الفصل الثاني
الحكيم الفارسي
بسم من سمي الوجود باسمه، وبه دار الفلك، وسكنت الأرض
فهو محرك الفلك، مضيء النجوم، معلم الحكمة للعقل دون وسيط
واهب الجواهر لدقائق الأفكار، متبع الليالي الحالكة بالنهار
يشهد الوجود كله على وجوده، فوجوده قاهر لجميع الموجودات، وآياته ظاهرة لكل نظر
أمنية عيون المتأملين، أنيس خاطر المتبتلين
لا يصعب على إنسان التعرف عليه، لكن أمره ينجز إلى الندامة كذلك*
وهو العالم بسر طواف النجوم الجوالة حول كعبة الأرض
ومن معبودها في هذا المحراب وما هو هدفها من هذا الذهاب والإياب
وماذا تبتغي من إنزال محملها؟ وعم تطلب من قطع المنازل؟
فهي كلها مضطربة حائرة كالفرجار جادة في البحث عن خالقها
فيا الهي ! كما سويت طينتنا وأخذت ميثاقا علينا
فأننا نؤدي حق الخدمة قدر ما نستطيع ما دمنا أسرى ضعفنا
و أني لك – يا الهي – أن تضيع الضعفاء بكل ما تتصف به من الطاف؟
فلو ترضى عمن خلقته من حفنة تراب فأن رضاك ينفعنا ولا يضرك
فالهمني الصبر كي أتحمل العسر ولا تجعلني اغفل عن أمري ساعة اليسر
وبصرني بحكمتك وازل حجاب الغفلة عني
فاني خطوت قاصدا خدمتك فارشدني اذا ضللت الطريق
وانر سرجي بنورك ولا تبعد رأسي عن أعتابك
وداو رأسي المتألمة واجعل دواءها من تراب أقدام المصطفى الذي تعد الكائنات ثرى له
على روحه الظاهرة ألف سلام انه سراج عين أهل البصيرة الوهاج و زينه جموع المخلوقات
وهو قائد ساحة الوفاء و رئيسها وأمام الأنبياء وزعيمهم
وقد تدلل اليتامى بفضل أنفاسه و لهذا سمي: الدر اليتيم
لمقدمة سرير العرس تاج فهو أمين الوحي، وصاحب أسرار المعراج**
* يعني لا يصعب على إنسان التعرف ( على صفاته ) لكن أمره يؤول إلى الندامة في معرفة ذاته.
** من الأدب الفارسي: خسرو وشيرين - المؤلف: النظامي الكنجوي (530 هـ / و619 هـ ) - المترجم: عبدالعزيز بقوش
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة - عدد الصفحات: 438 - سنة النشر: 2000
جلس "راغب" بجانب الحكيم الفارسي يتأملان آية من آيات الجمال، شروق الشمس على الوديان من خلف الجبال، فرشاة من نور تمحو صفحة الظلام، ثريات من ذهب تتخلل قمم الأشجار، خيوط الضياء تنتشر بين السهول لتزيح الأستار، فتتمايز ألوان الكائنات و تتباين أشكال المخلوقات، نباتات و جمادات و حيوانات، أشجار و أحجار و أطيار، بعد أن كان الكل سواء منذ لحظات، فقط البصير من يدرك هذه التغيرات أما الضرير فالمشهد في عينيه على ما كان عليه.
قال "راغب" دون أن يحول نظره عن المشهد الخلاب: سيدي هذا بدء اليوم قد رأيناه و ختامه قد عرفناه، فما بدء الحب و ما منتهاه؟
طال صمت "الفارسي" حتى ظن "راغب" أنه لم يسمعه، أو سمع و لن يجيبه، ثم قال دون أن يلتفت أيضا: الحب لا نهاية له.
أدرك "راغب" أن "الفارسي" قد آثر أن يبدأ من النهاية فقال في نفسه: (لا بأس أحيانا تدل النهايات على البدايات و لعلي إذا صبرت ظفرت بجميع الغايات)، ثم رفع صوته قائلا: لكننا يا سيدي رأينا من يذبل الحب في قلوبهم، و من يلزم محبوبه زمنا ثم ينصرف عنه.
“الفارسي”: حب الفاني يفنى و حب الباقي باق.
“راغب”: و مع ذلك يا سيدي كثيرون بقي حبهم بعد فناء محبوبهم.
“الفارسي”: هؤلاء كانوا يحبون المعاني الخالدة و الصفات الباقية في محبوبهم الفاني، ثم أضاف متبسماً: ألستم تتغنون يا أهل النيل بأن عشق الروح ليس له آخر لكن عشق الجسد فان.
“راغب”: و ماذا عن الذين أحبوا ثم هجروا، و دنوا ثم نأوا، و صفوا ثم جفوا.
“الفارسي”: هؤلاء إذا افترضنا أنهم كانوا صادقين في حبهم فقد كانوا قاصرين في معرفتهم، فلما عرفوا عن محبوبهم ما كان عنهم غائبا، و ظهر لهم منه ما كان عنهم خافيا، تبدد ودهم و انطفأ شوقهم.
“راغب”: نعم يا سيدي هناك من كلما ازددت به معرفة كلما ذُبت فيه عشقا، و هناك من إذا أحطت به علما نفرت منه زهدا، لكن يا سيدي أليس الحب يمنع من المعرفة الحقة؟ أليس حبك الشيء يعمي و يصم؟ فأنى للمحب أن يعرف عيوب محبوبه؟
“الفارسي”: و عين الرضا عن كل عيب كليلة و عين السخط تبدي المساوي، هذا في حق المحبوبات الأرضية أما المحبوبات السماوية فارجع البصر فيها كرتين يرتد إليك البصر خاسئا و هو حسير.
"راغب" متحيرا: لم أفهم يا سيدي.
“الفارسي”: كلما كان المحبوب أرضيا ماديا فانيا كلما أمكن لعين النقد اختراقه، ومهما أعماها الحب زمنا فسيأتي يوما تزول فيه الغشاوة عنها و يرتد البصر إليها، و كلما كان المحبوب سماويا روحانيا باقيا كلما عجزت عين النقد أن ترمه بسهم، و كلما نظرت إليه بعين الشك زال عنك الريب و زاد منك الفهم و رسخ فيك اليقين.
