توقفنا كثيرا عند الصورة الأولى، لم نستطع أن نتبين منها سوى سطرين اثنين فقط أما باقي الصفحة فقد كان باليا غير واضح المعالم, و قد جاء فيها:
اسمـــــــي ذات البـــيــدا بنـــــــت الأدرس بـــن شـــــــــــــــــاصـر
ولــــــــدت سنـــــة 1571 بعد انكســـــــــار منسأة نبــي الله
الملك سليمان ابن نبي الله الملك داوود عليهما السلام
توقفنا كثيرا عند كلمة (بنت) لم يكن الرسم واضحا بما فيه الكفاية كان قريبا جدا من الكلمة (بن) أو (ابن) مما أدخلنا في جدال طويل حول إن كان المتحدث ذكرا أم أنثى، لكن بعد قيامنا بفحص عدد أكبر من الصور خلصنا إلى أن المتحدث كان أنثى فقمنا في نهاية الأمر بإثبات كلمة (بنت) بدلا من كلمة (بن).
المعضلة الثانية واجهتنا عند كلمة منسأة، لم تكن الكلمة مطروقة لأسماعنا بشكل كبير لكن ربطها بنبي الله سليمان سهل علينا الأمر بعض الشيء خاصة مع استحضار مساعدي للآية الكريمة من سورة سبأ "فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دآبة الأرض تأكل منسأته" فهمنا من ذلك أن المقصود من هذه الكلمة كان عصا نبي الله سليمان.
ويبدو أن المتحدثة واسمها ذات البيدا كما هو واضح من النص أرادت أن تؤرخ لولادتها فلجأت إلى تقويم غريب لم نعهده من قبل وهو ذلك اليوم الذي سقطت فيه عصا نبي الله سليمان, وهو على قول كثير من المفسرين كان بعد عام كامل من وفاته الفعلية، في النهاية كان علينا أن نقوم بإجراء عملية حسابية بسيطة توصلنا بمقتضاها إلى أن هذا التاريخ المذكور في النص يوافق العام 641 بعد الميلاد.
الصورة الثانية كانت تحوي نصا أكثر وضوحا وأروع جمالا من سابقه، وقد تحدثت فيه الراوية عن موطن ولادتها, أوصلنا هذا النص إلى استنتاج مبدأي باحتمالية أن يكون هذا الكتاب في أغلب الأمر مدونة تاريخية أو مذكرات شخصية تعرض لوقائع هامة وأحداث تاريخية عاصرتها الراوية وأثرت في حياتها, استطعنا أن ننقل من الصورة هاتين الفقرتين:
ولدت بوادي عبقر، ذلك الوادي الواقع على الحدود الشرقية لبلاد اليمن، القابع بين جبال جزيرة العرب كنبتة خضراء غضة شقت طريقها في قلب صخرة صماء قاسية، كان عبقر و على مدار مئات السنين شاهدا علــى حضارة أمتنا و رقيها, ورمزا لفنها و إبداعها، وقبلة لكل عالم و متعلم،
كــــان عبقر قصيدة لا تنتهي أبياتها ولحنا لا تنفد أنغامه، عكاظا طـول
العــــــــام نــــهاره فــــــروسية وحــــــــل وعقــد وليـــله موسيقى وشعر وغناء
كثيرا مـــا كان يردد أبي على مسامعنا: عندما كـــــور الــــرب الأرض نظــر
إلـى هذه البقعة منها وقال لها: كوني جنتي في الأرض ... فكانت عبقر,
وكـــــان يقــــــول: مـــــا من حبة رمل في هذا الوادي إلا وصبغت ببيت من
أبيــــــات الشعر ولا ورقــــــة من شجيراته إلا ورويت بقصيدة من قصائده
قام مساعدي بكتابة هذه الكلمات في إحدى محركات البحث على شبكة الإنترنت (موقع وادي عبقر) قال لي: سنرى الآن إن كان ما تذكره هذه المخطوطة حقيقية أم هو محض اختلاق و تلفيق.
بدأت النتائج في الظهور تباعا، كان جميعها مطابقا لما ذكره النص مع وجود آراء قليلة مخالفة قالت بوقوع هذا الوادي بين جبال نجد و الحجاز, قرأ مساعدي "وقد سمي هذا الوادي بعبقر نسبة إلى أحد القبائل الحجازية التي سكنت هذا الجبل" وفي أثناء بحثه وقراءته بصوت مسموع توقف فجأة.
-قلت له: ماذا هناك لماذا توقفت؟
-قال لي وهو يشير إلى شاشة الحاسوب: انظر!!
- قلت متعجبا: ماذا هناك؟
- قرأ مساعدي على مسامعي هذه العبارة: وكان العرب يعتقدون أنه موطن للجن و مسكن لهم وإليه ينسب كل عجيب وخارق.
