Darebhar

Share to Social Media

البيعة الأولى.

ذات أكتوبر بارد..
ما فلحت محاولات التوتة في البقاء رغم شدة حرصها على ذلك، فبعد أن حاربت جسورة تكالب عليها الزعزاع مشيعها إلى مثوى أخير في مشهد ختامي مؤثر. هكذا رآه شريف وهو يراقب من الطابق العلوي، كان يرنو بأعين أصابتها صبابة وراحت بحنين إلى ماض بعيد يقبع وراء زجاج النافذة.
(كان الطفل مسرورا وهو يرى الوحل يلطخ جلد أبيه ويبادله الأب السعادة:
- جيدة؟
سأل الأخير وهو يواري الجذع بالطين، فأومأ الطفل تشق السعادة شدقيه.
- حسنا ألق نظرة... قصد الأب الفسيلة
وسأل أبنه:
- لديك اسم؟
فأجابه غير مصدق:
- هل ستنبت يا أبي؟
- بالطبع ستفعل ستعطينا توت رائع المذاق
- توت رائع.. أحب أن أناديها (توتة) يا أبي
خرجت من ثغره لها مذاقا عذبا بريئا،
فربت الأب على كتفه مستحسنًا، ثم مضى..
مؤخرا باتت كل الأشياء تمضي، كل ما بقي مرغما وإن كان له سبيلا غير السبيل لسلكه، هكذا كان يشعر شريف دائما ويقول في نفسه، فمنذ خسارته الأخيرة لم يربح بعدها ما قد يعتبره خسارة في حال فقدانه، كل ما يفقد الآن فقد مسبقا برحيل أبويه، كانت قناعته تخبره بأن من الحماقة أن ينشد الغني من ثمينا بعد أن خسر النفيس، فلا يعوض الماء إلا بالماء، وهو ما أدركه مبكرا.
أسعفها الحظ وبقيت له تلك الفيلا عن أبويه لتؤمن له مستقبل ولو فيه من الاستقرار جناح بعوضة يعيش فيها موقنا بأنها ستبقى وحيدة في نهاية المطاف. كانت تسوء أموره خلال أكتوبر ونوفمبر، فينعزل عن الناس ويتأخر عن عمله إذ لم ينسه ولا يميل إلى القراءة حتى وإن كان الكتاب للمفضل السيد (فيدورد دوستوفيسكي) نفسه ويحرم جسده الدفء بأسمال من زهد، بينما يدق بين رأسه وفرشتها ناقوس العداوة فلا يلتقيان حتى ديسمبر. كانت الموسيقى ونيسة زهده الوحيدة، لكن هذا كان قبل أن تظهر (كريمة) في حياته..
*****
عند هجيرة نهار سبت أثناء غيم كثيف شغل عباب السماء وجدت سيارة أجرة صفراء من عتبة فيلا –مهندس زكريا الطوفاني- مُسْتَقِرًّا فتوقفت عنده، ثم لفظت الفتاة إلى جانب الطريق، كانت الفتاة تخطو نحو السابعة والعشرين من عمرها طيبة المظهر صالحة القوام تواري في فمها فلجة حسناء تشرق إذ تبتسم. وقفت كريمة على عتبة المنزل في استحياء وراحت تلتفت برأسها يمينًا ويسارًا وكأنها تأمل في رؤية شيء ما.
كانت كريمة وكانت بذلك الكرم الذي يجعلها تكترث لأمر ذلك الشاب الغريب كأمه فقط لأنها رأت حاجته لذلك. لم تمضِ أسابيع على لقائهما الأول، فقد تركها أغسطس على ناصيته وهو يمضي متصربعا كانت خريجة الدفعة ذاتها التي حصل فيها شريف على شهادة التجارة من جامعة الإسكندرية حينها لم تكن معرفتهما تتعدى أكثر من تذكر الملامح، أما الأسماء ومع ندرة تداولها أتى عليها الزمن حتى محاها من الذاكرة يذكر عن شريف وقتها أنه كان أكثر حيوية ذو نظرة مستبشرة مفعمة بالحياة قبل أن تتوالى السنوات فتتبدل السكك وتتوافق الصدف، فصادف أنه كان صباح الأحد الأول له بالمصرف حين واجه عميلة الشباك ليجدها زميلته ولم يتذكر اسمها حتى ذكرته هي وذكرها باسمه هو الآخر، سعدوا بصداقتهم لم تكمل عملية الإيداع ولم يكترث سوى بها وكأنها بعثت له من سحقه الماضي لتؤنس وحشة وحدته، وكأنه قد أُرْسِل إليها من السماء ليزيح عنها منقصة عيشتها فكانت رفقتيهما خير الأمور ومستحبها. علمت عن أسباب شحوبه وأيقنت بأن الفقدان كفيل بأن يميت أحدهم وهو على قيد الحياة فأخذتها عاطفة إليه، ومنذ ذلك الحين لم تتركه ساعة لحزنه، فتعددت اللقاءات وتطورت إلى أن أصبحت زيارات منزلية مع صباح كل سبت ومغادرات متأخرة مع مشارف كل أحد. يأتي السبت بكريمة حاملة مؤنة الأسبوع كله، فتخزن الطعام وتعد وجبة الإفطار، ثم تنشغل عنه بفروضه من ترتيب وتنظيف وتحسين حتى إذا ما قضت له أموره أطعمته غذاء يذكره بطعام أمه، ثم تفرغت بعدها لتسمع منه وتفضي إليه بحصيلة أسبوعها. الحق يقال فكريمة أَضفت لمسة أنثوية بحتة إلى حياة شريف ساهمت في تحسن حالته لولاها ما بقي ولم تجد عناء في ذلك، فكانت تشعر على الدوام وكأنها باتت مسئولة عنه بينما وجد هو جزءًا أصيلا من أمه يعود إليه، فأضحت كريمة هي ذلك الاحتواء الذي يبزغ مع غسق السبت من كل أسبوع..
ومضت بهما الأيام..
*****