“راغب”: أيهما الأسبق يا سيدي الحب أم المعرفة؟ هل الإنسان يعرف فيحب أم يحب فيعرف؟
“الفارسي”: مستويات الحب و المعرفة تتداخل و تتشابك، كلما أحببت كلما تطلعت إلى مزيد معرفة بمحبوبك، و كلما عرفت محاسن محبوبك كلما زاد حبه في قلبك، لكن نقطة البداية تكون المعرفة فما لا تعرفه هو عدم بالنسبة لك و لا يتصور حب العدم.
" راغب" فرحا: ها قد عدنا إلى الشطر الأول من السؤال، تريد أن تقول أن بدء الحب بسبب المعرفة.
“الفارسي”: لا يا بني، فكما أن الحب لا نهاية له فكذلك لا سبب له، فكم عرفنا أناسا رائعين و لما يدخل حبهم في قلوبنا، إنما كنت أحدثك في إطار العلاقة بين الحب و المعرفة لا في بدء الحب.
“راغب”: فما بدء الحب إذا؟
"الفارسي" مدندنا:
لحظ رنا.. قوس رمى.. سهما أصاب مهجتي
عين المها.. تسبى النهى.. بسحرها تلك التي
هاجت خيالي.. فظلمت حالي.. أفلت مقود صبوتي
يامن لها.. يكفها.. عن غيها.. وإثارتي
سكت "الفارسي" برهة ثم أضاف: بدء الحب يا ولدي سهم غرب يقع في الفؤاد، لا تقدر على نزعه و لا تصبر على ألمه.
"راغب" و قد شعر أن البحر يزداد عمقا: يا سيدي قطعت إليك الفيافي شوقا إليه، لكن حديثك الآن عنه يجعلني حائرا بين الرغبة فيه و الرهبة منه.
“الفارسي”: هكذا الحب يا بني تفر منه إليه، و ترغب عنه فيه، و ترحل منه إليه، و تدور معه فيه، يوما تجد مرارته شهدا و يوما تجد حلاوته حنظلا.
“راغب”: حتى متى؟
“الفارسي”: حتى تستعذب عذابه.
"راغب" في صوت من بَعُد حلمه و فقد أمله: يا ويحي منكم يا أهل فارس. ألا تعرفون سوى هذا اللون من الحب ! لكأنك يا سيدي تشير إلى صرخات الحلاج:
اقْتُلُوني يا ثقاتي = إنّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي = وحياتي في مماتي
أنّا عندي محْو ذاتي = من أجّل المكرمات
وبقائي في صفاتي = من قبيح السّيّئات
سَئِمَتْ نفسي حياتي = في الرسوم الباليات
فاقتلوني واحرقوني = بعظامي الفانيات
ثم مرّوا برفاتي = في القبور الدارسات
تجدوا سرّ حبيبي = في طوايا الباقيات
التفت "راغب" إلى "الفارسي" و اعتدل في جلسته ليصبح مقابلا له بعد أن كان بجانبه ثم قال: أهذا هو منتهى الحب يا سيدي؟ الموت؟ ثم اضاف متحيرا: و ماذا عن الفناء و الجنون و الشطح و الذهول؟ ألا توجد للحب غير هذه النهايات الهاويات؟
"الفارسي" و هو لم يزل محتفظا بهدوئه، و لم يتأثر بثورة “راغب”: لقد أخبرتك أن الحب لا نهاية له و لكنك لا تريد أن تقتنع، الفناء و الجنون و الشطح و الذهول كلها أحوال قد تعتري العاشقين ، و قد يطول مقام بعضهم في تلك الأحوال حتى تنتهي حيواتهم، فهل نعتبرها حينئذ منتهى الحب أم نقر بأنها نهاية المحب؟
“راغب”: يعني العيب فيهم أو في أحبابهم أما الحب يا روحي عليه، أليس كذلك؟
لم يمنع "الفارسي" نفسه من الابتسام و هو يقول: لا زلت لا تستطيع التحرر من تراثكم الفني، و مع ذلك أقول لك إن إجابة سؤالك هي: بلى. و لو قدر لهؤلاء العاشقين طول العمر لاجتازوا تلك الأحوال و لاستمروا في الترقي في كمالات الحب.
"راغب" مسترسلا: و لكف "الحلاج" عن الشطح، و لأفاق "قيس" من الجنون! لا أتصور ذلك يا سيدي، فأمثال هؤلاء حتى لو امتد بهم العمر عقودا لبقوا على أحوالهم التي ملكت عليهم حيواتهم، و حققوا فيها ذواتهم، و وجدوا فيها أقصى غاياتهم التي لم يبق بعدها ألا أن يغادروا هذه الحياة ليلحقوا بمن أحبوا في حياة أخرى.
"الفارسي" عاقدا حاجبيه: ربما. يمكن بالفعل أن تتملك الأحوال المحبين فلا يستطيعون التحرر منها مهما طال العمر، و لكن هذا لا يعني أن تلك الأحوال هي نهاية الحب، و كلامك في جوهره حجة لي لا لك، فطالما أنهم أردوا اللحاق بحبيبهم في حياة تالية فهذا يعني أنهم أدركوا أن الحب ليس له منتهى.
أخذ "راغب" يستعيد جملا من كلمات "الفارسي" في ذهنه، و يرددها على قلبه، فشعر أن وراءها بحارا لم يخضها و جنانا لم يلجها، فأراد أن يستزيد من البيان و يقف مع بعض ما مر عليه مرور الكرام فقال: ذكرت يا سيدي أن حب العدم لا يكون، فلابد للمحب من معرفة شيئا عمن أو عما يحب، و لكن ماذا لو كان ما عرفه المحب عن المحبوب غير صحيح و أحبه على ما علم؟ أيمكن للحب أن يبنى على الكذب؟ و ما مصير هذا الحب الكاذب؟
“الفارسي”: حب المعدوم محال لكن حب الموهوم مُنال، و من الناس من يتخذ من دون الله آلهة يحبونهم كحب الله، الحب الكاذب قصير الأمد، و لا يمكنه أن يحيا أكثر من الحياة الدنيا و هي واحدة فقط من الحيوات الخمس التي يعيشها الإنسان، الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
“راغب”: و ما تلك الحيوات الخمس التي نحياها؟
" الفارسي": عالم الذر و فيه تآلفت الأرواح و تنافرت و أعطت الميثاق بين يدي ربها، و عالم الرحم و فيه نُفخت الروح و كتبت المقادير الأربعة، و عالم الأرض و فيه البلاء و الابتلاء، و عالم البرزخ و فيه الفتنة و الضمة و الفُرجة، و عالم الآخرة من البعث إلى الخلود.
