كان ذلك في أواخر مارس من العام الماضي، كنت عائدا لتوي من رحلة نيلية إلى القرية النوبية على الجانب الغربي من النيل، هناك حيث يتعانق التاريخ بعبقه مع الطبيعة بسحرها والناس بطيبتهم فيكون المنتج النهائي لوحة فنية هي أروع ما يمكن أن تراه عينك في هذا الوجود.
هنا في أسوان يتم التنقل عادة بين ضفتي النيل بواسطة الفلائك أو المراكب الشراعية و هو ما يعتبر في حد ذاته متعة خاصة لا يكف فيها الجمال عن مداعبة عينيك بين الفينة والأخرى؛ أسراب من الطيور تحلق فوق رأسك، جزر صخرية وأشجار نيلية من حولك، صفحة النيل تتقلب من تحتك، والموسيقى النوبية تصدح من كل حدب و صوب فتجبرك على أن تتمايل طربا.
سهيلة هو اسم المركب الذي أقلنا من الضفة الشرقية للنيل إلى ضفته الغربية وهو نفسه الذي يعيدنا الآن من الغرب إلى الشرق، جاء مجلسي هذه المرة على مقربة من صاحب المركب وقائده أبومحمد، أول ما لاحظته هو عدد من التماثيل الفرعونية و التحف الصغيرة الحجم موضوعة بجواره، كانت هذه التماثيل مما اعتاد الناس هنا صناعته واحترفوا بيعه للسائحين والزوار كتذكار لهم أو كهدايا لأقاربهم وأصدقائهم.
كان من بين هذه التماثيل تمثال نحاسي يصور شابا يافعا عاري الجسد ينبت من رأسه جناحان، جذب هذا التمثال انتباهي بشدة؛ فقد كنت أعرفه بشكل جيد ... لكن ما الذي جاء به هنا بين هذه التماثيل الفرعونية!
- سألت: من أين أتيت بهذا التمثال يا أبا محمد؟
-رد قائلا: يا بك..... البازارات هنا مليئة بمثل هذه التحف وغيرها.
لم يكن أبو محمد من المهتمين بهذا الأمر ولم يكن قادرا على التمييز بين هذا التمثال وغيره، كانت كل التماثيل بالنسبة له شيئا واحدا، قطع من المعدن أو الحجر تنحت من أجل كسب المال وأكل العيش وإن اختلفت ألوانها وأشكالها وأحجامها، لكن بالنسبة لي كان هذا التمثال النحاسي مميزا جيدا.
- قلت له: ليس صحيحا يا أبا محمد فمثل هذا التمثال لا وجود له هنا في أسوان، بل على الأغلب لا وجود له في مصر كلها.
-قال أبو محمد وهو يفرك لحيته: في الحقيقة هذه التماثيل ليست لي، بل هي ملك للسيدة سارة
قالها وهو يشير إلى فتاة أجنبية شقراء كانت تجلس على مقربة منا ويبدو أن السيدة الشقراء قد لاحظت إشارته إليها ففهمت أن حوارا ما كان يدور عنها أو عن تماثيلها.
قال لها أبو محمد موضحا: الدكتور يسأل عن هذا التمثال ذو الرأس المجنح، يقول إنه ليس من هنا
قالها بلغة إنجليزية متمكنة أشعرتني بالإحباط الشديد؛ كان يتحدث إليها و كأنه من مواليد إنجلترا أو كأنه أحد أبطال أفلام هوليود.
- نظرت السيدة سارة لي بابتسامة عريضة وقالت بحماس شديد: يبدو أنك عالم آثار؟ (قالتها بلغة عربية و لسان أعجمي)
- تبسمت ضاحكا من قولها ثم أجبت: لا لست كذلك و لكن هذا التمثال تحديدا تربطني به علاقة خاصة.
