في يومٍ من أيام أغسطس الحارة حدث شيء ما من الصعب تصديقه، ولكنه حدث ظل عالقًا في أذهان وألسنة أهالي القرية، يرددونه لسنوات في اندهاش في مجالسهم، وفي بيوتهم، وفي الشوارع، وكان حديث الأسواق.
ماذا حدث في هذا اليوم؟
استيقظ محمد كعادته قبل الفجر بقليل، وصلى ركعتين لله، ثم صلى الفجر، وأيقظ «عز» للصلاة، بعدها ذهب إلى الحقل مع تباشير الصباح التي أرسلها الفجر لتضىء القرية، وكعادة محمد يسبح ويردد أذكار الصباح في طريقه للغيط.
خرجت «عز» إلى «الكدية»، وهي اسم لسوق القرية، يسميه الأهالى بهذا الاسم، لشراء احتياجات البيت، ثم عادت وأيقظت «نور» التي أنهت عامها الخامس، في هذا اليوم جاءت إحدى جيران «عز»، وهي صاحبتها المفضلة، وتدعى «أم إبراهيم»، امراة ليس لها حظ في الإنجاب، فهي عاقر، ولكن الناس أطلقوا عليها هذا الاسم أملًا في أن تلد ولدًا تسميه إبراهيم، وكانت تعشق الأولاد والبنات بشدة، لأنها حرمت منهم، وكانت «أم إبراهيم» تحب «نور» لطيبة قلبها، فقبلت «نور» واحتضنتها، وقالت: ما شاء الله يا «عز»، «نور» كبرت،.. فاحمر وجه «نور» وتركتهما وخرجت مسرعة لتلعب مع بنات الشارع، وانشغلت «عز» عنها، وبعد دقائق عادت «نور» إلى الدار، ولم ترها أمها المشغولة بالحديث مع جارتها، مرَّت ساعة، وجرت وراءها ساعة، ولم تسمع «عز» صوت «نور» فقالت:
«البنت مش سمعلها حس ولا خبر».
فطمأنتها أم إبراهيم قائلة:
«يمكن بتلعب مع البنات».
نادت «عز» على ابنتها، ولكنها لم ترد.
فقالت لها أم إبراهيم:
«هما البنات كده لما يلعبوا مبيسمعوش اللي بينادوا عليهم، وينسوا نفسهم في اللعب».
-ردَّت «عز»:
«عندك حق».
وظلا يتجاذبان أطراف الحديث.
وفجأة نادت «عز» من جديدٍ:
يا «نور» يا «نور».. ولم يأتها سوى صدى صوتها.. فقامت «عز» فجأة غاضبة مهددة «نور» بالضرب، لعدم سماعها الكلام.. وظلت تنادي:
«إنتى يا بنت انتى فين».. ولكن لا مجيب.. اندهشت «عز» من عدم استجابة «نور» لندائها المتكرر.. خرجت لتسأل أطفال الشارع عن «نور»، ولكنهم أخبروها أنهم لا يعرفون أين ذهبت.. قالوا إنها كانت تلعب معهم واختفت فجأة.. انشغل قلب «عز» عنها.. وبدأ القلق يلعب بها.. دخلت مجددًا تبحث في كل مكان بالبيت ولم تجدها.. مما زاد من حيرة «عز».. وبدأ الخوف يأكل قلبها على ابنتها مع مرور الوقت.. خرجت تهرول من جديد تسأل الجيران بكلمات يتخللها الدموع: هل رأى أحد «نور»؟.. وعندما تأتي الإجابة بلا، ينهش الرعب والفزع قلبها الذي بدا كفؤاد أم موسى فارغًا، تجمعت نساء الشارع وأطفالهنَّ يبحثون عن «نور»، الأطفال ينادون «نور».. النساء ينادين «نور».. ولكن بلا جدوى، ولا إجابة تشفي صدر الأم، تهدئ من فزعها على ابنتها الصغيرة. أعلن المؤذن عن صلاة الظهر.. ثم العصر.. ولا شىء يتغير.. النساء تقودهن «عز» حافية القدمين، وقلبها يدق بقوةٍ صعودًا وهبوطًا في صدرها.. يبحثون عن الفتاة المختفية، وأمسى اختفاء نورالغامض والمفاجئ لغزًا محيرًا للجميع.