ثم نظر " الفارسي" كأنه يتطلع إلى ما وراء الأفق و قال: و هكذا ترى أن الحب الصادق يبدأ من عالم الذر إلى عالم الخلود، و الحب الكاذب على الأرض يحيا و فيها يموت.
راح اللحن الذي كان يردده "الفارسي" منذ دقائق يعزف على وجدان "راغب" فأنصت له بمهجته لحظات (لحظ رنا.. قوس رمى.. سهما أصاب مهجتي) ثم قال: ماذا علي أن أفعل لأجعل القوس يرمي و يصيب سهم الحب قلبي؟
“الفارسي”: ليس لك من الأمر شيء.
“راغب”: و لما؟
“الفارسي”: لأن الحب يا صاح وهبي لا كسبي.
“راغب”: فما السبيل إليه إذن؟
“الفارسي”: لا سبيل إليه بالكسب و لكن أقصى ما تستطيعه تخلية القلب ليجد محلا يسكن فيه، كيف ترجو أن ينشغل قلبك بالحب و قد ملأته بما سواه.
أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفَ الهَوى ** فَصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا
“راغب”: القلب ذاك الصندوق المغلق الذي لا أدري ما فيه و لا سلطان لي عليه، كم من الرياضات يحتاجها الفرد لتخلية القلب؟ و هل فعل ذلك جميع المحبين؟ ما سمعنا بهذا في قصص العاشقين، و إنما تمكن الحب منهم دونما عناء.
“الفارسي”: سألت عن السبيل للسالكين فلما أجبتك تمنيت حال المجذوبين !
“راغب”: يا سيدي بحلمكم اعذروني، فطالما بدء الحب ليس في مقدوري فقد أغلقتم بابه دوني.
“الفارسي”: و هل باب الحب بيدي يا ولدي لأغلقه دونك أو دون غيرك، إنما بابه مفتوح أبدا، و طريقه ظاهر أمام عينيك، من ذا الذي يحل بينك و بينه إلا نفسك التي بين جنبيك؟
"راغب" متأثراً: لو أبصرته لسلكته.
“الفارسي”: هذا لأنك تنظر بعيني رأسك، و لكن انظر بعين قلبك.
"راغب" في يأسٍ و آسى: قلبي مرة أخرى، ها قد عدنا إلى حيث بدأنا.
“الفارسي”: خلق الإنسان من عجل.
“راغب”: تطلب مني تخلية قلبي و قتل نفسي التي تحل بينه و بيني، و ترى ذلك هيناً ميسوراً، و تريدني أن أقول لك على الرأس و العين و أكون مسروراً!
“الفارسي”: لم أطلب منك شيئا، و لا أريد منك قولا، إنما سألتني فأخبرتك.
“راغب”: أليس الناس مفطورين على حب الإحسان و الجمال، و ها هو الإحسان قد عم الكون، و ملأ الجمال جنباته.. في المباني و المعاني، في الأخلاق و الخلائق، في الطبيعة و ما وراءها، فلما أصبح الحب عزيز المنال بعيد الترحال نادر الوجود؟
“الفارسي”: تتحدث يا ولدي و كأنك لم تعرف الحب يوما، كأنك لم تدخل قصره و لم يدخل قلبك، كأنك سمعت عنه بأذنك و لم يدركه بصرك، ألم تحب من قبل أبدا؟
“راغب”: أحببت ما يحب الناس، أحببت الشهوات من النساء و البنين و قناطير الذهب و الفضة، و ما هذا بالحب الذي أبحث عنه.
“الفارسي”: عسى الله أن يرفعك في الحب درجة و يسقيك من الحب قطرة و ينقلك في الحب نقلة.
“راغب”: أين الثرى من الثريا؟ أين حب الشهوات من حب رب الأرض و السموات؟
“الفارسي”: قطرة من فيض جوده تملأ الأرض ريا و نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليا.
“راغب”: هل يمكن للإنسان أن يتدرج في الحب من حب الرذائل إلى حب الفضائل؟ و أن يترقى من حب الحفر المنتنة إلى حب القمم المزهرة؟ و من حب الأجساد البالية إلى حب الأرواح الخالدة؟ أم إن الأولى تحجب الآخرة؟
“الفارسي”: حب الشهوات، و حب العاجلة، و حب المال، و حب الله و رسوله و جهاد في سبيله، كل ذلك سماه القرآن حبا، فالحب في النهاية واحد، الحب هو الحب.
“راغب”: و هل يستوي يا سيدي شرب الغسلين مع شرب التسنيم و السلسبيل؟ و نقول كله شرب! و الضريع الذي لا يسمن و لا يغني من جوع هل بقي له من صفة الطعام شيء؟ و خمر الجنة التي لا يصدعون عنها و لا ينزفون هل تشترك مع خمر الدنيا في شيء غير اسمها؟ فكيف يكون هذا الحب هو ذاك الحب؟
“الفارسي”: لو لم يحب الناس المال و البنون و الزينة و الجاه و السلطان و ما شابه فكيف سيعرفون إذا أحبوا العطاء و الفداء و الزهد و التواضع و الافتقار أن ذلك حبا؟ لو لم يكن تذوق الغسلين من عذاب الجحيم فكيف سيدركون أن السلسبيل و التسنيم من النعيم المقيم؟ و الضريع في النهاية شئت أم أبيت طعام يؤكل و إن لم يشبع و يسمن.
و في غفلة من "راغب" أعقبتها دهشة، أخرج "الفارسي" قنينة خمر و وضعها على الأرض بينهما، لم يدر "راغب" من أين أخرجها؟ أمن جيبه؟ أم من حقيبته؟ أم من الهواء؟ أراد أن يَفهم فهم بالسؤال ثم آثر أن يُفهم فلاذ بالسكون.