- قالت: بالفعل هذا التمثال ليس من هنا، إنه هدية من أحد أصدقائي .... أرسله لي من أثينا ..... لكن ما سر علاقتك به؟
-قلت: هذا التمثال يصور هيبنوس
-قالت: هيبنوس! ... ومن هو هيبنوس؟
- قلت: هيبنوس هو إله النوم عند الإغريق ..... تقول الأسطورة إنه كان شابا رقيقا و عطوفا لكنه مع ذلك كان قادرا على هدهدة أعتى آلهة الإغريق حتى يناموا، كل مــــا كان عليه فعله هو أن يخفق بجناحيه فوق رؤوسهم فيغطوا في نوم عميق.... لطالمـــا كنت أعجب من جمعياتنا الطبية المتخصصة في أمراض النوم كيف لـــــــم تتخذ من رأس هذا التمثال شعارا لها!
- قالت مازحة: إذا سأضع هـــذا التمثال على مقربة من سريري عله يمنحني نومــــا عميقا.
- قلت: ولكن إحذري من أبنائه.
- قالت: ماذا؟ أبناؤه! وهل له أبناء؟
-قلت: لديه مئات الأبناء يسمونهـــم دريمز أي الأحلام، أشهرهم مورفيوس إلــه الأحلام القادر على التشكل في صورة البشر، وهو الذي اشتق منـــه المصطلــح مورفولوجي و اشتق منه كذلك اسم مخدر المورفين.
- قالت بحماس: هذا شيء في غاية الروعـــة؛ هكذا سيصبح نومي أسـرع و أفضــل.
- قلت: نعــم ولكــن الأسطورة تقول أيضا أن له ابنا آخر اسمه فوبيتور أي رســول الخوف وهو قــادر على اتخاذ الأشكال الحيوانية من أفاع وسباع وضباع وزواحف، ومنه اشتق المصطلح فوبيا أي الخوف, وكذلك ابن ثالث هو فانتاسوس ومنه اشتقت الكلمة فانتازيا التي تدل على كل ما هو زائف و خيالي، وهو الذي يحمل إلى النـــاس الأحلام الوردية الناعمــة والزائفـة معاً.
- قالت مازحة: أوه .... يبدو أنني سأعيد النظر في هذه الفكرة.
كان الحديث عن النوم هو لذتي الكبرى؛ فالنوم لغز كبير لا يفهمه أحد ولطالما كان الحديث عن الألغاز مشوقا، كان هذا الحوار هو أول علاقتي بالسيدة ويلكوكس قبل أن تربطني بها صداقة قوية، والسيدة ويلكوكس هي فتاة في التاسعة والعشرين من العمر بريطانية الجنسية، تعمل في مجال الصحافة، وناشطة في مجال حقوق الانسان، سافرت إلى قطاع غزة بفلسطين أكثر من مرة داعية إلى كسر الحصار عن أهله ورافضة لهدم منازل الفلسطينيين هناك، كان آخر نشاطاتها وقفة احتجاجية نددت فيها بأعمال الحفر التي يقوم بها الكيان الصهيوني تحت المسجد الأقصى بحثا عن هيكل سليمان.
كانت السيدة ويلكوكس امرأة قوية تعلمت منها شيئا هاما لازلت أطبقه في حياتي الشخصية والعملية وهو ألا أخلط الأوراق مهما كانت الظروف والأحوال ومهما كان الخصوم والأعداء، قالت لي ذات مرة: لا يجب أن يمنعك انتماؤك أو اعتناقك لفكرة ما أو إيمانك بعقيدة معينة من أن تنصر الحق أيا كان مكانه أو صاحبه.
حين عرفتني بنفسها أول مرة قالت لي: اسمي سارة ويلكوكس، من عائلة السيد وليم ويلكوكس.
قالتها ثم أخذت تتفرس ملامح وجهي وكأنها كانت تنتظر رد فعل معين، قلت لنفسي هذا الاسم ليس غريبا علي, لابد أن يكون السيد ويلكوكس هذا من الشخصيات البريطانية المرموقة، نظرت إلى الأفق وأخذت أعصر ذاكرتي، هل يكون السيد ويلكوكس أحد رؤساء وزراء بريطانيا؟....... ممممم بالتأكيد ليس كذلك، هل هو أحد أطبائها المشهورين؟ لا ليس كذلك أيضا، هل...؟،هل....؟
وحين يئست من الحصول على إجابة قلت لها معتذرا: عفوا سيدتي، ولكن من هو السيد وليم ويلكوكس؟
أشارت إلى أحد المباني على جزيرة الفنتين النيلية، ثم قالت: هو صاحب هذا المبنى, أقام فيه لسنوات عديدة.