علم محمد بخبر اختفاء ابنته، فجاء بأنفاس متسارعة تسبقه إلى البيت، تاركًا كل شىء وراءه.. قاطعًا المسافة ما بين الأرض التى يزرعها وبيته في دقائق معدودة.. وهي التى يقطعها في ساعة في الأوقات الطبيعية للبحث عن ابنته فلذة كبده.
تعالت أصوات مكبرات الصوت تعلن عن اختفاء طفلة اسمها «نور» في كل أنحاء القرية.. وبدأ الجميع رجالًا ونساء وأطفالًا يبحثون عن «نور».. تاركين كل شىء خلفهم، وألسنتهم تردد: أين ذهبت.. هل خطفت.. أم ضاعت.. أم ماذا؟.. كلها أسئلة تبحث عن إجابة.. أقبل الليل والبحث مستمر دون كلل أوملل.. حاملين في أيديهم مشاعل من نار تضىء لهم الطريق.. ولما شعروا بخيبة الأمل عادوا إلى بيت محمد و«عز» يصبرونهما، ويؤكدون لهما أنَّ «نور» سوف تعود، وإن شاء الله لن يحدث لها مكروه.. ظل الناس متجمعين في بيت محمد حتى بزوغ الفجر، لا يريدون أن يتركوه هو وزوجته وهما في هذه الحالة.. وما إن أذن المؤذن لصلاة الفجر بدأ الجيران في الانسحاب من بيت محمد.. منهم من عاد إلى بيته في حزن.. ومنهم من ذهب للصلاة.. ومعهم محمد في حالة صدمة، غير مصدق أنَّ ابنته لا تنام في حضنه، ولا يعرف عنها شيئًا.. هل هي مازالت حية؟.. أملا قدر اللهحدث لها مكروه؟.. ظل يبكي لله ويدعو أن يرحمه ويعيد إليه ابنته.. بينما «عز» جالسة واضعة يديها على خديها في حزنٍ شديدٍ، مرتدية جلبابًا أسود، وقلبها كاد أن يتوقف من شدة الخوف على ابنتها.
في الصباح توافد عليهم الجيران من جديدٍ، حتى امتلأت الدار بعيونٍ شاخصةٍ، وعقول تفكر في مصير الطفلة.. ويتساءلون: هل يذهب محمد لإبلاغ الشرطة باختفاء ابنته.. أم يواصلون البحث في القرى المجاورة، لعلها خرجت دون أن يراها أحد، وضلت طريق العودة للبيت.. اتفق الجميع على مواصلة البحث، وإرجاء إبلاغ الشرطة حتى لا يتهموا الأب والأم بإهمال في حق ابنتهما الطفلة الصغيرة، التي لم تبلغ الستة أعوام، تعالت أصوات المكبرات في المساجد والشوارع بالقرى المحيطة بسقارة.. ولكن لا مجيب.. عمّ الخوف والفزع الجميع، وبدأت النساء يمنعن بناتهن الصغار من الخروج من البيت، حتى لا يتعرضن لنفس مصير «نور».. في الليل قام محمد، وصلى ركعتين بقلب خاشع وجل، يرجو رحمة ربه.. بعدها غلبه النعاس من شدة التعب والإرهاق.. وفي منامه شاهد شيئًا غريبًا أتاه.. سيدنا يوسف في منامه يصافحه ويقول له لا تحزن إنَّ الفرج قريب.. قام محمد من مكانه فرحًا مستبشرًا ينادى على «عز» الجالسة تحت قدميه لم يغمض لها جفن من يومين، قومي يا «عز».. قومي هاتى«الكلوب» وتعالى ورائي.
• قالت عز «بصوت هادئ منكسر»:
«هتروح فين يا محمد الساعة دى».
