لجأ الأب لحيل واهية للإطاحة بميرفت من القصر بعدما فشلت تدابيره، وخابت مساعيه، وكانت هذه الحيل الجديدة هي إحداث فجوة بين "لیزا"، و"میرفت" لقد أخذ الأب على عاتقه تحريض ابنته على ميرفت، إلا أن هذه المحاولة التعيسة كان مقررًا لها الفشل من ذي قبل؛ فقد اتحد قلبا الأختين اتحادًا لن يقدر على حل عراه نفوذ فرعون، أو حتى ابتهالات زرادشت.
قال الأب لـ "ليزا" في طيبة قلب متراخية:
- "أنت ابنتي يا ليزا، ووحيدة قلبي، ولم أنجب سواك، وليس لي ثمة طموح في شيء إلا سعادتك؛ لهذا فإنني لا أريد أن أفقد جزءًا من حناني المشروع لك لكي أنذره لمخلوق عداك، وأنت تحتاجين حبي لك بأكمله أليس كذلك؟
قالت ليزا في دهشة، وملل معًا:
- نعم بالطبع يا بابا.
وإذا بالأب، وقد أخذه الذعر:
- إذن فلتحافظي على حقك المشروع فـي حـناني بالسلم، والحرب.
- أنت اليوم شديد الغموض يا أبي. ماذا تريد أن تقول؟
وهو يتلعثم:
-"كل ما أريد قوله هو إن حبي لك، وعاطفتي نحوك يتهددهما الخطر".
دهشت "لیزا"، ولم تفقه فاستفسرت قائلة:
-أي خطر يا بابا أنا لا أفهم ما تقول ماذا تعني بحق السماء؟
- في صراحة لا تبالي، میرفت.
"وهي تصغى إليه بكلف شديد":
-ما بالها میرفت؟
- كيف لا تشعرين تجاهها بالغيرة لوجودها بيننا، وارتباطها باسمي، واسـم عائلتي، أليس في هذا سطو مقصود على عاطفتي؟ لقد سطت في وضح النهار على مقدرات عاطفتي التي كرستها لك، ولك وحدك.
"وقد دهمتها كلماته ":
-میرفت "مكررة في ذهول" ميرفت الأخت الوديعة التي لم يشغل بالها أي مطمح تستهدفه.
- افهميني يا ليزا. أنا أحافظ على التقاليد، وأصون دماء آبائنا نقية، سيقال عنا إننا نأوي الرذيلة، ونرعاها. بإيوائنا فتاة لقيطة. ابنة لامرأة مستهترة ساقطة تحت سقفنا. لقد خلقت من مشج بالٍ، ونطفة مهينة، ومن كان حظه من الخلق هذه النطفة. فهو أخبث الكائنات طينة.
وهنا أخذت ليزا تصيح بصوت مرتفع تهتز له جدران البيت:
- بابا أضرع إليك ألا تخوض ثانية في مثل هذه الأمور التي تدفعني لمؤاخذتك، ولتكبح من جماح لسانك السليط.، ولتعي جيدًا أنك حتى الآن لا ترعى الرذيلة، ولكنك بحيلك هذه ستصبح راعيًا لها؛ فلا تولد فيما بيننا فرقة، ولا تشيع في سلامنا حربك، وكفاك دس وغيرة، كفاك تحطيم وتجريح لإنسانة لم يكن رصيدها من الحيـاة سوى التحطيم، والتنغيص! أنت تعلم علم اليقين أن مصيرها لن يكن من بعدنا سـوى التشرد، والصعلكة، وإذا حدث هذا فسنصبح جميعًا رعاة للرذيلة. فخبرني بحق السماء كيف تريدني أن أطيعك في اختيارك هذا المصير لميرفت.
أفكلما صمت عنها الماضي، وغفل تخرجه من غمده، وتشهره عليها فـي غير وجل، ألم يودع الله في قلبك مثقال ذرة من رحمة. إلى هذا الحد أصبح الحب يجهد قلبك، والشفقة تثقله. أين دماثة قلبك القديمة؟ ما عساها مشاعرك، وقد فجت من بعد نضج، وأعماقك، وقد نضبت من بعد غور.
