أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

Share to Social Media

لم أجد شاعراً فى العصر الحديث أثير حوله الجدل مثلماً أثير حول الشاعر الكبير الراحل نزار قبانى، الذى ملأ الدنيا شعراً وحباً ومعارك، وقد اختلف النقاد والجمهور حول توجه أشعاره كونه اتخذ من المرأة عالماً يصوغ من خلاله القصائد، لكن لم يختلف أحد على شاعريته الفذة، ورؤاه الخاصة، ومواقفه الناصعة، فمن قرأ نزار بتأن يكتشف أنه أمام مشروع شعري كبير ومختلف من حيث التناول والأسلوب، وإن كان اشتهر بأشعاره العاطفية الجريئة التى تخوض فى أدق تفاصيل جسد المرأة، لتعريه من كل أسراره، ليصبح جسداً مباحاً للقراء، حتى سمى بشاعر المرأة، وقد أنكر هذه التسمية ورفضها، لشعوره بالغبن وعدم تقدير مشروعه الإبداعي حق قدره، فقصائده السياسية لا تقل أهمية وشاعرية عن قصائده الأخرى، فقد كان جريئاً فى تناولها مثلماً كان جريئاً فى تناول جسد المرأة، وكان إبداء رأيه فى أي قضية لا يحركه فى ذلك سوى
ضميره الإبداعي وإيمانه المطلق بما يقول، وقد جرته جرأته إلى العديد من المعارك التى كان يخرج منه دائما منتصراً.

قصائد ممنوعة
وكما تقول الكاتبة نوال مصطفى فى كتابها "نزار وقصائد ممنوعة" كما جاء فى مجلة أخر ساعة: إنه خرج من كل أزمة منتصراً، ومن كل كمين محمولاً على الأكتاف، ومن كل قهر أو قمع أو ظلم، أقوى وأنضر. وأكثر قدرة على العطاء الفني الإنساني الجميل، وتحدثنا عن قصيدته المعروفة "هوامش على دفتر النكسة والأزمة التى تعرض لها من جراء هذه القصيدة وأن عبد الناصر هو الذى حماه، وهو القائل: "إذا صرخت فى وجه العالم العربي هذا الصراخ الذى وصل إلى حد الهمجية، فلأن الإنسان لا يصرخ عادة إلا حينما تكون مساحة الجرح، أكبر من مساحة الطعنة، وكمية دموعه أكبر من مساحة عينيه".
إنها تورد الرسالة التى أرسلها الشاعر الكبير إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ورد فعل هذه الرسالة على الرئيس الذى لم يكن قد قرأ الرسالة إلا من خلال النسخة التى أرسلها له الشاعر، وأمر الرئيس يومها أن تلغي له التدابير التى قد تكون قد اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب من وزارة الإعلام السماح يتداول القصيدة ويدخل الشاعر إلى مصر متى أراد ويكرم فيها كما كان فى السابق.

خوف الفن والسلطة
ويقول نزار: لقد كسر الرئيس عبد الناصر بموقفه الكبير جدا، الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، وبين الإبداع وبين الثورة، واستطاع أن يكتشف بما أوتى من حدس وشمول فى الرؤية أن الفن والثورة توأم سياسي ملتصق.. وحصانان يجران عربة واحدة.. وأن أي محاولة لفصلها سيحطم العربة، ويقتل الحصانين!.
وتورد القصيدة التى أحدثت كل هذا الدوى، لأنها كانت بمثابة (جلد الذات) عقب هزيمة يونيو، وإلقاء الضوء على تخلفنا العربي، وعن الأسباب التى أودت بنا إلى هذه الهزيمة، والتى يقول فى مطلعها:
أنعى لكم: يا أصدقائي، اللغة القديمة، والكتب القديمة/ أنعى لكم: كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات القهر، والهجاء والشتيمة/ أنعى لكم.. أنعى لكم/ نهاية الفكر الذى قاد إلى الهزيمة.
هذا هو الشاعر الكبير نزار قباني الذى ما يلبث أن يخرج من معركة ليدخل فى غيرها، غير مبال بالعواقب لأنه مؤمن بأن الكلمة باقية أما الجسد ففان.