قال لها محمد:
«تعالي ورائي واسمعي اللي بقولك عليه.. «نور» في البيت.. لم تغادر البيت».
قالت «عز»:
«إنت اتجننت يا راجل.. في البيت! ومش لقينها.. إنت عقلك طار من دماغك حزنًا على نور».
قال لها:
«نور لم تغادر البيت.. الرؤيا تفسيرها كده.. تعالى بس بسرعة ورائى بالكلوب.. مضيعيش الوقت».
قامت «عز» مسرعة ومشت وراءه لا تفهم شيئًا مما يقوله محمد، حاملة الكلوب يسبقه شعاع من «نور».. حتى وصل محمد إلى البئر القديمة الموجودة بالقرب من حظيرة البهائم في آخر الدار، وأمسك محمد الكلوب من يد زوجته ضاربًا بنور في فوهة البئر المعتمة ونادى يا «نور».. يا «نور».. ولم يسمع سوى صدى صوته يأتيه من أعماق البئر يردد يا «نور يا نور».
وعاد مجددًا:
«يا نور ردي علىّ.. ردي على أبوكِ»..
ثم سمع صوتًا ضعيفًا جدًا لا يكاد يسمع.. عرف الصوت، لم يكن صدى صوته، بل صوت ابنته «نور».
فقال محمد «مهللًا»:
«نور» في البئر يا عز، «نور» سقطت في البئر، ونحن نبحث عنها خارج الدار في شوارع القرية.. نور حية، أحمدك يا رب.
«عز» في حالة زهول، تجمع الجيران حول البئر بعدما سمعوا صوت محمد.. وعلموا أنَّ «نور» سقطت في البئر، وهي مازالت حية.. أضاء الجيران الأنوار بلمبات الجاز.. واستعان أحدهم بحبل غليظ ربطه بإحكام حول وسطه.. ونزل البئر التى كان فيها من الماء إلا القليل جدًا في أعماقه.. فوجد «نور» جالسة على صخرة بها لا تمسها ماء البئر الشحيح.. فحملها على ظهره.. وطلب من الواقفين حول فوهة البئر جذب الحبل.. الجميع في حالة ترقب، تعلوهم الدهشة مما يرونه.. غير مصدقين، لولا أنَّ عيونهم هي التى رأت، وآذانهم هي التي سمعت.. خرجت «نور» من البئر.. تعالت صيحات الفرح والتكبير.. الله أكبر الله وأكبر.. لا إله إلا الله.. خرَّ محمد ساجدًا لله عندما رأى ابنته من جديد، ولم يحدث لها مكروه، إلا من أثر خبطات سطحية في الرأس والوجه والأقدام.
في اليوم التالي أفاقت «نور».. وبدأت تتكلم وتحكي ما حدث لها، وكيف سقطت في البئر.
وأخذت نور تحكي ما حدث لها:
«خرجت من البيت للعب مع البنات في الشارع ومعهم عرائسهم.. إلا أنهم قالوا لي لن تلعبي معنا بدون عروستك.. فعدت إلى البيت لإحضار عروستي القماش.. ظللت أبحث عنها فلم أجدها.. فتذكرت أنني نسيتها بجوار البئر القديمة.. فذهبت لإحضارها.. فسقطت مني في البئر.. فنظرت إليها فوجدتها لم تسقط في قاع البئر، بل كانت معلقة بالقرب من فوهة البئر من الداخل.. مددت يدي للإمساك بها.. ولإنها كانت بعيدة عني وقفت على أطراف أصابع أقدامي لكي أتمكن من التقاطها.. فوقعت في قاع البئر.. صرخت بأعلى صوتي.. ناديت على أمي وأبي.. لم يسمعني أحد حتى فقدت صوتي.. لم أستطع أن أنادى مرة أخرى، فقد بح صوتي.. فغلبني النوم حتى الصباح.. وظللت أصرخ بصوت المبحوح.. ولكن لم يسمعني أحد.. وفي الليل كنت أسمع صوت أبي وبكاء أمي ولكنهما لم يسمعاني».