-قلت لها: لاشك أنك تمزحين!
- ردت: لماذا تقول ذلك؟
-قلت: لأن هذا المبنى هو متحف أسوان
- قالت: بالطبع أعلم ذلك ... أقصد قبل أن يصبح متحفا... كان استراحة للسير وليم ويلكوكس.
- تساءلت متعجبا: هل كان السيد ويلكوكس عالم آثار؟
-قالت: كلا إنه مهندس الري الذي صمم وأنشأ خزان أسوان.
كانت هذه معلومة جديدة وصادمة بالنسبة لي، بهت فلم أستطع أن أنبس ببنت شفه، أكملت السيدة ويلكوكس قائلة: وهو كذلك المهندس الذي صمم وأنشأ قناطر أسيوط.
شعرت حينها بحرج شديد؛ كيف يمكن لهذه الأجنبية أن تعلم عن بلادي أكثر مما أعلمه أنا!
لم يكن اسم السيد وليم ويلكوكس غريبا على مسامعي بشكل كامل؛ كنت أشعر أنني قد سمعت هذا الإسم أو قرأته من قبل، لكنه يرتبط في ذهني بشيء آخر، شيء هو أبعد ما يكون عن الهندسة والري، لكن ما هو هذا الشيء؟ لست أتذكر، نظرت إلى الأفق مرة أخرى، أخذت أحك جبهتي محاولا تنشيط ذاكرتي، لكن خانتني ذاكرتي للمرة الثانية.
- سألتني السيدة ويلكوكس: فيم تفكر؟
- فصارحتها بما كان يجول في ذهني.
- قالت: آه .... نعم معك حق .... لابد أنك تقصد " لماذا لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟ "
-صحت: نعم .... هذا هو بالفعل ما كنت أبحث عنه.
تذكرت الآن أين قرأت اسم السيد وليم ويلكوكس، كان ذلك في أحد الكتب المهتمة باللغة العربية وعلومها، هاجم مؤلف هذا الكتاب السيد ويلكوكس هجوما عنيفا و وصفه بالمستعمر العميل الذي كان ينفذ خطة ممنهجة للقضاء على العربية الفصحى، وأشار في كتابه إلى محاضرة ألقاها السيد ويلكوكس في نادي الأزبكية عام ١٨٩٣ م تحت عنوان (لِمَ لمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟) عزا فيها السيد ويلكوكس عدم وجود هذه القوة إلى الإصرار على التمسك بالعربية الفصحى، ودعا المصريين خلالها إلى الكتابة والتأليف باللغة العامية، وإثباتا لذلك قام السيد ويلكوكس بترجمة الإنجيل وعدد من مسرحيات شكسبير إلى اللغة العامية المصرية.
بالطبع واجه المثقفون المصريون يومها دعوة السيد ويلكوكس بضراوة بالغة وقاوموها بعنف شديد وكان على رأسهم عبد الله النديم، فأصروا على كتابة مقالاتهم باللغة العربية الفصحى وبالطريقة الكلاسيكية معتبرين ذلك جزءا من مقاومتهم للاستعمار الأجنبي، مما اضطر السيد ويلكوكس في النهاية إلى إغلاق مجلتة الأزهار التي كان يتخذ منها منبرا لدعوته.
- قالت لي السيدة سارة: أرجو ألا تخلط الأوراق، فأنا عاشقة للعربية، محبة للشعر العربي
-ابتسمت و قلت لها: لا عليك سيدتي فهذه نقرة وهذه نقرة، و لكن هل تزورين أسوان بشكل متكرر؟
-أجابت: نعم كل عام أو عامين تقريبا، لكن زيارتي هذه المرة كانت لشيء مختلف.
- سألتها: وما هو هذا الشيء؟
أخرجت من حقيبتها جريدة باللغة الإنجليزية ثم أشارت إلى أحد العنواين فيها،قالت: جئت هذه المرة من أجل هذا.
نظرت إلى العنوان والصورة أسفل منه، أصبت بصدمة شديدة مما قرأت.