معارك شهيرة
ومن أشهر المعارك التى خاضها نزار معركة قصيدة (المهرولون) التى كتبها كرفض وشهادة له على ما حدث ويحدث فى عملية السلام، ويوم نشرت هذه القصيدة أحدثت ردود أفعال قوية بين مؤيد لها ومعارض، تقول القصيدة"
"سقطت آخر جدران الحياء/ وفرحنا/ ورقصنا/ وتباركنا بتوقيع سلام/ الجبناء/ لم يعد يرعبنا شئ/ ولا يخجلنا شئ/ فقد يبست فينا عروق الكبرياء/ سقطت/ للمرة الخمسين – عذريتنا/ دون أن نهتز.. أو نصرخ/ أو يرعبنا مرأى الدماء/ ودخلنا فى زمن الهرولة/ ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة/ وركضنا.. ولهتنا/ وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة".
وقد أعدت مجلة روز اليوسف فى عددها رقم (3514) الصادر فى (16/10/1995) ملفاً احتوى على القصيدة، والسجال القوى الذى دار رحاه بين نزار قباني وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، حينما أبدى وجهة نظره فى قصيدة (المهرولون) وقت نشرها واصفاً إياها: "بأنها قصيدة قوية جداً، وقنابل تفرقع فى عملية السلام، من دون تقدم بديلاً عنها".. وأضاف فى تصريح لجريدة "الحياة" الصادرة فى لندن بعد أن نشرت القصيدة: "لقد أعجبتني رغم اختلافي السياسي معها.. إنني لا أنفي إعجابي بها، ومن يشارك نزار قباني موقفه، سيجد فيها تعبيرا قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية.. وموقف ضعيف".. وأبدى محفوظ تقديره لما حوته القصيدة ضمنا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر ذلك أملا نتطلع إليه جميعاً، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى فى عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن هذا البديل هو أن نوقف هذه العملية، و"نقعد ساكتين"، ملاحظاً أن نزار قباني لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أي بديل.
قال: نعم.. فى مثل هذه المواقف لابد من تقديم البديل، ولا يكفى أن يهاجمهم لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبلون حذاء القتلة، ويفرطون فى كل شئ، فالأهم أنه يقول لهم ماذا يفعلون.. وقال: أعرف أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خياراً ثالثا، فماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون؟. هل يجلسون ساكنين بلا فعل؟ وإذا كان البديل هو الانتظار السلبي، فإن الطرف الأخر لا ينتظر أحداً، وإنما يمضي فى ابتلاع الأرض.