•••
بعدما علم أهل القرية بالرؤيا التي رأها محمد في منامه، عَظُم شأنه أكثر عند أهل قريته.. واعتبروه وليًا من أولياء الله الصالحين.. بدأوا يتعاملون معه على هذا النحو.. كلما أصاب أحدًا مكروه، أو ضائقة لجأوا إليه يطلبون دعاءه.. وإذا مرض طفل من أطفال القرية أخذته أمه إلى محمد، بدلًا من الذهاب للطبيب، ليقرأ له، ويمسح على جبهته، فيشفى بإذن الله، كان محمد يندهش من تصرفات أهل القرية.. ويقول لهم: «أنا واحد مثلكم، لم يفضلني ربي، فلست وليًا من أولياء الله الصالحين، ومعجزة البئر ليس لي دخل بها، مرددًا الآية الكريمة: «ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب».. والحمد لله أوجد لي مخرجًا، وأزال الهم والحزن عن ابنتي، وأعادها إلىَّ بسبب كثرة الدعاء.. وكثيرًا ما كان يوصي الناس بالدعاء، لأنه نص العبادة، ويغير الأقدار. أراد محمد أن يفعل شيئًا يتقرب به إلى الله عرفانًا له وليشكره، لأنه أنار بصيرته وهداه للعثور على ابنته في ظلمات البئر فهداه تفكيره إلى عمل سبيل فأقام بئرًا على قطعة أرض يمتلكها أمام بيته ليشرب منها المارة وعابرو السبيل وأحاطها بالطوب حتى بدت كالقبة ليسهل تعبئة الماء منها وحتى لا يتسلق عليها اطفال الشارع فيقع أحد فيها وأطلق الناس في القرية على البئر سقية محمد ، وبات الناس يشربون منها في غدواهم ورواحهم وزاد إقبالهم على السبيل، وخاصة عندما شعروا بالفارق بين ما يشربونه في بيوتهم وماء هذا السبيل فكانت مياهه باردة في الصيف ودافئة في الشتاء ذات صفاء وحلاوة مع مرور الوقت ازداد تعلق أهالى القرية بهذا السبيل ودارت حوله الشائعات والأقاويل، حيث تردد أن مياهه تشبه في حلاوتها مياه زمزم تشفي من الأسقام والأمراض وبالغ الناس في الافتتان بالمياه لدرجة أن انتشرت شائعة مفادها أنَّ المرأة التي لا تلد إذا شربتها واغتسلت بمائها تلد بإذن الله وأنها تمنح الرجال قوة وصلابة إذا اعتادوا على شربها في الصباح وفي المساء وتفك نحس العوانس وتجلب الرزق حكايات كثيرة دارت حول سبيل محمد إمام ومع مرور الوقت تغير اسم السبيل إلى مقام الإمام الذي تحول إلى مزار يتوافد إليه الناس من القرى المجاورة لقرية سقارة جاءوا للتبرك حوله والاستعانة به لقضاء حوائجهم وحل مشاكلهم بعدما بلغت شهرته الآفاق وتجاوزت حدود القرية إلى أماكن بعيدة، وفي أحد الأيام استيقظ أهالى القرية على حدث كان غريبًا عليها فوجئوا بأعداد كبيرة من الغجر يفترشون الشارع المقام فيه مقام الإمام ويشرعون في إقامة الخيام ولما سأل الناس عن سبب مجيئهم قالوا جئنا لإحياء مولد سيدي الإمام وقعت الكلمة على أسماع الناس وقع الصدمة والاندهاش وتساءلوا بين أنفسهم منذ متى أصبح مقام الإمام له مولد يأتى الغجر من أجل إحيائه، راقت الفكرة لأهالى القرية ولم يرفضونها، لأنها سوف تميزهم عن باقى القرى المجاورة وفرش الباعة الجائلون بضائعهم في الشارع وانتشر بائعو الحلوى كما نصبت المراجيح المصنوعة من الأحبال وألواح النخيل في المنطقة الفسيحة المجاورة لمقام الإمام كان المولد في هذا العام بدائيًا، وفي الأعوام التالية كان أكثر صخبًا ورواجًا، حيث انتشرت الألعاب البهلوانية وفقرة الأراجوز وتزايد أعداد الزائرين رجالًا ونساء وأطفالًا الذين جاءوا من القرى المجاورة بعدما أصبح المولد ذا شهرة كبيرة، ظلَّ المولد يقام سنوات وسنوات ينتظره الناس كل عام في أواخر شهر أغسطس وكانت حركة التجارة في القرية طوال أسبوع انعقاد المولد نشطة وتتسم بالرواج.
