"ليس رحيل فدوى طوقان جرحاً فلسطينياً، فحسب، إنه حرج عربي وإنساني، سيظل غائرا فى الوجدان والروح والذاكرة، لم تكن فدوى إنساناً حياديا، بل انحازت إلى قضايا العروبة انحيازا كاملاً وواضحا وأعطت بلا تمنن، وبلا مساءلة".
هكذا نعى الشاعر سميح القاسم، الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان التى يعتبرها أخته الكبرى فقد رحلت الشاعرة فجر الجمعة الموافق 12 ديسمبر 2003 عن عمر يناهز 86 عاماً بعد أن قضت 20 يوما فى العناية المركزة فى المستشفي التخصصي بمدينة نابلس بفلسطين إثر هبوط فى القلب، ذلك القلب الذى حمل الهم الكبير منذ الصغر، وقد نعتتها القيادة الفلسطينية فى بيان رسمي لها جاء فيه: إن الرئيس ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية ينعون إلى جماهير الشعب الفلسطيني والأمة العربية الراحلة فدوى طوقان التى عملت من أجل ترسيخ مبادئ الحرية والسلام والإنسانية جمعاء، إنها كانت رائدة الإبداع وواحدة من أعمدة الثقافة والأدب.
ولدت فدوى عبد الفتاح أغا طوقان، فى مدينة نابلس عام 1917م، فى أسرة عريقة وغنية، ذات نفوذ سياسي واقتصادي، ونشأت فى بيت علم وأدب، فهي شقيقة الشاعر المعروف إبراهيم طوقان، والدكتور أحمد طوقان الذى كان رئيساً للوزراء فى الأردن، لكن الأسرة تعد مشاركة المرأة فى الحياة العامة أمرا غير مستحب، مما منعها من مواصلة دراستها، فتركت المدرسة فى وقت مبكر، وقيل إن سبب عدم إكمال دراستها اكتشاف ملاحقة أحد الشبان لها، تقول عن قرار أخيها يوسف: "أصدر كلمته بالإقامة الجبرية فى البيت حتى يوم مماتي، كما هددني بالقتل إن أنا تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام، وقبعت داخل الحدود الجغرافية التى حددها لي يوسف ذاهلة لا أكاد أصدق". وتضيف: "ما أشد الضرر الذى يصيب الطبيعة الأصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ التربية وسوء الفهم، كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب إلى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة".
علامة فارقة
يقول نقولا زيادة: "لو لم يكن أخوها إبراهيم قد تعهدها لما تفتقت حيويتها عن شعر أو نثر". وهى تذكر علاقتها مع أخيها الشاعر إبراهيم فتقول: "فى عام 1929م عاد أخى إبراهيم من بيروت يحمل شهادته من الجامعة الأمريكية، ليمارس مهنة التعليم فى مدرسة النجاح الوطنية، ومع وجه إبراهيم أشرقت حياتي، كانت عاطفة حبي قد تكونت مع تجمع عدة انفعالات طفولية كان هو مسببها وباعثها".
أصطحبها شقيقها إبراهيم معه إلى القدس، لتعتمد على نفسها تثقيفا وتطويراً ومثابرة، وقد شكلت علاقتها بشقيقها الشاعر علامة فارقة فى حياتها، إذ نجح فى دفع أخته الصغرى إلى فضاء الشعر، فاستطاعت وأن تخرج إلى الحياة العامة بسبب الطبيعة المحافظة لمجتمع نابلس بخاصة، وأن تشارك فيها بنشر قصائدها فى الصحف المصرية والعراقية واللبنانية، مما لفت إليها الأنظار.
وجاءت النقلة المهمة فى حياة فدوى مع رحلتها إلى لندن إذ حصلت على دورات فى اللغة الإنجليزية، ودرست الأدب الإنجليزي وتأثرت بأحداث مدارس الفلسفة الغربية فى أوائل القرن العشرين الميلادي، فى العامين اللذين قضتهما هناك من عام 1962 حتى 1963م مما فتح أمامها أفاقا معرفية، وجمالية، وإنسانية جعلتها على تماس مع منجزات الحضارة الأوروبية.