جاء قرص ذلك اليوم متسربلا بزبد من غيمات جافة كقارورة مياه عاقر لا يهتدي منها شعاع ولا فيها قطرة وظل الأفق حائرًا بين أن يقشعها أو أن يتركها تفضي بما في خزائنها بسلام وترحل، بينما كان ماسح البصمة يإز منزعجا في دني من تحت ذلك، ولا لوم عليه بعد أن سجل تأخير تجاوز المسموح، وتسامح الحظ مع صاحب التأخير ففلح في تحاشي مديره الغاضب المنشغل بنهر آخرين، وبدأت المعاملات ومرق الصباح وشارفت الظهيرة راكضة، كان النهار متعجلًا كعادة أنهرة الشتاء متسربعة الرحيل كقطار ياباني طائش يمرق صوب ليل أسود متأن.
وبدا من وراء الزجاج أن السماء لقحت، فأخذت تصب رحيقها ليغمر الأرض ويبلل ساكنيها ويبلور على زجاجهم بعدما تمهد الأسطح، لما رد شريف على هاتفه، كان صوت كريمة ينصحه:
- سيجلس كل منا في مقعد يوم السبت إذا مرضت.. يمكنك المجازفة
كانت كأمه تماما، وسمعها تكمل:
- استقل سيارة حتى الباب...
سكتت لبرهة، ثم أضافت:
- عليك التفكير في اقتناء واحدة
ثم أنهت مكالمتها تاركة شريف مشرع بفؤاده إلى أمه مخر الموج بقارب هذيل يصارع الغرق يصارعه الماء من موضع الألواح المنزوعة ونفخ فيه نسيم البحر من ملحه فارتج بصاحبه وصار صاحب القارب يضرب الماء كالمجذوب حتى اهتدت إليه جزيرة كريمة فربض فيها وطيبته..
مع انقضاء ساعات يوم العمل ما انقضى حديث كريمة من رأسه وظلت كلماتها تلوح في أذنيه مع أصداء لأصوات أبواق السيارات وشغله الأمر وراود نفسه في نفسه (ربما آن الأوان) وفتشت أنامله، ثم ضحك ساخرا مما في قراره وما في جيبه (من أحمق ليبيع واحدة مقابل النصف ألف جنيهًا التي امتلكها!..).
بدلت السماء رحيقها بثلوج تلفح الأوجه وتحجب الأسطح، بينما كان شريف يصارع الطقس في رحلة الوصول لمنزله يغلب الرياح تارة وتغلبه تارات ولم يتبين تحديدًا ما إذا كانت أحادا يناير هي السيئة أم أحاد الشتاء كلها بنفس ذات السوء، وفكر في نفسه.. (ربما كان لوجود كريمة صباح السبت أثر سلبي على ما بعده بدونها).. إلى أن أصبح أخيرا على بعد خطوات من فيلته أنعطف مع أشجار الكافور حول السياج، وسار يقطع الأرض إلى باب منزله يمني النفس بشراب دافئ بالداخل، لكنه ما أن تجاوز الكافورة الأخيرة وأبصر المساحة أمام بابه، حتى وقف متعجب فعلى مستقر من بصره وخلف الجذع العجوز كانت الأرض كلها مصبوغة بالأبيض إلا مستطيلا جَافًّا فقيرا تأخر رزقه فبقي على سيرته الأولى دون أن يكون تحت حاجب.. كان بالأمر العجيب لكن شريف رأي أن من التفاهة أن يقف في مواجهة الثلوج ليسألها لما تضربه ولا تضرب كل الأرض، فخطى إلى الداخل وهو يحك في رأسه في عجب.
*****