لم أكن أتمنى أن تعصي قلبي علی أختي میرفت، نعم يا بابا أختي، وأنا أعرف أنها ليست ابنتك. لكن ما أعرفه أيضًا أنها أختي (مستطردة في حماس لما تقول) إن التجربة التي وضعها القدر فيها. تجربة هزت المشـاعر الإنسانية من صميمها فما بال قلبك نحوها، وكأنه قُدَّ من صلب فلم يعد به أي متسع لخفقه؟ أنا أشجب تصرفاتك حيال ميرفت، ولن أرتضي بأي حال توحيل عاطفتي في الحضيض الذي تريده لحيلك.
- أنت الأخرى يأخذك الترفع، وأنت تتحدثين عن التجربة التي وضعها القدر فيها؟ (بعصبية) التجربة التي وضعها القدر فيها، وكأن هذه التجربة جديرة بالحسد، لا تحثيني على الإصغاء بقلب خفاق إلى الأساطير التي يبتدعها الجائلون لينالوا نسبنا بالخديعة فإني أضيق ذرعًا من مضايقة أي إنسان لا تجري في عروقه دماء الأصل.
- ومن أين تأتيك إذن بهذه الدماء، وهذا الأصل، وهي ...
ثم ربما يكون أبواها قد زلا عن ضعف. دعك من هذا كله فأنت تمارس القسوة في غير موضعها، إنه هياج الغرور، والقسوة المركبين فيك إلى أبعد الحدود.
ولكن عليك أن تعي أن قسوتك على ميرفت كافية لجعل أطهر النفوس، وأتقاها شعلة من الخبل، والجحود، والكفران.
كان هذا هو رد "ليزا" الذي خيبت آمال أبيها في محاولته إشاعة روح العداء، والاضطراب بينها، وبين ميرفت. كما كفل هذا الرد إغلاق دولاب حيله غلقه شمعية طويلة لكنها لم تكن نهائية. ثم تركته مستأذنة، وهنا وجد الأب صراحة نهاية مزاعمه، فلقد أخفقت تدابيره، وفشلت حيله في التخلص من ميرفت إلا أن الأب لم يعان الجحود من لهجة ابنته التي نفذت إلى أعماقه في الصميم.
ربما ميزه الغيظ في البدء، ولام ابنته في قرارة نفسه على لهجتها العاصية، وأسلوبها الغاضب إلا أن هذه الشجاعة التي أبدتها "ليزا" سرعان مـا قلبت أفكاره كلها رأساً على عقب، وأسلمته لطيبة قلب متراخية. فلهجة ليزا الحادة العنيفة مع أبيها كانت دافعًا لإعادة النظر في مصيرها، ومصير ميرفت غير أن تفكيره الجديد في ميرفت لم يتجرد تمامًا من حقده القديم، ولأول مرة يفكر الرجل في مصير ميرفت إن هي تركت المنزل. متذكرًا "ليزا"، وهي تقول "أنت تعلم علم اليقين أن مصيرها لن يكن من بعدنا سوى التشرد، والصعلكة، وإذا حدث هذا فسنصبح جميعًا رعاة للرذيلة". ثم أخذ يفكر في مصير "ليزا" لو تركت میرفت المنزل، ولم يملك إلا الرضا اليائس بالوضع القائم حتى حين، ما أبلغ ليزا في شجبها ثورة أبيها على ميرفت فقد كفلت إطفاء غله، وتسريح حیله، وبد له حماسه رغم ثورته حماساً باردًا فاترًا لا يجد من يعضده.، ولما لم يستطع الأب استمالة "ليزا" أخذ يستريح من آلاعيبه إلى حين.، وكظم شفتيه، ولم يعلق، وقد قطب جبينه، وثبت عينيه لحظة على الأرض، ثم عبس، وتولى يحمل "خفي حنين" بعدما هزمه بغضه، وارتدت سهامه إلى نحره.
هل يستطيع ذكاء ميرفت مهما بلغت حدته، وأيًا كانت جرأته، وفتوته أن يخترق ملتمسًا لمدة مسلكاً وراء مثل هذه العوائق العنيدة، وهل لها أن تخترق وراء مزاج أبيها المنحرف.
هل يملك الذكاء إلا أن يصيح من فرط الإهانة، وأن يفقد الكثير من مميزاته رغمًا عنه.