قرأ "الفارسي" ما ظهر في عينه و ما بطن في عقله فسكت بدوره و طال صمته حتى هدأت عين جليسه و سكن عقله ثم قال: ولع العرب في جاهليتهم بالخمر متواتر مشهور، و جاء القرآن الكريم و أعاد صياغة القلوب فاستحال الحب بغضاً و الولع نفوراً، و ما جاء في السنة الشريفة من لعن الخمر و ذمها جعلها من المعاصي التي لا تشتهى بالنسبة لكثير من الأجيال اللاحقة من المسلمين، بمعنى أنه إذا بقي نوع من الشوق إلى الخمر في وجدان الجيل الأول فهو أمر مبرر لقرب العهد بها و تأصلها في ثقافتهم و أشعارهم، أما أن يبقى هذا الهيام بها في أشعار الصوفية المتأخرين فمستغرب و إن كان جوهرها الرمزية و الإشارة إلى المتع الروحية العلوية لا المتع النفسية السفلية، و لكن يشفع للصوفية ما جاء من تشويق القرآن إلى خمر الجنة، تلك الخمر التي سلبت عنها جميع صفات خمر الدنيا الذميمة بحيث لم تعد تشترك معها في شيء سوى الاسم كما تظن، و لكن إذا دققنا وجدنا أنهما أيضا تتفقان في إحداث النشوة و هي المقصد الأساس من شربها إلا أن خمر الدنيا تحدث نشوة مدنسة نجسة مصحوبة بغياب العقل و بالتالي إطلاق الغرائز الحيوانية إلى المدى مع دفن الضابط الأخلاقي، بينما خمر الجنة تحدث نشوة قدسية مع الصحو لا السكر و هذا منتهى العجب، أن يجمع الإنسان بين نشوة الروح و صحوة العقل، و لعلها حالة تشبه الجمع بين نوم العين و يقظة القلب، و صلى الله و سلم و بارك على من كانت تنام عينه و لا ينام قلبه.
نظر "الفارسي" في عيني "راغب" مباشرة و مد يده إليه بالقنينة و هو يقول: عليك أن تشربها مرة واحدة فقط لتفهم سر هذا الولع بها في الإشارة إلى المعاني العلوية، و لتتذوق أشعار القوم و تدرك أثر الخمر في العرب أيام الجاهلية.
ماذا يريد هذا "الفارسي" هل يعني ما يقول أم أنه يختبرني؟ و إذا كان هذا امتحان فهل النجاح فيه بالرفض أم بالقبول؟ هل أقدم الثقة فيما أعلمه فأرفض أم الثقة فيمن يُعلمني فأجيب؟ قصة موسى و الخضر عليهما السلام كانت و لا تزال و ستظل مصدر إلهام و مرجعاً يرام لكل عالم و متعلم، و شيخ و مريد، و حكيم و باحث عن الحكمة، و لكن يا ويل العلم و قومه و يا ويح الطريق و أهله لو تصدر لها و اتكأ عليها كل متعالم بليد أو دعي عنيد أو شيطان مريد، ترى ما الذي دار في ذهن الكليم عليه السلام و هو يرى العبد الذي علمه ربه من لدنه علما يخالف ما أنزله ربه عليه من الكتاب و ما كتبه له في الألواح؟ و إذا كان الكليم عليه السلام بعد أن قطع على نفسه العهد بالصبر و عدم مخالفة أمر الخضر عليه السلام الذي أرشده الله تعالى إليه و أوصاه بمصاحبته، عندما رأى مشهد خرق السفينة التي هي مصدر رزق الفقراء الكرماء نسي وعده رقة لهم و رأفة بهم و حرصا عليهم، و عندما أبصر مشهد قتل الغلام لم يستطع مع اغتيال البراءة و سفك الدم الحرام صبرا، فما بالك بمن كان حاله كحالي و مثاله كمثالي؟ كلا. لا أستطيع، و سرعان ما انتقلت الكلمة من جنانه إلى لسانه فهتف قائلا:
لا أستطيع.. لا أستطيع.
سحب "الفارسي" يده من أمام "راغب" ثم فتح القنينة و رفعها إلى فيه و أفرغها فيه، ثم قال: يا ولدي أنت لم تتقن الفهم عني و لم تحسن الظن بي، أخبرتك أن القوم يسمون الأشياء بغير اسمها، و يستعيرون الكلمات الدالة على الملذات الحسية للتعبير عن اللذات الروحية، و ما قدمته لك لم يكن خمرا و إنما شراب صنعته من بعض الثمار و الأزهار بطريقة خاصة فأصبح له مذاق فريد و تأثير عجيب، كان سيجعلك تعي أن ما يدرك بالذوق لا يُحَصل بالسمع، و كان سيمنحك تجربة لم تخضها من قبل و لذة لم تختبرها قط. ثم أنشد:
اشرب شراب أهل الصفا (الله الله) ترى العجايب
مع رجال المعرفة (الله الله) و الخمر طايب
خطرتهم واحد نهار (الله الله) يا قومي خطرة
وجدتهم أهل الغرام (الله الله) و هم في حضرة
عيونهم مسبلة (الله الله) و وجوههم نضرة
قلت لهم أدخل بحماكم (الله الله) يا ذا الموالي
قالوا لي تقبل شرطنا (الله الله) و الشرط غالي
تصبر على دربنا (الله الله) طول الليالي
تشرب كؤوس الحنظل (الله الله) و المر يحلو
تصبح سبيكة من ذهب (الله الله) يا من عرفنا
شعر "راغب" أنه تجرع كأسا من الحسرة الممزوجة باللوعة المخلوطة بالحزن المضاف إليه الندم، و تمنى أن يعض على يديه و هو يقول: معذرة يا سيدي، سامحوني.
"الفارسي" باسما: لا عليك و لكن تذكر دائما أن الحكيم لا يمكن أن يكون سكيرا كما لا يمكن للنبيل أن يصبح عربيدا، و أن الإنسان إذا أساء الظن بمن حوله فلن يتمكن من حبهم، و إذا لم تتمكن من حب الصنعة فلن تصل إلى حب الصانع.
