وشديدة البأس، الحياة عندها أبيض أو أسود، لا تعرف اللون الرمادى، أما الأب فكان أكثر طيبة وحنانًا من زوجته «عز» التي كانت تفضل الأولاد عن ابنتها، أما «محمد» لا يفرق بين الولد والبنت في المعاملة، وإن كان يميل أكثر لـ«نور»، لأنها «البنوتة» الوحيدة في الأسرة، وتحتاج الحنان أكثر من الأولاد الذين كانوا منشغلين عنه بلعبهم، وخروجهم مع أترابهم في الشارع، أما «نور» فكانت ملتصقة بأبيها بمجرد عودته من الحقل مع وقت الغروب، تلعب معه، ويلاعبها، يضحكان في براءة حتى يغلبها النعاس، وهي في حجر جلبابه الطويل الفضفاض، يحملها الأب برفقٍ إلى السرير لتنام في حضن أمها، ثم يقوم ليصلي ركعتين قيام ليل وينام مرتاح البال، ليستيقظ مجددًا مع أول خيطٍ من خيوط الفجر، ليركب حماره ومن خلفه، جارًا بهائمه بحبلٍ مشدودٍ في يده، ذاهبًا للحقل، لزراعة 5 قراريط كان قد استأجرها لزراعتها.
****
حياة هادئة عاشتها «نور» في بيت أبيها بقرية سقارة، كطبيعة حياة أهل الريف في قرى محافظة الجيزة، وسقارة قرية هادئة تعيش في حضن الجبل، يفصلها عن شارع الهرم الشهير 20 كيلو مترًا فقط، معروف عن أهلها الطيبة والسماحة والكرم وحب حفظ القرآن الكريم، بسبب انتشار الكتاتيب في كل مكان بالقرية في الماضي، كانت تشتهر بزراعة أشجار الليمون، ولو كان للقرية شعار لاختارت شجرة الليمون شعارًا لها. ورغم أنَّ القرية حباها التاريخ بأول هرم أثرى في الوجود «هرم زوسر»، وآثار تشكل ثلث آثار مصر فإنَّ أهلها لم يفضلوا العمل في السياحة، بسبب تدينهم، واكتفوا فقط بالزراعة، قليل منهم من اضطر للعمل في السياحة ممن لم يكن لديه أرض يزرعها لكسب المال من أجل العيش فقط.
وكعادة الريف في الماضى لا يرسلون بناتهم للتعلم في مدارس، لعدم وجود مدارس للبنات في القرية، أما الأولاد فكانوا يذهبون للمدارس في قرية تسمى «ميت رهينة»، ومن ينتقل للمرحلة الإعدادية والثانوية يذهب إلى مدارس المركز بالبدرشين، ورغم حب «نور» للتعلم والذهاب للمدرسة فإنَّ عادات الريف وقفت حائلًا دون تعلمها، وتحقيق حلمها الذي ظل يراودها بين الحين والحين لسنوات وسنوات.
******