إن إهانات الرجل الأخيرة لميرفت، وتعمده التنكيل بها، والإساءة إليها قد حطا من معنوياتها الكثير.، ولذا فلم يكن لها أن تواصل دروسها في غـير كلل، ودونما حسرة فبدت إرادتها، وكأنها قد وهنت تمامًا، وصارت قريحتها العلمية من وطأة الإهانة، وكأنها قد نضبت، وأقحلت، فلم يعد باقيًا بها إلا الهم، والمضاضة فإصرارها على مواصلة التعليم قد تراجع. أو لعله ذهب سدى، وارتبكت ملكاتها الذهنية إرتباكًا فاجعًا، ومؤثرًا، وبدت جلستها في الفصل بين قريناتها، وكأنها عمدت لأن تحاكي أبا الهول في سأمه. فلم يزايل محياها وجوم التماثيل الذي كان يرين عليه. ليس لها إلا الوجوم، والحسرات تستهلكهما في مرارة، مفكرة في هذه الخطايا التي خلت انفعالاتها من التورط فيها، وبرغم ذلك تقتحم عليها صوابها دوما، لذا فلقد نحت بالتعليم جانبًا لأنها لم تعد لديها القدرة على استيعابه.
لم يعد في عقلها الكبير متسع لغير مصائبه، ولم يسعها في النصف الأخير من المرحلة الثانوية إلا أن تنفض يديها من الكتاب ممسكة بأهداب التساؤل، والتحري أهذه هي سنة الحياة مع جميع الناس؟، وإذا بها تجيب على نفسها كلا بالطبع لا أظنها كذلك. إنها سنتي وحدي. سنة شرعت لأجلي إنها العدالة الجائرة التي تتربصني، وتتلصص موضعي، متعقبة خطاي في أي واد حللت لتزف عاري زفافًا جنائزيً هل لازال المستقبل يخفي في طياته شيئًا لا أعرفه، وعواقب وخيمة لم أتجرع نغبها؟ لقد أوقعت على السماء كل صنوف التنكيل الذي أعدته من قبل، وتختزنه للعصاة أوقعته علي كله في دفعة واحدة.
إن ما أعانيه من ويل، وألم لهوة عقاب كافٍ لإنزاله بكل المخلوقات لو استحالوا جميعًا عصاة.
أيها المستقبل إنني أحسدك كيف لم تنـأ بحـمـل كوارثي؛ إن مصائبي مما يثقل لها الكاهل.
لقد كان ماضيها هو لباب أسفها، وسر سخطها.، وحتى المستقبل أصبحت تزهده كل زهادها، وليس لها أية مطامح للعيش فيه؛ فهو فكرة قاتمة تعيش بين الوجود، والموت لأنها زائدة على كليهما، ورغم تعمدها إهدار ماضيها من أجل راحة بال تنشد بلوغها إلا أن محاولات " عدلي " الممعنة في الإسفاف، والحقد بوضع هذا الماضي أمامها. كانت قمينا بإيقاف الإحساس بالذنب، فهو يسد عليها منافذ الهرب من هذا الماضي الأثيم.
لقد زلزلت كلماته الأخيرة تلك الكلمات التي يصعب سماعها زلزلت قواعد عقلها.، وأسلمت أعصابها للتوتر الدائم. فالإنفعال العنيف قد هد بدنها فلم يترك لها قوة لغضب أو لغفران.
شتان بين حالها في المدرسة قبل، وبعد سماعها لهجاءات الرجل الذي رماها بأبشع الكلمات كما لو كانت مخلوقة دنسة يجب أن تعيش ككلب أجرب في ركن ناء من أركان العالم، فقبل سماعها هذه الكلمات المرة كان لديها من المعنويات ما يرفعها على كل أترابها. كانت فتاة متألقة ذات خيال متوثب، وسعة أفق، وبديهة حاضرة لا تضارعها أي بديهة فيمن يحطن بها، وبدا عقلها الناضح مفتوحًا على مصراعيه كما كان حديثها مع قريناتها في المدرسة حديثًا عميقًا، ونافذًا رغم اقتضابه. فلقد كان لكلماتها أثر السحر في نفوس مستمعيها من الزميلات، فهي إن تكلمت لا تنطق إلا بالحكمة. فكلماتها على الرغم من إيجازها، وقصرها كلمات دقيقة معسولة بعبق البلاغة الشهي، وعسجد المعنى الخفي. فدائمًا ما تلجأ إلى الاستعارات، والمقارنات، وكأنها حجج توثق بها ما تقول، والحق أن منظرها بين صديقاتها يبدو مثقفًا، متحفظًا، ورزينًا مخالفًا للأخريات، واستطاعت بفضل ألمعتيها، وذكائها المتوثب أن تبز كل قريناتها، وتتميز على عقولهن جميعًا، بل بلغ بها سعة الذكاء حدًا أنها كانت تصحح على الملأ أخطاء مدرسيها على مرأى، ومسمع من زميلاتها.