“راغب”: أيحب العبد خالقه فيحب لحبه ما خلق أم يحب الخلق أولاً فيحب من خلقهم؟
“الفارسي”: الشأن شأن مسألة المجذوب و السالك، فهناك من يجذبه الحق و الجمال و الجلال جذبة تأخذه إلى العلا فإذا ما أنفك عنها هام على وجهه شوقا إليها يدفعه حنينه إليها فيسير و يسير و منتهى أمله أن يعود إلى النقطة التي بدأ منها، و هناك من يبدأ بالسير و السلوك و الرياضات و المجاهدات حتى إذا استيئس و كاد أن يغرق جذبته الحضرة القدسية إلى أبعد مما انتهى إليه أمله، و لابد من الجمع بينهما لمن أراد الوصول، و الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب.
“راغب”: إذا الانتقال في الحب بين الماديات و المعنويات مكرور، و الترقي في درجاته من قبضة الطين إلى نفخة الروح مأمول، و أول الغيث قطرة مثل مشهور.
“الفارسي”: نعم. ألم تسمع قول يوسف الصديق: ( السجن أحب إلي مما يدعونني إليه )، و قول ابن الوليد: (ما مِنْ ليلةٍ يُهدى إليَّ فيه عروسٌ أنا لها مُحِبّ أحبُّ إليَّ مِن ليلة شديدةِ البرد، كثيرة الجليد، في سريَّةٍ أصبِّحُ فيها العَدُوَّ)؟
“راغب”: تقصد أن يوسف الصديق عليه السلام اختار حب المكان الموحش المقيد للحرية على العشق الحرام ، و ابن الوليد رضي الله عنه فضل حب الجهاد في الظروف الشاقة على العشق الحلال، فأين الانتقال هنا؟ و هل في الحب أصلاً تفضيل أو اختيار؟ ألم يقل عنترة بن شداد:
لَو كانَ قَلبي مَعي ما اِختَرتُ غَيرُكُمُ وَلا رَضيتُ سِواكُم في الهَوى بَدَلا
لَكِنَّهُ راغِبٌ في مَن يُعَذِّبُهُ فَلَيسَ يَقبَلُ لا لَوماً وَلا عَذَلا
“الفارسي”: يوسف عليه السلام لم يحب الوحشة و القيد بل أحب الأنس و الحرية، فالوحشة في ظلمة المعاصي لا في ظلام السجن، و القيد في تقييد الإرادة لا في قيود الجسم، فإن كن يدعنه لإلغاء قناعاته و التنازل عن أخلاقه و الخروج من تراثه النبوي الكريم و الاستسلام للغواية و الرذيلة فالسجن أحب إليه مما يدعنه إليه، فالانتقال هنا نوعي لأن نظرته إلى السجن باعتباره المكان الذي سيحتفظ فيه بما يحب من الهدى و التقى و الأمانة والعفاف لا باعتباره المكان الذي سيعاقب و يحبس فيه جعلت المكروه إلى النفس محببا إليها، أما في حالة خالد رضي الله عنه فالانتقال في الحب كان في الدرجة لا في النوع أي كان ترقيا، فالعشق الحلال ليس مكروها و لا لوم على صاحبه و لكن عشق الجهاد غلبه لأنه لم يكن من المتربصين الذين ذكرتهم آية سورة التوبة (قل إن كان آباؤكم...)، و الأمر في الحالين لم يكن تفضيلا أو اختيارا بقدر ما كان تعبيرا عن الحال، حال النفور مما يغضب الله في الأول، و حال الشوق إلى ما يرضي الله في الثاني.
“راغب”: متى و أين و كيف يحدث هذا الترقي و ذاك الانتقال؟ و لماذا يحصل لبعض البشر من دون العباد؟
“الفارسي”: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
“راغب”: إذا ما باليد حيلة.
“الفارسي”: نعم لا حيلة في الرزق و لكن أيضا لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض.
“راغب”: واعجبا يا سيدي، إن أردت القعود أقمتني و إن ابتغيت القيام أقعدتني، و الله لقد أتعبتني.
“الفارسي”: بل لقد أتعبت نفسي في النصح لك، ألم أخبرك بقول أبي حفص رضي الله عنه: إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، فابحث عن أهل الحب و الزمهم عسى الله أن يرزقك معهم أو بهم أو منهم، أليس إذا صحب المريض الأطباء يؤمل له الشفاء؟
“راغب”: بلى.
“الفارسي”: فكذلك.
“راغب”: ما أحسب أهل الحب إلا كالخل الوفي.
“الفارسي”: دعك من دعاوى الشعراء، فلئن صدقوا في استحالة الغول و العنقاء فقد كذبوا في استحالة الأخلاء الأوفياء، ثم تلا (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
“راغب”: و قليل ما هم.
“الفارسي”: و لكنك لن تعدمهم.
“راغب”: فأين أجدهم؟
“الفارسي”: إن يتسع قلبك يقو بصرك.
“راغب”: العالم الذي أنقذ قاتل المائة نفس أرشده إلى أرض معينة يجد فيها الصالحين العابدين، فدلني على أرض العاشقين.
“الفارسي”: لم تعد الأمور تجري على هذا النحو في زماننا، ثم تبسم و أضاف: و ذاك كان أعلم أهل الأرض في زمانه و لست كذلك، و أنت لم تقتل بعد النفس الأولى فما بالك بالمائة؟
“راغب”: أخشى أن تقتلني هي.
“الفارسي”: دعني أقص عليك قصة أشهر عاشقين في تراثنا.
“راغب”: هات يا سيدي و كلي آذان صاغية.
“الفارسي”: كان يا ما كان، في قديم الزمان، و لا يحلو الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة و السلام.
“راغب”: عليه الصلاة و السلام.
