سأسرقُ فكرةَ جاك بريفير، الشاعرِ الفرنسي. يعلُّمنا بريفير في قصيدة جميلة كيف نرسمُ عصفورا: أولا نرسمُ قفصًا ونترك بابه مفتوحا. ثم نرسم داخل القفص شيئا يحبّه العصفور. شيئا حلوا وبسيطا ونافعا للعصفور. ونعلّق اللوحةَ على شجرة. ثم نختبئ خلف الشجرة صامتين دون حراك. ننتظر. يوما، أسبوعا، أسابيعَ، سنواتٍ. سيجيء العصفورُ يوما ما. حتما سيجيء. وحالما يدخل القفصَ نخرجُ من مخبئنا ونرسم بهدوء بابَ القفص، قضيبا فقضيبا. محاذرين أن نمسَّ الطائرَ بريشتنا. نغلقُ الباب. نرسمُ شجرةً. ونتخيّر أجملَ أغصانها ليتدلى منها القفص. نرسمُ أيضا أوراقا خضراءَ وأشعةَ شمسٍ كي يفرحَ العصفور. إن لم يصدحِ العصفورُ فتلك علامةٌ على إخفاق اللوحة. وإن غرّد وزقزقَ فاللوحةُ ناجحة. وقتها فقط نقدرُ أن ننزعَ ريشةً من جناح العصفور، ونوقّع باسمنا في ركن اللوحة السفليّ.
ولأنني لست جاك بريفير فلن أرسمَ عصفورا. العصفورُ صعبٌ جدا! لأن ريشَه ملوّن. ولأنه حرٌّ. ولأنه يطير. لا أعرف أن أرسمَ شيئا يطير. ريشةُ الله وحدها تقدر. أو خيال بريفير. أقدرُ أن أرسمَ بالأبيض والأسود شيئا يمشي على الأرض. شيئا جميلا وشاحبا كان يحلمُ أن يكون عصفورا وأخفق. لم يقدر أن يطيرَ ويزقزق كعصفور. ولم يقدرْ أن يسعى ويحكي كإنسان. وقف على الخط المتأرجح بين الطيران وبين السعي. بين الزقزقة وبين الكلام. سأرسمُ طفلا نحيلا أسمرَ صامتا. وأسميه عُمَر. جميلٌ لكن لا يتكلم. شعره أسودُ فاحمٌ. وفي عينيه السوداوين العميقتين تمرّدٌ ورفضٌ للعالم. لم يكبر بما يكفي ليدركَ أن العالمَ بالفعل يستحقُّ أن يُتجنَّب. لكن حدسَ الفنان داخله أخبره. هل أخبرتكم أنه فنان؟ سأرسمه وهو ينتحي مكانا قصيًّا من غرفته، جوار النافذة التي أمامها شجرةٌ وفوقها بلبلٌ يغرّد ثلاثَ مرات في اليوم. ينتزعُ من مكتب أمّه رزمةَ أوراقٍ بيضاءَ ويفتح علبة الألوان. في لوحاته رسالةٌ تتكرر. تنينٌ ضخم يُطلق من لسانه لهبا. وفي الركن السفلي إنسانٌ خائف جدا ووحيد. يرتعد. إنسان قزمٌ. شعاعُ هلعٍ يمتد من عينيه حتى لسان التنين. لن أقدر أن أرسم لوحتَه في لوحتي. فأنا لستُ فنانة مثل عمر. الجميلُ المتوّحدُ المكتفي بريشته عن العالم. لكن سأرسمُ في أقصى اللوحة سيدةً عجوزًا حزنٌ في عينيها. أرسمها وهي تنحني أمام طبيبة الأطفال تقبّل يدها وتقول: هل تشفين عمر؟ فتجيب الطبيبة: عمر مش مريض، ده متوّحد. وكمان فنان. هي على الأرجح جَدة الطفل. أما أمُّه فلن تظهر في لوحتي. لأنها الآن تتوارى في غرفتها. فوق سريرها كتبٌ كثيرة عن أمراض الطفولة والتوحّد وتأخر البناء اللغوي. ومواقف النفري. ونبي جبران. وغريب كامي. وكثيرٌ من المناديل الورقية. هي تعرف أنها لم تتسبب في صمت عمر الأبدي. وتعلمُ أنها أنفقت سبعَ سنوات تقرأ وتقرأ، كي تنجح فيما أخفق الأطباءُ فيه. لم تقرأ صحيفةً ولم تطالع كتابا إلا إذا حمل شيئا عن الأوتيزم. مرّت حروبٌ واشتعل العالم لكنها لم تفتح تليفزيون ولا مذياعًا ولا صحيفة لتعرف لماذا تتحارب الشعوب؟ وكيف يقتلون الأطفال؟ فكل حرف يدخل عينيها في غير التوحد خيانةٌ لعمر. وحين يغدو عمر صبيًّا وسيما وصامتا، تكون قد سلّمت بيأسها وكفّت عن البكاء. فتحوله إلى أيقونة جَمال وشِعر وعذوبة. تتأمل رفضَه العالمَ وتحاول أن تقلّده. تقلد صمتَه. وتشرنقه. تقلد رفضَه الزحامَ والتزاحم. لأن في رفضه نبالةً. وفي صمتِه صخبُ مجرّةٍ بأسرِها!