وكم هي تلك المرات التي أخطأ المدرس في نسبته أبيات شعر أبي العلا المعري إلى البحتري، وهذا الخطأ الجسيم وقع فيه مدرس اللغة العربية عن سوء روية ثم خطؤه التاريخي. من أن أول شاعرة في التاريخ هي الخنساء.، وهنا لم تملك میرفت أن تبلع حفيظتها فقفزت من الغضب. قائلة:
- معذرة أستاذي. فليست الخنساء هي أول امرأة تقرظ الشـعر، بل إن أول شاعره هي "سافو" المولودة (610، و560 ق.م).
- (حاول المدرس التماس مخرج) أعرف هذا كله يا عزيزتي.، ولكني قصدت أول شاعرة في تاريخ العالم العربي، وليست في التاريخ عموما..، وعلى كل هل لك أن تذكري إلى شيئاً من نظم سافو.
- (وهي تتميز من الغيظ) نعم بكل رحابة صدر. فأشعار سافو مما يحفظ عن ظهر قلب.
وأردفت تنشد:
الجلد تسري فيه نار رقيقة في لحظة واحدة بعيني لا أرى شيئًا.
ورعد يدوي في أذني. العرق يتصبب علي، والرعشة تملك كل أعضائي، وأصبح أشد شحوبًا من الأعشاب الجافة، وسرعان ما أبدو أشبه بالميت، ولكن على الإنسان أن يتحمل كل شيء.
- (وإذا بالمدرس يثني عليها) لقد أحسنت صنعًا. إنني أتنبأ لك بمستقبل باهر.
- (وهنا ارتعدت ميرفت من كلمة المستقبل) أرجوك لا تتحدث عن مستقبلي بكل هذا الزهو فأي مستقبل باهر ذلك الذي تتنبأ به؟
ولماذا تكون نبوءتك في المستقبل؟ أنا أمقت العصور، وحتى المستقبل ذاته. فإن هياكل من الرؤى المؤلمة تأتيني من جهة المستقبل.
لقد كان المستقبل يمتد أمامها كسراب مظلم ينتهي بباب محكم الإغلاق.
وهنا ابتدرها المدرس سائلاً:
- لماذا كل هذا الغضب المتفاقم؟ يبدو أن المستقبل ينطوي على شيء تمقتينه، وعمومًا فالأفراح، والأتراح لا تختبئ إلا في المستقبل، ولهذا أتنبأ لك "بمستقبل" باهر.
ثم ودعها ضاحكًا.
إن بديهتها المشرقة، وذهنها الأكثر صفاء من الجرس، وجدالها الحاد الذي يبدو مع مدرسيها. جعلا زميلاتها. ينعتنها "عبقرينو"، وأخريات كن يطلقن عليها تلميذة لقمان.
أما عن حصص الفلسفة فكانت أكثر شغفًا بهذه الحصص، وأكثرها قابلية لهذه العلوم الغامضة كثيرة التشعب.
فهي تعشق سارتر. كما تعشق عالم أفلاطون المثالي. ذلك العالم الذي ليس له وجود ملموس مثل والديها فكانت تبرر لنفسها ولعها بالفلسفة قائلة:
- ربما دخل أبواي هذا العالم خلسة من أعين حارسيه، واستقروا هناك، وتركوا لي العالم الأرضي لأجرب مرارة حنظله. "إذن فبلوغ أبواي يبدأ من دروس الفلسفة.
وفي إحدى حصص الفلسفة، وكانت تدور عن "ميتافزيقا الأخلاق" توجه المدرس "هشام" بالسؤال الآتي لتلاميذه:
- هل فيكن من تعرف من هو مؤسس ميتافزيقا الأخلاق في الفكر الفلسفي، وفي أي العصور عاش؟
وهنا خيم الصمت الشامل على القاعة للحظات إلا ان "ميرفت" شقت هذا الصمت، وانطلق صوتها من بين عشرات الواجمات قائلة في تواضع شديد:
-إنه الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" يا أستاذي. أما عن العصر الذي عاش فيه فيؤسفني أني لا أفهم العصور، ولكن أظنه عاش في العصر الحديث.