جاء المساء وكان شريف يغط في ثبات عميق يضاهي ثبات الشارع رقم 4 الغارق في العتمة بأكمله بعد أن تخلت عنه الطاقة وسلمته لفحمة الليل، وعلى مدد شحيح من هلال محجوب في صدر السماء، ظهر هيكل سيارة مغبرة من العدم ليتوسد من المستطيل العاري ويغطيه. استقبلت السيارة أمطارا تكفي لملء بحيرة صغيرة لكن السيارة ظلت على حالتها الداكنة يميل أبيضها إلى الرمادي تحت كومة من الغبار الكثيف كانت بلا لوحات معدنية تدل على هويتها لم تكن قديمة الطراز لكنها بدت قديمة تحت طبقات من التراب تراكمت عليها مع استقرار السيارة عاد التيار ليسري ثم عادت معه أعمدة الإنارة لتعمل بنصف طاقتها، وبينما كان باب السيارة الأمامي يدور حول مفصله كان أحد المارة يمر قريبا منها ولم يبدوا أنه رأى الشبح. ترجل الأخير متسربلا في وشاح أسود قاتم -يمتص من الضوء كالبعوضة في نهر الدم- ذو قلنسوة تغطي رأس ساكنها فلم تبين ملامحه. مشي على الجليد بتؤدة ذات رتم بطيء وأبى نعله أن يطبع أثرا إلى أن أصبح في مواجهة الزجاج الأمامي فمد يده ومال معها بجسده حتى أصبحت قبضته فوق الزجاج وبتوان ميت حفرت سبابة باردة كالثلج كلمة
"للبيع"
شق بها جسد الغبار، ثم راح.. وترك السيارة.
*****

لما وقع بصر شريف عليها في الصباح، كان لها مفعول السحر عليه نبض لها قلبه ووقع في براثن عشقها، فكانت كالبحر اللجي تغريه بأمواجها وتعده بالسلام بينما تجذبه إلى أعماقها متملكة من بائس خالي الوفاض مجرم بوقفته أمامها الآن مشدوهًا فاغرًا شدقيه كالأبله، وكأن الربيع زائر جاء في غير موعده؛ فلمسة ذهب الشمس الدافئ المنعكس من فوق سطحها الحريري ليضفي عذوبة على المشهد قبل أن تبرق كلمة -للبيع- ببريقٍ أخاذ حسن نوره طيب الطلة، فَهَمَّ شريف إليها وراح يتحسس جسدها ولما أستشعره نضرت الحشائش وتفتحت الأزهار وطارت فراشات منعمة ناعمة غنى عصفورًا وغرد آخر وقامت التوتة من غفوتها، وأذهب الدفء صقيع البرد إلى حيث مطرحة هناك في موسكو، حتى أنه شعر بثقل معطفه على جسده ورغب في خلعه ونسي العالم ونسي ساعته فأنسته المواقيت وظل هائمًا على حالته تلك إلى أن وكزه عقله ملحا (تحرك. ماذا تنتظر؟)، وبحث عن سبيل إلى صاحبها، فلم يجد فاكفهر وجهه كحبيب حالت الأقدار بينه وبين محبوبته، فتأخر ونسي أن يذهب إلى عمله فعادت أدراجه إلى الداخل حالمًا ولما تحكم هاتف كريمة، وأخبرها عن عشيقته وطالبها بالمجيء العاجل..
جاءت كريمة متعجبة تتساءل عما أصابه فأجابها غائبًا:
- عشقت
حارت من أمره وكررت وهي تنظر إلى عينين لامعتان:
- ماذا؟
رد شريف:
- جالبة الربيع
بدا مسحورًا
شعرت كريمة بالانزعاج حاولت بقدر الإمكان التحكم ولم تفلح:
- أي حماقة تلك!.. ماذا أصابك؟
ارتجفت وهي تراه ينقض عليها وللحظة بدا وكأنه سيلكمها فتراجعت غير أن وثبته أدركتها ليحكم قبضته على معصمها ثم صار يجذبها خلفه وهو يصيح في نشوة حقيقية غير مباليًا بتألمها:
- انتظري.. ستفهمين ما أقصده الآن.. سترين
راح يعدوا وهي من خلفه مرغمة حتى بلغا البوابة فعبر معها وأصبحوا في مواجهة بقعة السيارة التي لم تعد في موضعها، كان خاويًا على سيرته السابقة فقط الاختلاف كان في تجود الغيث عليه ليمحي من أثرها. صعق شريف لما لاقى ذلك وأحس بجميع أماله تتحطم، لم يخفف عنه وجود كريمة غير أنه استسلم لها فضمت رأسه إلى صدرها وقالت في رثاء:
- لا تحمل عليك، ستعود
ولم ينبس شريف ولم يكن مشهد الاحتضان بمألوف لدى بائع الخبز المتجول..
*****

