* المكان: مدينة أسوان - أحد المستشفيات الكبرى - الدور الرابع - معمل أبحاث اضطرابات النوم.
* الزمان: الساعة العاشرة مساء.
في الموعد تماما وصل الحاج كرار إلى معمل أبحاث النوم، شيخ في الثالثة والستين من العمر، قصير القامة أكرش، يتوسط وجهه أنف أفطس وشفتان غليظتان، ذو لحية بيضاء خفيفة, لا تكاد تخطئ أصله النوبي في سمار بشرته وبياض جلبابه، يمسك بإحدى يديه كتابا قديما غلفت صفحاته بالجلد المدبوغ، وفي يده الأخرى مسبحة خضراء طويلة كلما عم الصمت المكان داعب حباتها متمتما ببعض الأذكار.
- قاطعت همهمته قائلا: ترى أي طريقة صوفية تتبع؟
-رد بحزم قبل أن أنهي سؤالي: طريقتي الإسلام، ثم مالبث أن باغتني بسؤاله:
وأنت من شيخك؟
- رددت: لا شيخ لي!
-قال واعظا: من لا شيخ له فالشيطان شيخه
- قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
-قال: ألا يسعدك أن يكون رسول الله شيخك؟
-هززت رأسي: بلى
- صاح: قل اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله
-قلت: اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله
- قال: الزمها فإنها شيخ من لا شيخ له
طلب مساعدي من الحاج كرار الجلوس على طرف السرير حتى يتسنى له البدء في توصيله بجهاز رصد و قياس اضطرابات النوم, لبى الشيخ طلبه مرحبا.
استغرق الأمر حوالي الثلاثين دقيقة, قضاها الحاج كرار في الحديث عن التصوف و لطائفه وعن التفسير الإشاري لبعض آيات القرآن الكريم, ثم حدثنا عن النوبة وفروعها وعن أصله الفادجي، وتاريخ سلالته من عهد كوش بن حام بن نوح مرورا بألارا النوبي وحتى مرحلة التهجير.
قال: كنت طفلا صغيرا عندما هجرنا من قرانا النوبية القديمة خلف السد لنسكن بعدها هضبة كوم امبو، لازلت أذكر حتى يومنا هذا وجه أمي وهي تبكي بين المقابر مودعة أمواتنا، ولا زالت كلمات جمال عبدالناصر في خطابه الشهير تتردد في أذني، كان يقول: "أرجو أن يشعر كل فرد منكم أننا نعامل أبناء هذه الأمة معاملة واحدة مبنية على الحق والحرية والمساواة" صمت لبرهة وكأنه يغالب سيل دموع كاد ينهمر من عينيه ثم قال: ظلوا يرددون على مسامعنا سيكون لكم وطن وسنكون لكم مثل الأنصار للمهاجرين، وها هي الأيام مضت والأشهر انقضت والسنون مرت و مازلنا.......
صمت هذه المرة طويلا وكأنه اكتشف فجأة أن لا فائدة من الكلام، فهممت أن انتشله من بحر همومه قائلا: جمال عبدالناصر كان يريد بناء دولة قوية.
أخرج من صدره نفسا حمله كل أوجاع ماضيه ثم قال: جمال عبدالناصر خدع الناس يا دكتور.
في هذه الأثناء كان مساعدي هو الآخر يزفر بعض الأنفاس من صدره ولكن هذه المرة من شدة الإرهاق والتعب, ثم صاح: أخيرا انتهيت من توصيل الحالة, وتوصيل الحالة مصطلح نستخدمه لنعبر به عن تلك الأسلاك الكثيرة الممتدة من جهاز قياس اضطرابات النوم والتي تنتهي جميعها تقريبا بأقطاب معدنية صغيرة، يتم إلصاقها بمناطق مختلفة من جسد المريض، فيلصق بعضها بفروة الشعر والذقن، وبعضها بالقرب من العينين والأذنين، ويلصق بعضها الآخر بالقدمين، هذا فضلا عن أدوات خاصة لقياس تدفق الهواء إلى الأنف والفم، وأحزمة مطاطية لقياس حركة البطن و الصدر، ليبدأ بعد ذلك جهاز حاسوب خاص في تحويل كل هذه القياسات إلى موجات مميزة تعكس حالة ووظائف معظم أعضاء الجسم تقريبا خلال مراحل النوم المختلفة.
وقد اضطررنا لاتخاذ هذه الإجراءات الطبية مع الحاج كرار لأنه وفقا لملاحظات زوجته وأبنائه كان يعاني مشكلات عدة أثناء نومه, فهو كثيرا ما يستيقظ من نومه مفزوعا وكأن أحدهم يحاول خنقه, كما أنه كثيرا ما يردد عبارات غير مفهومة أو يحرك يديه بإشارات غريبة أثناء نومه.