وبعد نكسة 1967م خرجت الشاعرة لخوض الحياة اليومية والسياسية الصاخبة بتفاصيلها، فشاركت فى الحياة العامة لأهالي مدينة نابلس تحت الاحتلال، وبدأت عدة مساجلات شعرية وصحافية مع المحتل وثقافته، مما حدا بوزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان أن يطلبها لتكون وسيطاً بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر.
البحث عن الجديد
وتعد الشاعرة فدوى طوقان من الشاعرات العربيات القلائل اللواتي خرجن من الأساليب التقليدية مع محافظتها على الوزن الموسيقى والإيقاع الداخلي الحديث، وهى شاعرة تميل إلى السردية المباشرة بغنائية متميزة وعاطفة مذهلة، فى شعر يمزج بين الأسى والشكوى والمقاومة والصمود.
يقول الشاعر عز الدين المناصرة: "تختلف قصيدة فدوى طوقان عن زميلتها فى الشعر الحديث نازك الملائكة بانسيابيتها وابتعادها عن المعوقات المعرفية المنظومة، فهي تعبر عن عواطفها بحرارة ضمن المعجم الشعري "الرومانطيقي" وفى زمن كان فيه الشعراء يميلون إلى التعبير عن الهم الجماعي، كانت قصائده تدور حول مركزية الذات الأنثوية".
ويشير محمود الريماوي إلى أن أجيالا عدة من شعراء فلسطين والأردن، قد استيقظت حساسيتهم الشعرية الأولي مع القراءة لفدوى طوقان التى شكلت محطة فارقة وحالة قائمة بذاتها، إذ حققت انتقالا سلسا من التقيد إلى التجديد، كما يشهد على ذلك ديوانها الأول وقصائدها التى نشرت تباعاً فى الآداب اللبنانية منذ منتصف الخمسينيات، وفيما يشبه النمو أو التحول "الطبيعي" بغير ضجيج وإعلان، وبالنذر اليسير من المواكبة النقدية لتجربتها، وإن وجدت اعترافا وتكريسا لريادتها فى "اعترافات" محمود درويش وسميح القاسم منذ بواكيرهما، بشاعريتها التى لا يجد الناقد عناء فى ملاحظة أن درويش بالذات قد تأثر بها تأثير فى بدايته ذات النزوع والملمح الغنائي.
ويقول الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي شهادته عن الشاعرة الراحلة: فدوى طوقان مؤسسة لكتابة لشعر الفلسطيني، وشعر المرأة ودورها فى انتزاع حقها فى الاحتياج والخروج من الرقابة العائلية، فضلا عن دورها التأسيسي، فهو نموذج للمرأة الفلسطينية صاحبة الموقف الوطني على امتداد سنوات الاحتلال.
وفدوى محبة للحياة، نشأت فى بيت شديد المحافظة ولصرامة، وقف بجانبها أخوها المرحوم إبراهيم طوقان أحد أكبر شعراء فلسطين، وبدأ يعلمها كتابة الشعر، وقد انطلقت بعد موته مستقلة بصوتها الخاص وظلت تكتب الشعر إلى أيامها الأخيرة.
وتركت لنا كتاباً من أعذب وأجمل الكتب، حيث تناولت فيه سيرتها الشخصية، وهو كتاب "رحلة جبلية رحلة صعبة" كتاب ممتع وصادق استطاعت فيه أن تقول عن نفسها ما لم تستطع قوله فى شعرها.