لم يكن محمد إمام معجبا بفكرة إقامة مولد بالقرب من بيته وعلى هذا النحو الغريب ولكن لم يكن بيده شئ، الأمر أصبح واقعًا من الصعب تغيره، كان قلبه ينقبض طوال أسبوع انعقاد المولد من كل عام ولم يكن يعرف السبب.
في أحد الليالى قام محمد من نومه فزعًا، استيقظت زوجته عز على صوته وهو يردد لا إله إلا الله لا إله إلا الله فقالت له مغمضة العينين مالك يا محمد قال حلمت بنار تمسك بطرف جلبابى قادمة من الخارج من ناحية السبيل قالت لا تخف ده كابوس علشان شكلك تقلت في الأكل قبل ماتنام ردّ محمد أكل إيه يا عز ده مش كابوس ده رؤية، وإشارة لحاجة مش عارف إيه بالظبط.
لم يستطع محمد أن يستكمل نومه وظل يفكر طوال الليل حتى أذان الفجر فقام وتوضأ وصلى وذهب إلى الحقل، وفي اليوم التالي حلم بذات الحلم ولكن هذه المرة النار ارتفعت حتى وسط جسده وفي اليوم الثالث بلغت النار رقبته وفي كل مرة لا يستطيع تفسير الرؤية وفي اليوم الرابع سمع في منامه صوت يتردد السبيل يا محمد السبيل يا محمد عندها أدرك محمد وفهم الرؤية جيدًا أن السبيل هو النار التي تحرقه في المنام فقرر تنفيذ الرؤية وهدم السبيل ليرتاح.
________________________________________
لم يذهب محمد في هذا اليوم كعادته للحقل حمل فأسه على كتفه الأيمن ومقطفًا في اليد اليسرى وهمَّ بالخروج إلى السبيل استوقفته عز وسألته لسه مصر على هدم السبيل يا محمد قال نعم لابد من هدمه ومساواته بالأرض لكي أرتاح ويرتاح ضميري وربنا يرضى عني، قالت عز الناس مش هيسبوك تهدم السبيل ردَّ محمد مندهشًا وما الناس بالسبيل أنا اللي بنيته على أرضي وأنا حر في هدمه والناس ليس لها شأن به قالت عز الدنيا اتغيرت السبيل بقى شىء مهم عند أهل القرية السبيل بقى في عقولهم وقلوبهم ويحقق لهم مكاسب وقت المولد، الناس بقت تستنى مولد الإمام السنة من السنة.
ردَّ محمد متعطلنيش يا عز وسبيني أهدم السبيل بقى نذير شئوم وخايف على أهل القرية منه الناس سرقاهم السكينة وعايشين في ضلال فكرين إن مية السبيل هي اللى بتشفي ونسوا أنَّ الشافي هو الله وتركها وخرج مسرعًا بأدوات الهدم الفأس والمقطف المصنوع من جريد النخيل دون أن يسمع آخر كلماتها والله أنا خايفة عليك ربنا يحفظك يا محمد.