وما كان من المدرس إلا أن أخذه الانبهار، وعاد يسألها:
- ولكن هل لك أن تذكري نبذة عن "ميتافزيقا الأخلاق عند كانط".
- نعم أستطيع.
ثم أردفت تقول في رزانة:
-"الأخلاق عند كانط ترتبط بالعقل العملي، والمبدأ الأخلاقي الذي يمكن اعتباره بمثابة الدعامة الأساسية لكل أخلاقية. هو الإرادة الخيرة. فهي من بين الأشياء التي يمكن تصورها في هذا العالم أو حتى خارجه - الشيء الوحيد الذي يمكن أن نعده خيرًا على الإطلاق دون أي قيد أو شرط، وقد نعد مواهب الطبيعة كالذكاء، وأصالة الحكم، وقوة الإرادة، والشجاعة، وما إلى ذلك أو نعم الخط.، والمال، والشرف، والسلطة بمثابة خيرات متعددة نرغب في الحصول عليها، والتمتع بها، ولكن كل هذه المواهب، والنعم لا يمكن أن تكون بمثابة خيرات في ذاتها لأنها قد تستخدم لفعل الخير أو لفعل الشر. فهي جميعًا لا تصبح خيرة إلا بالنسبة إلى ذلك المقصد الذي ترجوه إرادتنا من وراء استخدامها. مثال فضيلة السيطرة على النفس أو رباطة الجأش ليست خيرة في ذاتها لأنها لو توافرات لدى المجرم لجعلت منه مجرمًا خطيرًا. أما الإرادة الخيرة فهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن نعده خيرًا في ذاته".
وبعد ما أنهت "ميرفت" إجابتها لم يستطع المدرس التحكم في السعادة التي غمرته بهذه التلميذة النجيبة. فأخذ يقفز من الفرح، والسرور، قفزات متكررة، وهو يصيح:
-هايلة - هايلة. مدهشة.
وما إن هدأت فرحته. حتى أردف يقول، وقد برقت عيناه بريقًا أملاه عليه الفخر:
-"لا شك أنك تلميذة علوية. آتية من العالم النقدي"، والإشارة هنا إلى عالم كانط.
إن هذا التألق الذي أبدته ميرفت في المدرسة كان سابقًا على إسفاف عدلي الأخير، وتشهيره بها. فإهانته الأخيرة، ونعته لها باللقيطة. ألحقت بداخلها جرحًا أبديًا لن يقدر على مداواته حكيم كوس العظيـم مما أسلم مزاجها إلى التوتر الدائم، والأنين الذي لا ينتهي.
كانت تهدهد أفكارها، وخواطرها القلقة قائلة:
- آه. يا إرث الأحزان، والآلام الأبدية التي لا تشأ أن تسلمني لراحة.
إن رأسها الممتليء بالذكريات المؤلمة لحوادث الماضي جعلها تركن إلى العزلة، ورغم كثرة الزميلات اللاتي كن يرغبن في التحدث إليها، والدخول في حياتها إلا أنها كانت تلتمس لنفسها الفرار بعيدًا عن أعينهن:
- إني لأتندى خجلاً كلما ثار فضول إنسان لمعرفة كنهي. أواه ما أقسى الفضول إنه يعض في الإسرار. فالجميع يتطفلون على ماضي، وكأنه وليمة سائغة. آه لیتني مت قبل وجودي.
وذات يوم استوقفتها إحدى زميلاتها قائلة:
-لماذا لا تشاركينا مزاحنا يا میرفت أهو الكبرياء الذي أقام بيننا وبينك سدًا.
فأجابتها ميرفت في تواضع، وانكسار شديدين:
-أنا لا أفهم الكبرياء يا صديقتي، وعسير أن يفهمه مثلي. أما عن سلوكي النزاع للوحدة. فالحق أنني لا أعرف بماذا أبرر لكن هذا السلوك الذي لا يتفق وآداب اللياقة إذا بدر من أي إنسان سواي. أرجوكن أن تلتمسن لي المعاذير. فإنني أنسى وجودي بين الآخرين نسيانًا مطبقًا؛ فالآخرون يضعفون ذكرياتي.