“الفارسي”: سمع الأمير برويز بن هرمز ملك الفرس عن الأميرة شيرين أميرة أرمينيا فأحبها، فلما رآها غرق في عشقها، و قد بادلته عشقا بعشق، و كان الوزير بهرام يكيد الدسائس ليوقع بين الملك و ابنه، فلما مات الملك هرمز استولى على الملك و كاد أن يفتك بالأمير برويز، فهرب إلى أرمينيا و استسلم للأمر الواقع، و أقام في جوار حبيبته حتى جاءت الفرصة و طلبها للزواج، فاشترطت عليه أن يهزم بهرام و يستعيد ملك أبيه المسلوب ليكون خسرو (كسرى) برويز و ليس الأمير برويز، فانطلق إلى قيصر الروم يطلب منه المساعدة، فاشترط عليه القيصر شرطين، الأول ألا يتعد جنود الفرس حدود الدولة الرومية، و الثاني أن يزوجه ابنته مريم و ألا يتزوج غيرها في حياتها أبدا، فوافق برويز، فأمده القيصر بخمسين ألف مقاتل و انتصر على بهرام و أصبح خسرو برويز، فحزنت الأميرة شيرين حزنا بالغا و تنازلت عن العرش و اعتزلت الحياة و أقامت في قصر لها بالقرب من المدائن العاصمة، فلما علم خسرو بذلك حاول اقناع زوجته مريم بحبه لشيرين، فهددته بقتل نفسها إن اقترب من غريمتها، فلما أسقط في يده أرسل صديقا له لشيرين ليحتال له على وصالها في السر، فاعتبرت شيرين أن هذا الطلب إهانة لها، و فضلت كرامتها على حبها، ثم طلبت من هذا الصديق أن يساعدها في حفر نهر صغير بين قصرها و المراعي لتحصل على الألبان و ما تريد بيسر و بغير نصب، فأرسل لها مهندسا بارعا يدعى فرهارد للقيام بهذه المهمة، فلما رأي فرهارد شيرين وقع في حبها و غرق في عشقها، و لما علم خسرو بالأمر أكلت الغيرة قلبه، و حاول أن يصرف فرهارد عن شيرين بكل وسيلة من الترغيب و الترهيب فلم تنجح مساعيه، و دار بينهما هذا الحوار:
قال خسرو لِفرهاد: من أَينَ أَنتَ؟ أجاب: مِن مملكة العشّاق.
قال: ماذا يَعمل الرجال هناك؟ قال: يشترون الحُزنَ ويبيعون الأرواح.
قال: لَيسَ من العادة بيع الأرواح. قال: ليس هذا عجيبًا في تِلكَ الديار.
قال: ما هي علامة العشّاق؟ قال: يقدرون علی العيش في البلاء.
قال: أَمِنَ قلبك عَشِقتَ هكذا؟ قال: أنتَ تتحدث عن القلب أمّا أنا فأتحدث عن الروح.
قال: أليست الحياة حلوة؟ قال: ليسَت أحلی من شيرين.
قال: أتراها كلّ ليلة كما أراها؟ قال نَعَم. ولكن أين النوم؟
قال: ماذا سوف تَفعَل إذا دخلَت في قصرها؟ قال: سَوفَ ألقی رأسي تحتَ قَدَمَيها.
قال: وماذا إن مَرَّت عليكَ؟ قال: سوف أكنس بعيني طريقها.
قال: وماذا إن طَلَبت كُلّ ما تملك؟ قال: أتوسل إلی الله أن تطلب كلّ ما أملك.
قال: وماذا إن سَفَكَت دمك؟ قال: مادام تسفكه الحبيبة فهو حلال.
قال: وماذا إن طلب يَدَها شخصٌ آخر؟ قال: إذا كان هُوَ حديدًا فهذا هُوَ فأسي أيضًا من الحديد.
قال: وهل تبيع روحَك؟ قال: إذا ذهبت شيرين من قلبي، فما هي فائدة الروح.
قال: إلی مَتی تتحمل الآلام من حبّها؟ قال: ما حييتُ بل في الموتِ أيضًا.
قال: اذهب واصبر عنها. قال: أعن الروح أصبر؟
قال: ألا تخشى أحدًا في حبها؟ قال: لا أخشى إلا محنة فراقها.
فقال خسرو لنفسه: ليس هذا الرجل ممّن يعميه الذهب ويلينه المال. يجب أن نتخلص منه بطريق آخر.
قال الملك خسرو لفرهاد الفنّان: يوجَد جَبَلٌ في طريقنا يُسَمّی جَبَل بيستون ويجب شقّ طريق وسط ذلك الجبل يليق بذهابنا وإيابنا. ليس في متناولِ أيدي العقلاء تنفيذ هذه المُهمّة؛ أَمّا أنت، أيّها العاشق المجنون، فتستطيع أن تفعل ذلك. ولا يبقی بينك وبين شيرين إلّا ذلك الجبل.
فاستفسر فرهاد عن موضع ذلك الجبل وأرشَدَهُ المُرشدون إلی جبل بيستون. في البداية، نحت فرهاد بفأسه تمثال شيرين وكانت تزداد قوته كلّما ذكر اسم حبيبته أو نظر إلی تمثالها وكان يحرق الصخور من الضحى حتّی الليل بضربات فأسه وبآهات قلبه.
فوصل الخبر إلی خسرو بأنَّ فرهاد ازدادت قوة يده فصار يزلزل الجبالَ بضربات فأسه ولو أنَّهُ يستمرّ هكذا لن تأخذ إزالة جبل بيستون وقتًا طويلًا. فَقال ندماء خسرو لَهُ: ابعث إليه في الحال من ينبئه بموت شيرين. فإن مات نكون قَد وصلنا إلی مُرادنا وإن لَم يمت نكيد له أخری.
و كانَ للملك حارسٌ فَطَلَب الملك منه أن يسرع إلی فرهاد و يخبره بموت شيرين. فأسرع نحو فرهاد المسكين وقال لَهُ: أيّها الشاب العزيز! لماذا تضيع وقتك في حفر الجبل عبثًا علی هذا النحو؟
فأجاب فرهاد: إنّي أعمل هذا لأجل جميلة تُسَمّی شيرين
قال الحارس: أيّها المسكين! لَقَد مضی علی موت شيرين أكثر من أسبوع؛ لا تكلف نفسك عناء المشقة أكثر من ذلك.
عندما سمع فرهاد هذا الكلام، ضرب رأسه علی الحجر حتّی ظهر من الصخر نهرٌ من الدماء.