- قلت له ساخرا: وهل تصدق مثل هذا الكلام؟ إنها محض أساطير وخرافات، وربما كان هناك أكثر من وادي يحمل نفس الأسم.
الصورة الثالثة أفادتنا كثيرا في معرفة بعض ملامح شخصية الراوية وسبب تسميتها, وقد جاء فيها:
أبــــــي عبقري حتى النخاع، عــــاشق للصحــــراء بكــــــــل تفاصيلها،
سـمائـــــــها ورمــــــالها، بــانـــــها وعلمـــها، آكـــــــــــامها وكثــــــبــانـــــــها
أقسـم حين حملت بي أمي إن هو رزق بذكر ليسمينه ذو البيداء
وإن هـــــــــو رزق بأنثــــــى ليسمينها ذات البيداء، ثـــــــم كنت أنـــــــا
وكان ذات البيداء اسمي, وكعادة العرب حين يعمدون إلــــى طويل الأسمــــــــاء فيقصرونها وثقيــل الكلمات فيخففونها أصبـــــــح القوم مــــــــــع مـــــرور الـــــــوقت ينــــــــــــادوننــــــــــي بــــــــــــــذات الــبيـــــــــــــــــــدا
الصورة الرابعة كان النص فيها مكتوبا بشكل واضح جميل جدا، لكنه مع ذلك كان أكثر النصوص صعوبة في ترتيبه وعسرا في استيعابه, وفيه إشارة إلى أصولها وموطن أجدادها, وقد جاء فيه:
أبي فارس مغوار وشاعر من الطراز الأول، اسمه الأدرس بن شاصر سكن أجداده جبال فاران يوم أن كانت بكة واديا غير ذي زرع، فلما تفجرت زمزم تحت أقــــــدام إسمـاعيل وهاجرت جرهم من اليمن لتقيم مع آجر وابنها على مقربة من الماء ترك أجداده جبال فاران وتفرقوا في البوادي والقفار, فسكن بعضهم صحراء نجران وجبال نجد واستوطن البعض الآخر نينوى ونصيبين, أما البقية فارتحلوا إلى صحراء سيناء على مقربة من جبل
توصلنا بعد بحث ونقاش إلى أن فاران هو اسم من أسماء مكة، وعليه فإن أجدادها لأبيها كانوا يسكنون مكة قبل أن يمتثل نبي الله إبراهيم عليه السلام لأمر ربه فينقل إليها زوجته هاجر وابنهما اسماعيل عليه السلام.
كتبت هاجر في النص الأصلي بالألف، سبب لنا ذلك ارتباكا شديدا، تساءلنا إن كان المقصود بآجر هي هاجر أم إسماعيل؟ أم هي شخص أخر غيرها؟ زال عنا هذا الارتباك حين علمنا أن العرب كانت تنطق كلمة هاجر بالهاء تارة فيقولون هاجر وبالألف تارة فيقولون آجر.
يشير النص بعد ذلك إلي أنه بعدما كثر السكان في مكة حول ماء زمزم قرر قومها ترك مكة والهجرة إلى بلدان أخرى مثل سيناء ونينوى ونصيبين، عرفت من مساعدي أن نينوى هي بلدة بالعراق وأن نصيبيب بلدة بين العراق والشام، لكن مالم نستطع فهمه هو كيف استوطن قومها واديا مجدبا لسنوات طويلة فلما ظهر فيه الماء قرروا تركه والهجرة منه إلى غيره.
الصورة الخامسة كانت توضح العقيدة الدينية لأبيها وجاء فيها:
نشأ أبي على اليهودية الموسوية، فحفظ التوراة ووعى أحكامها، كما كان حافظا لعظات الـــــــرب التـــــي خطها بيده المباركة على الألـــواح لموسى بن عمران أيام المواعدة الأربعيـــــن، وهو من القلائـــــــل الذين يعلمون أيـــــن خبئ تابـــوت العهد.
سألته ذات مرة: ماذا رأيت بداخله؟, فأجــابني: رأيت عصا موسى ونعليه وقطعا من ثيــابه وعمامــة هارون وبعض المن وأجزاء مــن الألــــواح التي تكسرت حين ألقاهــــا كليــــم الله علـــى الأرض غضبــا مــن أولئك الذيــن عبدوا العجل من قومه
توقفت كثيرا أمام هذه الصورة, وقد كان لتوقفي هذا قصة ذكرتني بها كلمتي اليهودية و تابوت العهد اعتقدت حينها أنه ربما يكون هناك ارتباط بينها وبين كتاب الحاج كرار، قصة حدثت لي هنا في أسوان وتحديدا على مقربة من جزيرة الفنتين النيلية، بطلاها فتاة بريطانية شقراء تدعى سارة ويلكوكس وعالم أثار شاب يدعى مينا إلياس.