- معذرة فأنا لم أفهم إلا القليل الذي لا يجدي من كل ما تحدثت به.
- إن سوء الفهم مما يضعف ذاكرتي أيضا، والحقيقة إن نزوعي للوحدة مراده أننى قد نذرت عمري لمعاقبة أفكار حبيسة في ذهني، ومما يحزنني أن يشهد أحد هذا العقاب.
هو أبو الطب أبقراط، وقد ولد في جزيرة كوس الصخرية الصغيرة شمال جزيرة رودس تجاه ساحل آسيا الصغرى، وتوفي في مدينة (لاريسا) من أعمال سالوميكا سنة 377 ق.م
- وما نوع هذه الأفكار، وما الذي جنته كي تكرسي لها وقتك، وقسوتك؟
- أنا لا أهتم بنوع الأفكار، بقدر ما تعنيني الحقبة التي وجدت فيها، أما الذي جنته هذه الأفكار فقد جنت على الكثير ... إنه الفضول يا عزيزتي، فضول الذكريات التي وجدتها في ذهني كما وجدتك أمامي دونما اختيار.
- ولكن الحياة لا تقوم على الوحدة. بل على المشاركة.
- أرجوك ألا تقحمي على موضوعات بالية، ومستهلكة. أرفض الإدلاء برأيي فيها، إن الأنانية هي الي تدفع الإنسان لأن يشارك الآخرين.، وذلك لشعوره بالعجز لأن يكفي نفسه بنفسه. عرفت لماذا اخترع الضعفـاء المشاركة.
ليس لأن الحياة قائمة عليها. بل لأن وجودهم هو الذي يقوم عليها.، ولما كنت أحب الآخرين فلا أريد أن أتورط في إعلاء أنانيتهم.، وهذا هو سر وحدتي.
وهنا لم تملك محدثتها سوى الدهشة من فرط الإعجاب ثم ودعت ميرفت، ومضت. تحدث صديقاتها عنها.، وعن ذكائها الآسر قائلة:
-" لقد اكتشفت مخلوقًا فريدًا الآن، نعم صديقاتي، إنها ميرفت؛ مخلوقة ذات طبيعة خاصة، وأخالني لا أجد نظيرًا لها في مزاجها، إلا أنها تعد نفسها شاذة رغم اقتناعي التام بأنها جزء من القاعدة.
- إن أروع ما يجذبني نحوها هو تحريها لمنهج العقل في حياتها؛ فهي لا تؤمن بأي مبدأ قدسي أعطته الضرورة، وضيق الوقت صفة القداسة.
ولكن نظرات الإكبار لميرفت من قبل صديقاتها لم تدم طويلاً؛ فسرعان ما تبدل حال میرفت تبدلاً ملحوظًا من جراء الإهانات التي حطمت نفسها، وأحالت حياتها إلى دوامة مغلقة ليست لحلقاتها ثقوب. ففداحة الخطب ضعضعت ذكاءها، وما بقي من أثره كرسته لإصلاح ما أفسده عليها دهرها.
- "هل سيشق لها إله إبراهيم، وموسى منفذًا للهرب من وهدة العار هذه"؟
- لقد أمات عدلي بداخلها بهجة الحياة بقسوته، وغروره، وجرح مشاعرها كأقسى ما يكون الجرح عمقًا، ونفاذًا، وباتت وسائله الذميمة، وقد ملأت نفسها حتى فوهتها بالغيرة، والرغبة في الثأر؛ لذا لم تعد ميرفت المعجزة، كما كن الصديقات يرينها، بل صارت فتاة عادية أقرب للخمول منها إلى أي ميزة أخرى. فلم يعد أحد يتطلع لسماعها في الفصل كسالف عهدها؛ لأنها لم تعد الفتاه المتألقة كعهدهن بها، والحقيقة أنها لطول صمتها قد صار وجودها نسيًا منسيًا. فقد امتلأ وجودها عبوسًا، وحزنًا، ولم يكن الغضب هو الشعور الغالب عليها الآن، بل غلب عليها شعور بليد، وليد يأس طام ليس لمداه آخر. إلا أنه لا يزال فيها الكثير من معاني الحياة التي لم تستنفد بعـد، فلـم تخر عزيمتها.، ولم يغضن الدم من وجنتيها فزعًا، وفرقًا.