حتى هذه اللحظة كان كل شيء يسير على ما يرام، التوصيل جيد، الإشارات الملتقطه واضحة والقياسات المرصودة دقيقة, طلبت من مساعدي إطفاء الأنوار حتى يتسنى للحاج كرار النوم في هدوء وسكينة، لكن ما إن امتدت يد مساعدي نحو القابس حتى انطلقت من الحاج كرار صيحة جمدتها مكانها، قال له: انتظر ... أيفترض أن أنام الآن؟
- أجابه: نعم ياحاج كرار، سنبدأ بتسجيل الجلسة الآن
- قال: إذا أعطني كتابي هذا أضعه بجواري.
حاولنا في البداية ثنيه عن هذا الأمر؛ فقد يسبب له ذلك بعض الضيق أو القلق أثناء نومه, لكنه أصر على طلبه قائلا: ألم تخبروني أن أحضر معي كل ما يساعدني على النوم؟ وأنا لا أستطيع النوم إلا وهذا الكتاب بين يدي أو تحت رأسي.
وأمام إلحاحه العجيب ومنطقه العلمي سمحنا له أن ينام محتضنا كتابه، أطفأنا ضوء الغرفة واتجهت ومساعدي نحو الغرفة المجاورة نرقب ما سترصده شاشة الحاسوب من موجات وقياسات، وهنا حدث ما لم نكن نتوقعه أو نتخيله.
في غرفة الرصد كانت الصور التي تبثها الكاميرا الحرارية المثبتة أعلى السرير تظهر الحاج كرار ينام بشكل طبيعي، بينما كانت شاشة الحاسوب تظهر موجات غير مألوفة بالنسبة لنا، كانت مغايرة تماما لكل ما اعتدنا رؤيته أو حتى دراسته في كليات الطب، لكنها مع ذلك كانت تسير وفق وتيرة منتظمة وبدقة متناهية فبدت متناسقة بشكل بديع ومتناغمة بشكل مذهل.
- قال مساعدي متعجبا: يبدو أن خطأ ما قد حدث أثناء التوصيل!
هززت رأسي بالموافقة لكن في غير اقتناع؛ فإيماني بقدرة الخطأ على صنع إبداع كإيماني بأن الكون قد خلقه البج بانج.
- قلت له: لا بأس فلنراجع التوصيل مرة أخرى، لكن الله يكمن وراء كل جميل ومتناسق.
قمنا بفحص الأسلاك مرة أخرى لكن دون جدوى، كان كل شيء دقيقا وفي مكانه الصحيح, للحظات ساورني شك أننا ربما نكون أمام حالة نادرة وفريدة من نوعها، حالة يمكن أن تسجل باسمائنا في الدوريات والمراجع الطبية العالمية، بدأت صور البروفيسور كلايتمان و تلميذه السيد آزرنسكي -الآباء المؤسسين لعلم أمراض النوم- تداعب مخيلتي.
تذكرت تلك القصة التي تحكي بأن البروفيسور كلايتمان كلف تلميذه آزرنسكي بدراسة ظاهرة حركات العينين البطيئة التي تصاحب بداية النوم, لكن السيد آزرنسكي لاحظ شيئا جديدا ومذهلا وهو أن السجل الكهربي للمفحوصين يظهر حدوث حركات مفاجئة وسريعة للعينين أثناء النوم أيضا.
بالطبع قوبلت هذه النتائج الغير متوقعة في بداية الأمر بشيء من التشكك والريبة؛ فقد كان المتعارف عليه بين العلماء في ذلك الوقت أن العينين تتحركان أثناء اليقظة فقط، لكن الأبحاث التي قام بها الباحثون بعد ذلك أكدت صدق رواية آزرنسكي وصحة ملاحظاته، بل وأثبتت ما هو أكثر إدهاشا من ذلك وهو أنه أثناء هذه الحركات السريعة للعينين يكون باقي الجسد في حالة شلل تام، كان ذلك بداية لعهد جديد في علم النوم واضطراباته وأساسا بنيت عليه العديد من النظريات الحديثة في هذا المجال.
كانت الأفكار كعادتها تبعدني شيئا فشيئا عن أرض الواقع، حتى وجدتني في السويد أصافح ملكها قبل أن أتسلم منه جائزة نوبل في الطب، في هذه الأثناء استفقت على صوت مساعدي وهو يصيح: يا جدع.
نظرت إليه باستهجان شديد، لكني عرفت بعدها أنه كان يدندن مقطعا من أوبريت الليلة الكبيرة لصلاح جاهين
"طار في الهوا شاشي ...
وانت مــــــــا تـــــــدراشي ...
يــــــــــــــا جـــــدع"
أشرت إليه بامتعاض و قلت له: أوقف عملية التسجيل؛ سنقوم بإعادة الفحص في وقت لاحق بعد التأكد من سلامة الجهاز.
كان الحاج كرار في الغرفة المجاورة يعزف هو الاخر بشكل منفرد على أحبال حنجرته الصوتيه وعضلات جهازه التنفسي العلوي المرتخية فملأ الغرفة ضجيجا بشخيره العالي، أيقظه مساعدي بصعوبة ثم أخبره باحتمالية عمل جلسة فحص أخرى في وقت لاحق.