نعيق السوء.
ذات مساء في العاصمة الإيطالية...
- لا يسعني قول المزيد.
نطق بها العمدة منكس الرأس في أسى وهو يقاوم السقوط، لا يحب أن ينهار هنا الآن أمام المفزوعين فلن يسعد السيد الرئيس ولا أعضاء الحكومة بما سيأخذ لضدهم، انهيار واحد فقط يكفي لأن يتصدر وجه ممثلهم الصفحات الأولى من صحف المعارضة تحت عنوان "حكومتنا في مواجهة الأزمات" صغير العنوان وبطيء لكنه -كعود ثقاب- يشتعل. نفض العمدة الفكرة المزعجة عن رأسه وتماسك وهو يفكر في زوجته المحبوبة (كاثلين)، و(بيرلا) شديدة الصغر التي تثق في السيد والدها وتحبه كثيرًا.
كانوا الملايين يتابعون من خلف الشاشات بعد أن اكتظت الساحة الكبيرة أمام (الكامبيدوليو) عن آخرها، وفاضت إلى الأزقة الجانبية والحارات الضيقة ومداخل البيوت حتى أن حوض النافورة المقدس لم يسلم من دوس الأقدام المنزعجة بأمور أكثر إزعاجًا من غضب الإله نبتون أو بللًا يبلغ الخصر. النساء تشبثن بمعاطف رجال لم ينجحوا في دثر ملامحهم الواجمة، بينما قبضوا الأطفال على الأنامل، لا يجبرهم على الإصغاء إلا فطرتهم وهم يرون أطراف آبائهم الشجعان وهي ترتجف أمام حديث السيد (لافيزاتي مارتينيز) المتحدث باسم الحكومة. مسح الأخير قطرات من العرق تكونت على جبهته الحمراء فأصبحت أشبه بحبة طماطم خرجت للتو من الماء على الرغم من برودة الجو التي لم يؤثر فيها ذلك التكدس الكثيف هنا في محيط قصر (بالأتسوسيناتوريو) مقر بلديه روما، وعلى النقيض من ذلك
الجمع الغفير بدت روما كلها عدا تلك الرقعة تحديدا شاحبة لأبعد حد ممكن فَأَصْحَاب الحوانيت بعيدها وقريبها جابوا أبوابهم على ما فيها، ووشحوها مع المنازل ببيارق الحداد السوداء، بينما افتقرت الشوارع إلى دوس الأقدام التي تتخبط هنا في الساحة.
كان وجه العمدة يحمل من الكرب وبدا كأنه مشرع بباله بين هواجس أفكاره فتكرر شروده حتى أن أُقَرِّب مساعديه فضل التدخل أراد (كومان) أن ينقذ ولو جزء من الموقف فهمس بنبرة عنيفة غير جيدة على الإطلاق:
- سيدي هل نترك العالم يراقبنا
خانت كومان أعصابه كان ليكون رد الفعل قاسيا لو كانوا في ظروف أخرى مختلفة، لكن في الظرف الراهن كانت النبرة ذات جدوى، فأنتبه العمدة وهو يجمع شتات سفينته من كل شاطئ لوح ثم شد من قامته وبحيوية زائفة أضاف:
- مات أبرياء ولن نورط آخرين لنحافظ على مقاعدنا، كما نعلم جميعًا.. نقولها نحن لا ظفر للإرهاب في أحداث محطة (تيرميني) ولا إصبع.
كان منفعلا، وكان صادقا إلى أبعد الحدود
سعل وهو يشعر بالثقة تدب في أطرافه ثم أكمل:
- نعم تعرضنا معا لاعتداء أسود غاشم.. هجوم إرهابي، لكنه كان إرهابا خارجيا بعيدا كل البعد عن الشرق الأوسط ولا يعني القاعدة أو التنظيمات كلها.. كذلك الأمر بالنسبة إلى البيت الأبيض.. بل يعني (قصد كبد السماء بإشارة من سبابته) ذلك الحد الخارجي.. مواطنينا....
لكن جملته لم تكتمل إذ قاطعتها الهمهمات الكثيرة التي أتت من أمام المنصة قبل أن يقاطعها هي الأخرى صوت صريخ أحد الجنود المدججين بالأسلحة فوق أبراج المراقبة المنتشرة والمحيطة بالمكان:
- قف مكانك.. لا تتقدم.. لا تتقدم.. لا تتقدم..
كررها ثلاث مرات عبر مكبر الصوت المحمول قبل أن يفلته ليسقط على الأرض غطت أصوات الجلبة والصراخ على صوت الارتطام، وعلى صوت سحب أجزاء بندقيته قبل أن يصوبها باتجاه الزائرين ومن بعيد كان جيش الغرباء يتقدم بطيئا.
*****
في مكان ليس ببعيد ولا بقريب من ذلك.. تحرك شاب –شارف على إتمام عقده الثالث- في مضجعه داخل السيارة التي لا تكشف هيئتها عن حقيقة كونها أجنبية عن المكان لا تمت بصلة انتماء إلى الشارع رقم 4 حيث تربض الآن ولَّا إلى شجرة الكافور تلك التي تظللها الغربان، بدا المشهد منسجما إلى أبعد حد؛ كأنشودة طويلة لحنها كله واحد غير أنها كانت أنشودة مزيفة سرقت عنوة من حنجرة مغني حانات سكير، تماما مثل أن تنزع نبتة ثم تبرح جذعها ليشق لنفسه عنوة في جسد الأسفلت، بعد أن جيء بطريق، وبيوت، وحوانيت، ثم تبعتهم السيارات إلى هنا فتبعتهم نوافذ محطمةٍ، فإطاراتٍ مشتعلة ومزيد من حرائق نشبت في موقعها على غير موطنه.. كان الخراب شديدًا.. الأخضر مضروبٌ باليابس، والأحمر يلوث كل شيء الدخان محمل بروائح كريهة كانت لنوافع ذات يوم، والهواء معبق بعطر نافعين لم يبق منهم سوى رائحة الدماء.. وكان السيد الراقد غير مبال بما حوله بينما السائر لا يكترث سوى بوجبته.
تنذر الغربان بوجود الموت وتجذب رائحته النسور، لكنه كان من العمى أن يفسر الموت بالموت فلا حاجة لرؤية السفينة كي يبرهن وجود البحر..
بالتأكيد الموت قريب..
أقرب من ثوب ذلك السائر إلى بدنه..
*****