لكنها، ولبئس ما آل إليه مزاجها لم تعد فاكهة الفصل كما كانت صورتها في أعين الزميلات، بل صار الجميع يتثاقلون إن هي خرجت عن صمتها، وتفوهت برأي، عندئذ تتعالى صيحات الشماتة والاشمئزاز قائلة:
-" اسكتي يا ميرفت، ودعك من ثرثرتك غير المجدية ". وأخرى تقول، وقد أخذتها الشماتة:
-" إلى متى ستظل تستعرض نفسها هكذا طوال الوقت. كفاك يا ميرفت فكلنا يعرف أنك كنت لبقة.
" لقد أصبح مزاجها معتمًا دامسًا ذا حلكة، بهيمية، لا يقوى ضوء النهار على محو أو إقصاء غياهبه، لننظرها بعد كيل الإهانات التي عرجت في الصميم إلى أكبادها. ماذا عساها تكون بين أترابها في الفصل؟ كانت تجلس في حصة اللغة العربية شاردة يغطي وجهها وجوم شديد، وهنا أشار المدرس إلى إحدى التلميذات أن تذكر قصيدتين لأبي القاسم الشابي إحداهما تعبر عن التفاؤل، والأخرى عن التشاؤم..
فوقفت الطالبة تعتذر لأنها لم تحفظ للشابي إلا بيت يتيم هو:
"يا موت نفسي قد ملت الدنيا فهل لم يأت دوري
فأجلسها المدرس، وأشار إلى ميرفت أن تذكر القصيدتين للشابي.
هنا وقفت ميرفت، وهي تتحامل على نفسها في جهد، وعنت، وإذا بالمدرس يبادرها بقوله:
-إذن ابدئي بالأبيات المتفائلة..
-معذرة أستاذي، فأنا لا أفهم التفاؤل. سأقص عليك أبياته المتشائمة.
- (وإذا بالمدرس، وقد دهش) لماذا؟
عندئذ قالت ميرفت في انكسار وتخاذل:
-لأن الحياة هي موتنا الذي ولدنا به هكذا قال الشاعر الألماني "أنتسنسبرجر" فلقد ضعنا حيث قذف بنا.
- لماذا إذن ضعت ألم تكوني موجودة الآن، وليس في زمن آخر هنا ليس هناك، يبدو أنك ستضيعينِ صوابي. دعك من "أينشبترجر" وقد أخطأ في نطق الاسم فإن كلماته قادرة على أن تعبث بذهن هتلر؛ إنه شاعر سوداوي يكره وجوده، وميلاده ربما لأنه يمقت الطريقة التي أتى بها إلى الوجود.
أصابت هذه الكلمات غير الدقيقة موضع الألم في ماضي میرفت، وبدا محياها مسرحًا لانفعالات متضاربة، وصبغ وجهها بالاحمرار قسرًا عنها، واعترى رأسها ثقل، ووجوم.، وما لبث وجومها أن فتر، وتلاشى. حينما أردف المدرس يحدثها.
____________________________________
هانس ماجنوس انتسنسبرجر، شاعر الماني معاصر ولد ١٩٢٩
- هيا اذكري أبيات لأبي القاسم الشابي؛ فقد كان هذا الشاعر غير مقتنع بوجوده، ومنزعجًا لوجودنا. سامحه الله ما عساك لا تتحدثين هل تهتِ؟
- أمضت ميرفت الثلاثة أشهر الأخيرة من المرحلة الثانوية لا تشغل رأسها سوى فكرة واحدة هي " لماذا لم تتساوَ مع الأخريات في النشأة، والميلاد، ومن الذي اخترع اللقطاء العراة من كل أصل، ونسب؟ أهو الله، أم أبواي، أم عدلي؟! لقد كان من الممكن أن تتغاضى عن السؤال عن أصلها، وتغض الطرف عن الطريقة التي أتت بها إلى الوجود لو لم تجد عقولًا مستبدة أغشاها الترف تضع حقيقتها، وأصلها بين الأقواس أينما حلت ها هي حياتنا في المدينة تقوم على هذا النوع من الحقد، وضيق الأفق رحم الله "روس" الذي قال:
- " إن أول من فكر حين أحاط قطعة أرض بسياج في أن يقول هذه لي، ووجد قومًا بلغت بهم السذاجة أن يصدقوه هو الواضع الحقيقي للمجتمع المدني فإن ثمار الأرض لكم جميعًا، وليست الأرض لأحد فإذا نسيتم هذا فأنتم هالكون، رباه باركني على هذه الصورة من الغش، والأنانية، واستعراض ملكات الخداع، بدأت المدينة ... إذن فلا غرابة من إحساسي الدائم بالانقباض، وعدم التوازن، وعدم السعادة ولا غرابة من كوني إنسانة عارية عن الحرية لا شأن للحرية أو السعادة بعدم المساواة.