نسمة صيف
وجاء رد نزار قباني على نجيب محفوظ رداً قاسياً وعنيفاً وساخراً، وهو المنشور فى نفس العدد من روز اليوسف، نقتطف منه بعض المقاطع، حيث قال: الأستاذ نجيب محفوظ إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري فى صياغة كلماته، ورسولي فى سلوكه على الورق، وسلوكه فى الحياة، أنه رجل اللا عنف الذى يمسك العصا من وسطها.. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة.. أو يدوس على نملة.. أو يغامر.. أو يسافر.. أو يغادر زاويته التاريخية فى حي الحسين، هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس.. أو وقف فى وجه حاكم أو أمير.. أو صاحب سلطة.. إنه دائما يلبس قفازات الحرير فى خطابه الاجتماعي، والسياسي.. ويتصرف (كحكومة الظل) فى النظام البريطاني.
ويقول أيضاً: فليعذرني عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التى يجلس عليها مع أصدقائه.
فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها.. أو نظام روتيني تخضع له، إنها امرأة عصبية، وشرسة.. تقول ما تريده بأظافرها.. وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص.. والمرتزقة.. وقراصنة السياسة.. وتجار الهيكل. هذا موقف الشعر مما يجرى على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفاً).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللا معقول التى يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت فى قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة.
ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمائم). وقدرى أن أكون من (حزب الصقور).
ماذا أفعل؟ إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعاً من القطيفة.. وكنت مصنوعاً من النار والبارود؟
ماذا أفعل؟ إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة فى (مقهي الفيشاوي).. وكانت القصيدة عندي، هجمة انتحارية على القبح والانحطاط، والظلام، والتلوث السياسي والقومي؟!.
ويقول: ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيماً أو واعظا، أو خطيباً أو معلم مدرسة.. ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين.
الشعراء ليسوا جنرالات.. ولا يعطون التعليمات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحاً للشعراء أن يكونوا فى مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجاز العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 150 ألف ياباني فى ثانية واحدة إلى بشرية تتبخر.
ويختتم مقاله الطويل قائلاً: شكراً لأستاذنا الروائي الكبير نجيب محفوظ الذى قرأ قصيدتي (المهرولون) فأعجبته شعرياً.. ولم تعجبه أيديولوجياً.. وموقفاً، وإذا كان الخطاب الشعري قد هز أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير.. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق، وسقوط الأمطار، أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة فى قضية السلام، فهي بسيطة وهامشية، ولا تفسد للود قضية.
كان نزار قباني رحمه الله ناعماً كالحرير فى قصائده الرومانسية والعاطفية وحاداً كنصل السيف فى قصائده ومواقفه السياسية، ولذا عاش فى وجداننا وسيظل لأن الشاعر الذى ينفصل عن قضايا أمته وقضايا وطنه أعتقد أنه لن يعيش طويلاً فبرحيله يخبو مشروعه الإبداعي كما يخبو ضوء الشمس وقت الغروب، أما نزار فما زال حيا بيننا بقصائده ومواقفه التى لا ينساها الزمن ولا التاريخ الأدبي، وكلما مرت علينا ذكرى وفاته فى أبريل من كل عام يقفز إلى الذاكرة بمشاغباته ومعاركه التى كانت لا تنتهي.
* نشرت فى جريدة القاهرة فى 22 يونية 2010

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

مقدمة هؤلاء الكبار نبض القلب والوجدان 1 نزار قباني .. ومعارك لا تنتهي 2 فدوى طوقان الشاعرة التى حملت رسالة ديان إلى عبد الناصر 3 أمل دنقل.. اللون الواضح فى قوس قزح 4 عفيفي مطر.. رهان على الشعر 5 عبد المنعم عواد يوسف وكما يموت الناس مات..!! 6 محمد محمد الشهاوى.. زهرة اللوتس التى رفضت أن هاجر..!! 7 أحمد سويلم.. شاعر متنوّع الرؤى والانتاج 8 أحمد زرزور.. المقاتل النبيل 9 فاروق جويدة الشاعر المهموم بما وصل إليه الوطن 10 حلمي سالم غيب الموت جسده لكن روحه حاضرة 11 بيرم التونسي.. أمير شعراء العامية 12 فؤاد حداد مسحراتي الوطن 13 صلاح جاهين شاعر لا يكف عن الغناء 14 عبد الرحمن الأبنودى حامل هموم وأحلام البسطاء 15 فؤاد قاعود.. الانعزالي 16 مجدى نجيب.. الشاعر الذى صنعته ثلاث حروب 17 عبد الدايم الشاذلي بصمات منقوشة بالحنين 18 محمد عبد المعطى المرح 19 نجيب محفوظ.. ولعنة أولاد حارتنا 20 أنور المعداوي.. مأساة ناقد 21 سعد الله ونوس كاتب يضع القارئ أمام واقعه 22 أحمد بهاء الدين جبرتى العصر.. وضمير الأمة 23 يعقوب الشارونى.. وحقيبة بابا نويل 24 العم نادر ورحلته الإبداعية للأطفال 25 عبد التواب يوسف.. تاريخ زاخر بالعطاء الإبداعى والنقدى 26 سمير الفيل .. حضور طاغى وعلاقات عنكبوتية 27 محمد جابر غريب نقطة ضوء من "قنديل أم هاشم" 28 79 عاماً على رحيله سيد درويش.. فنان الشعب 29 أم كلثوم.. قيثارة السماء 30 بيكار عازف الألوان والنغم 31 ناجى العلى الذكرى ال17 لرحيل حنظلة 32 عبد الحليم البرجيني عودة الطائر إلى عشه 33 حجازي فارس الكاريكاتير 34 العم تاج ريشة المحب
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.