وعلى الصعيد الشخصي، كانت صديقة مقربة وتعددت لقاءاتنا فى أكثر من مكان، وإلى جانب أن فلسطين والثقافة العربية قد خسرتها فهي خسارة شخصية كبيرة بالنسبة لي، تضاف إلى خسارة الشخصية بفقدان الراحلين د. إحسان عباس، وإدوارد سعيد، وكانا صديقين عزيزين، ولكننا سنظل نقرأ شعر فدوى، وسنقرأ كتب إدوارد سعيد وإحسان عباس، وهى أسماء لا تزال أمامها أكثر من حياة.
وعن دور فدوى الريادي فى مجال الشعر الحديث يقول: فدوى طوقان من الأصوات المبكرة فى هذا المجال ودورها الريادي بارز لكل من يقرأ الشعر العربي الحديث ومعروف مساندتها لقصيدة الشعر المرسل أو شعر التفعيلة، وقد تميز شعرها بالانتقال إلى مراحل متفاوتة، من الكتابات الرمزية فى البداية إلى الكتابات السياسية المباشرة بعد نكسة 1967 إلى كتابات التأمل الوجداني فى الفترة الأخيرة من حياتها.
وأعتقد أن كتاباتها الصوفية الأخيرة هى تطور طبيعى فى مرحلة العمر الإنساني وأحداثها التاريخية أيضا، وبفقدانها لها تطول القائمة المؤلمة للفقد الفلسطيني.. ولا أدرى كيف سنتحمل خلو المشهد الثقافي الفلسطيني من أسماء هذه الرموز الوطنية الجميلة والمبدعة.
أعمالها الإبداعية
على مدى 50 عاما، أصدرت الشاعرة الراحلة ثمانية دواوين شعرية، هى على التوالي: "وحدى على الأيام" الذى صدر عام 1952م، و"جدتها" عام 1957م، و"أعطنا حبا" عام 1960م، و"أمام الباب المغلق" عام 1967، و"الليل والفرسان" عام 1969م، و"على قمة الدنيا وحيدا" عام 1973م، و"تموز والشئ الآخر" عام 1989م، و"اللحن الأخير" عام 2000م وهو آخر دواوينها.
ومن أعمالها النثرية: "أخى إبراهيم" عام 1946م، و"رحلة جبلية رحلة صعبة" عام 1985م، و"الرحلة الأصعب" وهى سيرة ذاتية كتبتها عام 1993م فى العاصمة الأردنية.
وقد تمت ترجمت العديد من أعمالها إلى الإنجليزية والفرنسية واليابانية والعبرية والإيطالية والفارسية.
وحصلت على جوائز دولية وعربية وفلسطينية عديدة، وحازت على تكريم العديد من المحافل الثقافية، ومن بين الجوائز التى فازت بها جائزة رابطة الكتاب الأردنيين عام 1983م، وجائزة سلطان العويس عام 1987م، وجائزة البابطين للإبداع الشعري عام 1994م، وجائزة ساليرنوا للشعر من إيطاليا، ووسام فلسطين، وجائزة كفافيس الدولية للشعر عام 1996م.
كما انتخبت عضوا فى مجلس أمناء جامعة النجاح بنابلس، وكان النشيد الرسمي للجامعة من نظمها، وبعد هزيمة 1967م، دخلت فدوى معترك علاقة الأدب بالمجتمع والواقع، فشاركت أهالي مدينة نابلس حياتهم اليومية تحت الاحتلال، وشرعت بكتابة قصائد ومقالات صحفية ضد المحتل وثقافته، وقد ألهبت بشعرها حماس الفدائيين الفلسطينيين، الأمر الذى دفع وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشه ديان للقول: إن كل قصيدة لفدوى طوقان تصنع عشرة فدائيين، وقد منحتها جامعة النجاح الوطنية فى نابلس الدكتوراه الفخرية فى الآداب عام 1998م.
رحم الله الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان التى تألقت وأثرت حياتنا بأشعارها الراقية الجميلة.
* نشرت فى جريدة القاهرة فى 11 ديسمبر 2007