هل تخيّلتَ نفسَك مرّةً ثمرة طماطم، أو عنزةً، أو فقّاعةَ صابون، أو صورةً تحت لوحٍ بلوريّ فوق سطح مكتب كاهن، أو حتى قارورةً تحوي عنصرًا كيميائيًّا فوق رفّ مختبر؟ الشاعر يفعل ذلك وأكثر. وربما لهذا السبب قال جورج برنارد شو: "أنت ترى الأشياءَ وتسألُ: لمَ؟، بينما أنا أحلمُ بأشياءَ لم تكن أبدا وأقول: ولمَ لا؟"
جو شابكوت شاعرة إنجليزية تحتفي بالموجودات غير العاقلة وغير الحيّة إلى درجة أن تبثّها من روحها. تتقمّص مرةً كيانَ ثمرةٍ تقبع في ركن الثلاجة تعاني الصقيعَ وتنتظر بلهفة أن يفتح حبيبُها الدرج السفليّ حيث ترتعد بردًا، لكي يختارَها، دون كل الثمرات الأخر، ويقضمها فتتدفأ بلعابه وتذوب داخل عصاراته الهاضمة. تتحلّل داخل جسده، لكنها، فيما تموت كثمرة، تتعلم صيغةً جديدة للحياة. "أحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتَها/ يتسربُ الأكسجينُ القاتلُ إلى عٌمقي/ فيما يتسللُ الماءُ بعيدًا/ والخَدَرْ./ الخَدَرُ يزحفُ شيئًا فشيئًا/ نحو قلبي/ هنا، بقاعِ الثلاجةِ/ حيثُ الصمتْ./ فقط أنا/ مع خَسَّةٍ مُتَعَرِّجةٍ ونِصْفِ بَصَلةٍ/ ينفتحُ بابُ الثلاجةِ مراتٍ عديدةً خلال اليوم/ لكنَّه/أبدًا لا يَفتحُ دُرْجَ الخُضَرِ/ هنا/ حيث أقبعُ في ركني/منكمشةً على عزلتي/....../ لكنْ/سرعان ما أشعرُ بالدِّفءِ مجددا/حينَ أفكرُّ فيه/أذوبُ مع لُعابِه/أمرُّ على حلقِه/ثمَّ تهضِمُي خلاياه/حينئذٍ/ أتعلَّمُ خلالَ ذوباني/صيغةً جديدةً للحياة/أتغضَّنُ/أذبلُ و أموتُ/ثمَّ/أتفتحُ من جديدٍ على الحُّبِّ". ومرّةً هي عنزةٌ ترعى في مرج وتلتهم كل ما يقابلها من مبانٍ وجسور وعشب وبشر. "الغسقُ/ وطريقٌ صحراويٌّ/ وفجأةً/ غدوتُ عَنزةً./ للأمانةِ/ استغرقَ الأمرُ دقيقتين/ حتى ينبثقَ القرنانِ من جُمْجُمَتي،/ حتى يتمردَ عموديَّ الِفقَريُّ/ ثم يستقرَ على نحوٍ أفقي/ حتى تلتصقَ أصابعي هكذا/ وتتخذَ أظافري طريقَها نحوَ التطَّورِ/ فتغدو حوافرَ." ومرةً تتخيل نفسها قطرةَ ماء تسقط فوق صفحة بحيرة فتجتهدُ أن تحافظ على توترّها السطحي المحيط بجسدها المائي كيلا تذوب وسط الماء من حولها. ومرةً هي راعية أغنام ترعى قطيعها الذي سوف يتسلل إلى بيت حبيبها ثم يدخل عليه الحمام فيما هو مستلق في البانيو فيشرع القطيع في قرض أظفار قدميه. ومرة تهبُ قواريرَ متراصة فوق رف أحد المختبرات روحا فتجعلها تتأمل مشهد حب بين رجل وامرأة يعملان في المختبر كتقنييْ كيمياء. يفتنُها المشهدُ فتغمز لهما متواطئةً مع قصة الحب الوليدة. "عند الفجر/ غمزتْ صفوفُ القوارير/للزوجين المنهكيْن/ الواقفيْن جوار صوان الدخان".
وفضلا عن التيمة الفنية التي تنهجها شابكوت من خلال "أنسنة" الموجودات والجماد والحيوانات ما يجعل عالمها ثريا واسعًا غير منغلق على البشر وحسب، إلا أن وراء هذه التيمة دلالاتٍ فلسفيةً، وربما سياسية، أعمقَ من أن نمرّ عليها مستمتعين، وحسب، بطاقة الشعر الخبيئة داخل هذا اللون من الشعرية. تذهبُ النظريات الفلسفية، بل والفيزيقية أيضا، إلى أن كلَّ شيء في هذا العالم يحمل طاقةً كامنة Potential Energy. وهي طاقة مخبئة داخل جزيئات المادة بالقوة وليس بالفعل، حسب التعبير الفلسفي. وذهبت بعض شطحات الخيال الإبداعيّ والفلسفيّ إلى أن هذه الطاقة بوسعها أن تجعل الجماد يشعر ويتألم ويحب بل ويغار. ولعلنا نذكر المسلسل الأمريكي الشهير "العربة الطائشة" حيث السيارة الصغيرة العتيقة "هيربي" ماركة فولكس فاجن تغار على مالكها حين فكّر أن يستبدل بها سيارةً جديدة حمراء. فراحت هيربي تنتقم من الغريمة الفاتنة حتى حطّمتها. وفضلا عن الخيال الشعري الجامح في قصائد شابكوت، بوسعنا أن نضع أيدينا على دلالات سوسيو-سياسية حين نتساءل هل قطرة الماء التي تقاوم الذوبان في الماء لها علاقة ما بالعولمة، لو اعتمدنا الرمزية في التأويل؟ وما هي طبيعة هذه العنزة التي تلتهم الكون والبشر؟ هل هي القوة الأولى المهيمنة على العالم؟ أم غول الصناعة الذي طغى على روح الوجود؟ أم هي مجرد عنزة مشاغبة ترعى في براءة وتلهو بما يصادفها؟