بسرعة البرق انتشر خبر عزم محمد إمام على هدم السبيل فتجمع الأهالى من كل أرجاء القرية في مشهدٍ مهيبٍ لم تألفه القرية من قبل، انقسم الأهالى بين مؤيدٍ ومعارضٍ وارتفعت الأصوات وساد الصخب وعمَّت الفوضى المشهد، وكاد الفريقان أن يتشابكا بالأيادى لو تدخل الحكماء والعقلاء من أهل القرية قال محمد السبيل أنا اللي بنيته وأنا وحدي صاحب الحق في هدمه لأنه مقام على أرضي فتعالت صيحات التأييد، أما الرافضون قالوا صحيح إنك أنت الذي أقمت السبيل على أرضك ولكنك أقمته من أجل الناس والناس هم أيضًا أصحاب حق فيه، كما لك حق، فتعالت صيحات الرافضين، قال محمد أقمت السبيل من أجل الله لأشكره على نجاة ابنتي نور ولكنكم أسأتم استخدام السبيل وعملتوه مقامًا وأسميتموه مقام الإمام وفتنتم بماء السبيل وظننتم أنها هي التي تشفي من الأمراض ونسيتم أنَّ الشافي هو الله وتباركتم حول السبيل وأقمتم حوله الموالد وذبحتم الأضاحي وأضلكم الشيطان وأنساكم الله وكدتم أن تعبدوا السبيل، كما عبد قوم موسى العجل، وأخبرهم بالرؤية التي رأها في منامه على مدار أربعة أيام تطالبه بهدم السبيل عندها هدأت الأصوات وساد الصمت وما هي إلا دقائق حتى تحول مقام الإمام إلى كومة من التراب وتم ردم البئر وانصرف الناس من حوله، وكان ذلك بداية لهدم الأضرحة والمقامات التي انتشرت في أنحاء القرية من سنوات وأصبحت سقارة بلا أضرحة ومقامات.
مرَّت الأيام والشهور والسنون ونسى الناس أمر المقام وانشغل الجميع في حياتهم الطبيعية، وفي إحدى الليالي دار حوار عن «نور» بين عز ومحمد.
عز:
«البنت كل يوم يجي لها خُطَّاب يطلبوها».
محمد:
«تقصدي مين اللي بيجي لها خطَّاب وعرسان يطلبوا إيدها؟.
عز:
«نور يا محمد».
محمد «مندهشًا»:
«دي نور لسة صغيرة مكملتش 12 سنة! .
عز:
«نور كبرت وخرَّاط البنات خرطها.. بس إنت اللي شايفها عيلة بضفيرتين».
محمد «مصدومًا، ضاربًا كفًا على كفٍ من كلام مراته»:
«نووور»!
عز:
«كل يوم والتاني تكلمني واحدة من الجيران على «نور»، عايزة تجوزها لعيل من عيالها وأنا أتحجج بأنها لسة صغيرة».
محمد:
«طيب ما إنتِ بتقولي نفس كلامي، إنها لسة صغيرة، يبقى إيه المشكلة؟».
عز:
«المشكلة إني بتحجج وبقول كده علشان مش عاجبني ولا عريس من اللي بيتقدموا.. نور مش صغيرة، وأنا خايفة عليها، وعايزة أسترها.. الجواز سترة للبنت.. نور كبرت يا محمد، بس إنت اللي مش واخد بالك».
أخذ محمد يختلس بعض النظرات لابنته ويرمقها بطرف عينه، وهي جالسةً بعيدًا في ركن من أركان البيت، ممسكة بعروسة من القماش، تلعب بها في براءة مندهشًا من كلام زوجته.. ثم يرتد ببصره شاخصًا شاردًا بذهنه متحدثًا لعز:
«ومش عجبينك في إيه العرسان.. دول كلهم من أسر طيبة وأهاليهم عارفنهم؟.
عز:
«أختي نعيمة عايزة نور لابنها شعلان».
محمد ما إن سمع اسم شعلان من فم زوجته «عز» تنطق به، وكأنَّ عقربة قد لدغته، وأخذ يردد بانفعالٍ:
«شعلان.. شعلان يا عز.. تجوزي نور لشعلان يا عز».. وأخذ يضرب كفًا على كفٍ من جديد بقوةٍ هذه المرة.