(أشعر بك كلما ازداد الأمر سوءً. وحدك تشعر بي من شعوري بك، وحدك قد يبكي لأجلي، وحدك من يحنو علي).
استدعت الألحان شريف من غياهب النوم وكان مستسلمًا للنداء فقام بعينين نصف منتبهتين، مشي مهتد بصدى الألحان، كان الخارج صقيعًا لكنه لم يشعر على أية حال وهو يمشي في رحاب الألحان متصوف يتبع سحره الداخلي حتى واجهها فرحب به عبر أثير زجاجها..
"رغبتك تملكك"
فلم يفهم ولم يسع للفهم، راح يتحسس جسدها في شوق..
وعزف الربيع على قيثارة الشتاء.
*****
جاء الصباح غائما كئيبا كسابقه، لم يتذكر المسحور عمله وتزين فأحسن زينته، ثم خرج للقاء درته فوجد جوابها
"هيت لك"
قال:
- ما شاء الله
وتمت البيعة بلا ثمن، بلا بائع.
*****
وفي المساء أوى إلى فراشه ونام فيه فقام فيها.. فتح عيناه متثاقلًا بعد أن هاجمها شعاعًا هرب من حجاب السماء، لما أدرك مكانه لم يصبه الفزع ظَنًّا منه بأنه ما زال في غفوته.
في بادئ الأمر حاول الاستيقاظ ولما يأس استسلم لما هو فيه وسلم به وراح يتحسس بشرة مقاعدها بأنامل تداعب -عاهرة- شقراء، وحسِب أنه مشى إليها في غفوته مشية محب ملب.
حين فرغ من شهوته وأراد الخروج باءت كل المحاولات بالفشل من باب إلى آخر كالمجذوب يضرب ويركل ويكيل السباب واللكمات، يطرق على الزجاج ويزعق في المارة مستنجدًا، لم يعره أحد بال. وكانت الشمس تتوارى في الأفق بينما بدل الغبار كلمته الزجاج
"مرحبًا أيها المالك"
ولم تبد لشريف..
*****


راحت الشمس إلى بلاد المغرب، بلغ عقرب الوقت الساعة السابعة وساد صمت محيط إلا من رياح تزور بضع شجيرات فتخشخش بورقها تارة وتصفر تارة وتسكن أخرى، وبين هذا وذلك وذاك راح شريف يغط راقدٍ بعد أن استمات على الخروج ولم يستطع، سكن وهو يشغل باله بكريمة وقال في داخله عنها (ليتها كانت كل شيء) ورنا مبتعدًا. تأخرت استفاقته دقائق، لكنه استفاق ولما عاد مدركًا جزع ثانيةً بعد أن رأى سواد الليل، فتحرك خلف عجلة القيادة وعاد يعنف المزلاج، فأنساب في يده بنعومة وفتح الباب منصاعًا أو كان كذلك فتملك شريف ارتياحًا وانفرجت أسارير وجهه، ثم راح يفكر في مرأب لصيانة تلك الفتاة، تبسم وهو يتحسس خمس ورقات حسان في حافظته ولم يتذكر عمله الذي قد نساه...
*****
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.