فَخَرّ بين التراب و الدم قائلًا: ماذا صَنَعتَ بي، أَيُّها الرجل؟ إنّكَ قَتَلتَني بالآلام، كنتُ أودّ أن أموت تحت قَدَمَيها؛ لا أن تموت هي وأظلّ أنا حيًا. والآن، وهي مدفونة تحت التراب، فما هي فائدة حياتي؟ ليسَ من علامات المحبّ أن يبقی حيًّا بَعَد موت حبيبه. أيّتها الريح! اخلطي ترابي بترابها وامزجي دمي بدمها لتمتزج روحي بروحها. سوفَ أغادر هذه الدنيا كما غادَرَتها شيرين فَلَيسَ بيني و بينَ الموت سوی نفس واحد. قال فرهاد هذه الكلمات وأوقَعَ نفسه من قمة جبل بيستون وفاضت روحُهُ.
حَمَلوا الخبر إلی شيرين بأنَّ الملك قد سفك دم فرهاد حافر الجبل. فأسرعت شيرين حافيةً إلی جبل بيستون لتبكي شهيدها بنواح وجزع. واقتربت من جَسَده فَغَسَلت بدموع عينيها الحجر من دمه. ثُمَّ أَمَرَت خدمها فَغَسَلوه وكَفَنوه ودفنوه.
سكت "الفارسي" برهة، و لمح "راغب" دمعة تفر من جفنيه في صمت، فانتظر قليلا ثم غلبه شوقه إلى المعرفة فقال: ثم ماذا يا سيدي؟
“الفارسي”: ثم مرت الأعوام و الشهور، و ماتت مريم زوجة خسرو، و بالغ خسرو في الاعتذار لشيرين و ترضيها حتى رضيت، و اجتمع العاشقان بعدما ظنا ألا تلاقي، و تزوج خسرو بشيرين، لكن شيرويه ابن خسرو من مريم لم يرض، و ظن أن أبيه قد تآمر مع شيرين على قتل أمه، فبدأ يكيد لوالده كيدا، و كان خسرو قد زهد في الملك بعدما وجد الحبيب، فتنازل عن العرش لابنه، لكن الابن الحقود لم يكتف بذلك فأمر بسجن أبيه و زوجته، و رضي خسرو بالسجن في جوار الحبيب، و كان يقول لزوجته: لَقَد فقدتُ كُلّ شيء ومَعَ ذلك أشعر بالسعادة لقربك منّي، و أجد هذا السجن المظلم أوسع في عينيّ من ذلك القصر، فإن خلّت يداي من الدولة، فأنتِ في يدي؛ وما دمتِ مَعي، فكأنني أملك کُلّ شيء.
“راغب”: و هكذا انتهت القصة؟
“الفارسي”: لا. فالابن الحقود شعر أن انتقامه لم يجد نفعا، فالعاشقان القاتلان لا يزالا سعيدين، فقرر أن يضرب الضربة القاضية:
ذات يوم، كان شیرويه يمشي في الأسواق؛ فرأى رجلًا حافيًا جائعًا فأحضره وقال لَهُ: سوف أغنيك وأشبعك، وفي المقابل، أريد منك أن تقتل رجلًا حيث لا يراك أحد.
فَدَخَل ذلك الرجل الحافي السجنَ ووجدَ خسرو وشيرين نائمين علی الأرض؛ فَوَضَعَ نصل خنجره في كبد خسرو كما أمره شيرويه وفَرَّ من ذلك السجن. و لَمّا فَتَحَ خسرو عينيه، وَجَدَ کبده ممزّقًا وعلم أنّه سيموت بعد دقائق وكان الدم ينهمر من جسده كالنهر، فنظر خسرو نظرة إلی شيرين ورآها مستغرقة في نومها وكأنّها تحلم حلمًا عميقًا، فقال خسرو لنفسه: (إنَّ هذه الرحيمة لم تنم منذ ليالي؛ وحينما تستيقظ من نومها وتراني هكذا قد لا تنام ليلة أخری، فمن الخير أن أسكت وألا أوقظها بأنيني وآهاتي)، فعض خسرو على شفته السفلى بأسنانه حتى انطفأت شمعة حياته.
و حينما استيقظت شيرين ورأت تلك الدماء علی جسد زوجها، فقدت وعيها وبكت كثيرًا وأخذت تسكب الدموع علی الدماء.
وبعد عدّة أيّام، كتب شيرويه رسالة إلی شيرين قال فيها:
أنني أحبك كثيرًا وأنتِ مقصودي في هذه الحياة ومرادي. عندما ينقضي هذا الأسبوع، سأجعلك وردة في بستاني.
عندما قرأت شيرين هذه الرسالة القصيرة اضطربت نفسها، لكنها استعادت رباط جأشها و قالت لرسول الملك:
إنَّ الملك شيرويه يرغب في الزواج منّي، فأَخبِرهُ أَيّها الرسول، بأنني موافقة علی هذا الزواج. ولكنني أطلب من الملك ثلاثة أشياء، فإن استطاع الملك تحقيق هذه المطالب، سيجدني إن شاء الله مطيعة لأوامره.
الحاجة الأولى: أطلب من الملك أن يطلق سراحي وأن يسمح لي بالرجوع إلی غرفتي في القصر، وأمّا الحاجة الثانية فهي إرجاع كلّ ما كان لي من صامت وناطق، و أمّا الثالثة فأطلب منه أن يسمح لي بزيارة قبر خسرو وأن أحضر مراسيم جنازته.
فَلَمّا سمع شيرويه هذه الكلمات، سُرَّ كثيرًا وأَمَر بقضاء تلك الحاجات علی الفور. فأمر بإطلاق سراح شيرين وبتسليم مالها إليها وسمح لها أيضًا بزيارة قبر خسرو.
فَرَجَعت شيرين إلی القصر وتصدّقت بأموالها علی الفقراء والمحتاجين. ثُمَّ جَلَسَت أمام المرآة، وكحلت عينيها، وخضبت شعرها وكفّيها بالحناء، ووضعت في يديها سوارين من ذهب، ولبست أجمل ثيابها ؛ وخرجت إلی قبر خسرو كأنّها عروس في ليلة زفافها.
وكان النّاس يزعمون أنّ شيرين ليست حزينة لموت خسرو، لأنّها كانت تلبس رداءً أحمر وخمارًا أصفر وكانت تمشي خلف النعش في حبور.