عز تجلس القرفصاء على الأرض، تهز رأسها للأمام والخلف، تاركة يديها تتحرك بحرية في الهواء يمينًا ويسارًا تبادله نفس الانفعال:
«وماله شعلان ابن أختي نعيمة.. عارفينه ومربينه، وإنت أكتر واحد عارفه.. علشان إنت اللي مربيه بدل أبوه عبدالمغنى»..
«وكان عبدالمغنى قد طلق «نعيمة» أم شعلان وتركه لها.. وتزوَّج من غيرها أكثر من 11 واحدة، وأصبح زير نساء، بعدما ضحكت له الدنيا، وأصبح من الأغنياء يلعب بالمال لعبًا، يطلق اليوم واحدة ويتزوج غدًا بأخرى، فترك ابنه لأمه غير مبالٍ لاحتاجاته ولم يصرف عليه».
محمد بعد أن بدأت أعصابه تهدأ:
«عندك حق شعلان إحنا اللي مربينه زى مهدي وسلامة ورمضان، ولم أتخيل أن يكون في يومٍ من الأيام زوجًا لـ نور».
وعاد محمد يردد:
«دي «نور» يا «عز».. ابنتك الوحيدة، معندكيش بنات تاني.. هتديها برضه لشعلان.. إنتِ مش خايفة يطلع زي أبوه عصبي، يضرب بنتك ويهينها، ولما الفلوس تجر في إيده يرمي بنتك ويتجوز عليها؟».
عز «واضعة يديها على خدها»:
«اطمن.. شعلان مش هيكون زي أبوه عبدالمغنى نسوانجي ومنفلت وبتاع مزاجه.. شعلان حاجة تانية.. ولد كسيب وبيعرف يجيب القرش.. وهيحافظ على نور علشان متربي معاها».
محمد «على وجهه علامة اندهاش»:
«كسيب منين.. ده عاطل وملهوش شغلانة ثابتة».
عز:
«شعلان متعلم ومعاه الإعدادية، وهيكمل تعليمه، وربنا يكرمه في التعليم ويبقى موظف أد الدنيا».
محمد «يتحدث في غضب»:
«شعلان مش بتاع علام.. ده ملموم على شلة عيال فاسدة في البلد، رايح جاى معاهم في كل حتة، والناس اشتكوا منه كتير».
عز:
«إنت ليه متحامل على ابن اختي كده.. إنت شكلك بتكرهه! ».
محمد:
لأ مش بكره شعلان، بالعكس أنا بحبه وبعامله زي أي واحدٍ من أولادي، أنا أطلع اللقمة من بقي وأكلهاله، ولكن حبي لـ«نور»، وخوفي عليها أكثر، شعلان مش هيريح بنتك يا عز، شعلان هيتعبها، وخايف أموت وقلبي وكلني عليها.
عز:
«إطمن على نور مع شعلان، هو ابن خالتها برضه ومش هتهون عليه».
محمد «فى يأسٍ وإحباطٍ»:
«اللي عايزة تعمليه اعمليه، أنا مش مرتاح للجوازة دي، وخايف إن نور تعيش حياتها في عذاب وهم ونكد وبهدلة، ونكون إحنا السبب».
عز «وكأنها حققت نصرًا كبيرًا»:
«هقول لأختي نعيمة موافقين على شعلان، وفي أقرب وقت نكتب الكتاب».
«محمد يظل صامتًا وكأنه يقرأ الغيب».
عز:
«قلت إيه يا محمد؟».
«محمد ما زال غارقًا في صمته».
عز «بعصبية»:
«انطق يا راجل.. مالك كده، روحت فين».
تتركه عز وتنشغل بشىء آخر.
بعد دقائق يعود محمد من رحلة صمته وتجواله في أركان المستقبل مناديًا على نور:
«نور.. نور».
تأتي نور مسرعة حاملة عروستها على يديها الصغيرتين:
«نعم يابا؟».
محمد يحتضن ابنته، فتغوص في ضلوعه، فتهرب دمعة من مقلتيه، مرددًا:
«على بركة الله مبروك يا نور».
******