- السعادة !، ولكن التذكير الدائم بعدم المساواة، وكأنها رد فعل لجريمة اقترفها الفقراء قبل ميلادهم في حق السماء. فالفقر ليس عار يجب أن يقوم على تقديسه الفقراء فهل كان اختيار الميلاد، والفقر، هما محض إرادة الفقير.
وهل سلك كل المترفين طرقًا مشروعة لجمع الثروات. لا بد، وأنهم قد تنازلوا عن الشيء الكثير من مبادئهم. التي لا تزال في حوزة الفقراء يتمتعون بها كاملة. ما أصدق "جون ملتون" حين قال إن ((مامون)) كان أقل الأرواح سموًا بين من خرجوا من الجنة، وحتى في الجنة، كانت نظراته، وأفكاره تتجه نحو المال.
وأخذت تسائل نفسها
-هل إساءة "عدلي" لي مردها كوني لست من سلالته الأرستقراطية؟ لأنني لا منتمية للنسب الأرستقراطي؟، ولماذا لا يظن أن والداي كانا من وسط أرستقراطي، وقد زلا عن ضعف، وإذا بها تئن من فرط الألم والداي. أقول والداي. ليتهم كانوا والدين اثنين فقط، لقد ولدت بأكثر من أب؛ لأنه إذا شارك أكثر من رجل في إنجاب طفل لا نستطيع التكهن بأيهم أبوه.
___________________________________
مامون هو في الأساطير إله الثروة.
أما أكثر من أم لأنها كانت أمًا، وأشياء أخرى، ثم قالت بعصبية لا لم تكن أمًا فلتغرب هذه الساقطة عن ذهني؛ فالمومس لا تصلح أمًا، أما كوني ولدت في أكثر من أرض؛ ذلك لأن اللقطاء لا وطن لهم.. ولا أسرة، ولا وشائج، ولا نسب؛ كل ما يملكونه هو وجودهم في حالة هيستيرية قلقة إذا كانت جريمة آبائهم قد تركت لديهم بعضًا من عقل ليقلق. حالة تدفع البعض (تقصد عدلي) للحنق عليهم، والتنكيل بهم، وتدفع البعض الآخر لمواساتهم، والتأسي لمصيرهم المنكود.
ولقد ذقت الأمرين معًا؛ فلولا وجود الأم فضيلة التي وطنت عزمها على إسعادي لكنت قد اعتذرت عن وجودي، ولست أدري إذا ما كانت أيامي الحاضرة خيرًا من الأولى، ولكن يقينًا أنها أشد كآبة، وأكثر حلاوة مثل الشهد المذاب في المر.
إن الإرهاق ورهافة الحس اللذين يغذيان عقل ميرفت ليسا سوى ضرورة طبيعية للطريقة التي ولدت بها؛ فالإنسان ابن لمولده قبل أن يكون ابناً لآبائه.
آه لو أدركت أن الماضي الذي يسبق وجود الإنسان لا يدخل ضمن ميراثه أو حقوقه التاريخية لكفلت لنفسها الراحة التي لم تبلغها، إلا أن إيمانها الصارم بانتمائها إلى ذلك الماضي المجهول وإصرارها على تسوية حساباتها معه جعلها في حالة رعب دائم، ولكن إذا كان من الظلم الحكم على الإنسان بماضيه فهل من العدالة في شيء أن يحكم عليه بماضي آبائه فقط؟.
ارتدت ميرفت خائرة، وقالت، وقد بلغ بها المضض أقصاه، وكاد قلبها أن ينفطر:
-"ليس لنا إلا أن نقبل الماضي على علاته فما هي إلا سنة الطبيعة، وإرادة الله"