وحينَما وُضِعَ جثمان خسرو في ضريح، توجهت شيرين نحو الضريح وغلّقت الأبواب ومنعت الآخرين من الدخول، ثُمَّ أخذت خنجرًا وطعنت نفسها؛ ثم ضمّت زوجها بين أحضانها ووضعت شفتيها علی شفتيه وقالت:
لقد لحقت الروح بالروح
واتصّل الجسد بالجسد
فتخلّص الجسد من ألم الفراق
وتخلصت الروح من الإثم
وكانت تلك الكلمات كلماتها الأخيرة.
“راغب”: قبل أن تقص لي هذه القصة يا سيدي كنت تحدثني عن صحبة المحبين، و بعد ما سمعت هذه القصة علمت أنهم بين قاتل لنفسه و مقتول، فكيف أصحب مثل هؤلاء؟
“الفارسي”: و هل يمنع الموت الصحبة؟
“راغب”: إن لم يحل الموت بين المحبين فلا شيء سيحول بينهم.
“الفارسي”: لا يحول بين العاشقين إلا تقلبات قلوبهم.
“راغب”: أبعد أن يجد المحب حبيبه، و تذوب القلوب عشقا، يمكن أن تتقلب؟
“الفارسي”: لا يأمن مكر الحب إلا غير العاشقين.
“راغب”: و من هذا الباب أوتي خسرو حين وافق على شرط القيصر و تزوج ابنته؟
“الفارسي”: إن تعارض الحب مع المُلك فتنة عظيمة و امتحان عسير.
“راغب”: ما ظننت أن يقبل هذا الشرط.
“الفارسي”: لا تنس أنه كان ينفذ شرط محبوبته، ولا تنس أن إرادة الملك هي التي أخرجت أبانا آدم عليه السلام من الجنة – (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى)- و قديما قال العارفون: آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة، فما بالك بقلوب الملوك؟
“راغب”: أراك تلتمس العذر له.
“الفارسي”: لا ألتمس العذر له، و لا أدينه، إنما أضع لك الأمور في نصابها.
“راغب”: و ما النصاب الذي تضع فيه قتل خسرو لفرهارد؟
“الفارسي”: الغيرة... و ما أدراك ما الغيرة؟ أعنف جنود الحب و أقساها.
“راغب”: أتراها مسوغا للقتل؟
“الفارسي”: لا يسوغ سفك الدم الحرام شيء، لكن خسرو لم يقتل فرهارد، إنما قتل فرهارد نفسه.
“راغب”: ألم يكن سببا مباشرا في قتله؟
“الفارسي”: أتراه لو قدم للمحاكمة، أكان القاضي يحكم بالقصاص؟
“راغب”: لا احتمل تبرئته من الذنب.
“الفارسي”: و من قال إن المحبين لا يذنبون، لكن لا تنظر إلى الذنب فقط إن أردت تكون منصفا، يجدر بك أيضا أن تنظر إلى الدافع، و إلى قدرة الشخص على احتمال هذا الدافع، تعرف قصة الرجل الذي ضلت عنه راحلته في الفلاة ثم وجدها بعدما أيقن بالهلاك، فقال: اللهم أنت عبدي و أنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، لو نظرت إلى الذنب و حسب لكان ما قاله كفرا.
“راغب”: فأيهما أعظم ذنبا، فرهارد الذي قتل نفسه، أم خسرو الذي احتال على قتله؟
“الفارسي”: إذا كان خسرو قد أذنب، ففرهارد لم يذنب.
“راغب”: ألا ترى الانتحار ذنبا؟
“الفارسي”: إن كان المنتحر عاقلا، أما إن كان مجنونا فقد رفع القلم عنه، و فرهارد لا شك أن جنونه قد فاق جنون مجنون ليلى.
“راغب”: و كذلك ترى شيرين حين قتلت نفسها؟
“الفارسي”: لا. مع شيرين الأمر يختلف، فقد وضعت خطتها و أحكمتها و نفذتها ، و رغم عشقها تلحظ أنها أبدا لم تتنازل عن عقلها، فعندما طلبها خسرو للزواج في المرة الأولى اشترطت عليه أن يستعيد ملك أبيه، و عندما أرسل لها يسألها الوصال سرا رفضت صونا لكرامتها، و عندما استيقظت و رأته مقتولا ذرفت دمعها لكن لم تنحر نفسها.
"راغب": أجل يبدو أن العشق يذهب بعقول الرجال فقط، و مجانين ليلى و أخواتها قد سودوا الكثير من صفحات التاريخ، بينما كانت صفحات مجنونات قيس و أقرانه ناصعة البياض، بل حتى زليخة كان كيدها ليوسف عليه السلام أعظم من عشقها له.
"الفارسي": كأنك تظن أن أثر العشق على الرجال أشد منه على النساء، أليس كذلك؟
"راغب": بلى. أعظم أثرا، و أشد فتكا.
"الفارسي": لا أظن هذا.
"راغب": فما ظنك إذاً؟
"الفارسي": المسألة ليست في اختلاف الأثر و إنما في القدرة على الاحتمال، فالعشق هو العشق، لكن النساء أقدر على تحمله من الرجال.
"راغب": و ما أمارة ذلك عندك يا سيدي؟
"الفارسي": ألا ترى حب الأم لأولادها و قدرتها على البذل لهم و الاحتمال منهم؟ أيحتمل الآباء ذلك؟
"راغب": اللهم لا.
"الفارسي": فكذلك. ثم أضاف بعد برهة: الحب عاطفة و العاطفة مملكة النساء.
"راغب": فلما قتلت شيرين نفسها إذاً؟
"الفارسي": اختيارا لا اضطرارا، فقد فضلت الموت بجوار الحبيب على الحياة في جوار العدو.
"راغب": يا له من اختيار. قالها ثم دخل في صمت عميق.
أخذ "الفارسي" ينقل بصره بين "راغب" الغارق في صمته و بين مشهد الغروب الذي بدأ يرسم على الأفق خطوطه، و بعد دقائق من التأمل، قال: هل اكتفيت؟
نظر "راغب" الإشارة إلى الأفق ثم قال: قد أذنت الشمس بالمغيب، و أحسب أنه قد حان الرحيل، لكن أصدقك القول أنني ما اكتفيت و لا ارتويت.
"الفارسي": لكل امرئ من اسمه نصيب، فإلى أين المسير؟
"راغب": ليتك تُنير لي السبيل.
"الفارسي": طالما جئت أرض فارس، فعليك بأرض الروم.
* * *