إذا نظرنا إلى واقع المسلمين في العهد النبوي نجدُ أنَّ الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا في حالة ثباتٍ دائم على المبادئ السامية التي مِن أجلها قطعوا الوشائجَ مع الأقارب, والأصدقاء, والحلفاء الذين لم يدخلوا في الإسلام, ونجد أنَّ الانتصار المادي لا يبطرهم ولا يطغيهم, وأن الإصابات الماديةَ لا تضعفهم, ولا تحطم معْنوياتهم, وأنَّ حماسهم في الدفاع عن الإسلام ثابت على قوته؛ لأنَّ الإسلام دينٌ عظيم, ولا يفدي العظيم إلا بالعظيم, ولا أعظم من أن يجودَ الإنسان بدمه فداء لدينه, فلذلك كان استشهادُ هؤلاء العظماء نصرًا عظيمًا للإسلام, فتعالَ أيها العاشق لحياة الشهداء لنتعرَّف على شهيدٍ جديدٍ من جيل السماء, إنه بطلُ بني مخزوم سلمة بن هشام رضي الله عنه.
لمّا صدع رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الإسلام هاجتْ قريش وماجت, واشتدت في مُعاداتها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, أمّا رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- فقد لاقى من إيذائهم أنواعًا كثيرة, وأمّا أصحابه- رضي الله عنهم- فقد تجرَّع كل منهم ألوانًا من العذاب, حتى ماتَ منهم مَن مات تحت العذاب الرهيب, وعمي من عمي, ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئًا.
وكان سلمة- رضي الله عنه- مِن الذين صبروا على العذاب, ولما هاجر المسلمين إلى أرض الحبشة فرَّ من سجنه من دارِ أخيه أبي جهل, وكان في طليعة المهاجرين لكنه لم يلبثْ إلا قليلًا حتَّى عاد إلى مكة فحبسَه أبو جهل مرَّة أخرى وضربَه وأجاعَه وأعطشه, وظلَّ سلمة بن هشام- رضي الله عنه- في ظلامِ الحبس وقتًا طويلًا, حيث حالَ قومه بينه وبين الهجرة مع المسلمين إلى المدينة, وكان رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- يدْعو له في صلاته ولغيره من المستضعفين فيقول: اللهم أنجِ عياشَ بن أبي ربيعة, اللهم أنجِ سلمة بن هشام, اللهم أنجِ الوليد بن الوليد, اللهم أنجِ|ِ المستضعفين من المؤمنين.
لقد صبرَ سلمة بن هشام على إيذاء هؤلاء السفهاء وقدْ حاولوا بكلِّ وسيلة أن يردعوه عن دينه فمَا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا, وأغْروه بكثيرٍ من المغريات فأبى واستعصم, وذكروه القرابة وحقَّ العشيرة, وكرامة القبيلة فآثرَ على ذلك إخوةَ الإيمان, ثمَّ هيأ الله تعالى له فرصة الإفلات من الحبس والخلاص من أيدي هؤلاء المجرمين بعدَ سنوات من الأسر, فسارع رضي الله عنه بالهجرةِ إلى الحبيب- صلى الله عليه وسلم- في المدينة, وكان ذلك بعد غزوة الخندق.
بعدَ أن هاجرَ سلمة بن هشام- رضي الله عنه- إلى المدينة بعدَ سنوات الأسر في مكة, لم تكن هجرتُه للراحة أو ليأكلَ ويشرب, أو ليلهو ويلعب؛ بل ليحملَ السلاح مجاهدًا في سبيل الله عزَّ وجل, ولمّا جاءت غزوةُ مؤتة في الثامنة للهجرة, وهي غزوةُ القوّاد الثلاثة الذين تساقطوا تباعًا شهيدًا وراء شهيد؛ زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم, ذاقَ سلمة بن هشام ما ذاقَه رفاقُه في هذه المعركة من متاعبَ وأهوال, ثمَّ عاد مع البقية التي رجعتْ إلى المدينة لا ليميلَ إلى الراحة والدعة بل ليواصل الجهاد.
وظلَّ سلمة على عهده ذلك لم يتأخرْ عن غزوة مع الرسول القائد صلى الله عليه وسلم, حتى لحق رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- بربِّه تبارك وتعالى فخرَج مجاهدًا إلى الشام, حين وجه الصديق أبو بكر- رضي الله عنه- جيشَ الإسلام إلى الشام ليطهِّر الأرضَ العربية من طغاتها وبغاتها الرومان الدُّخلاء عليها.
وشهدَ سلمة معركةَ أجنادين الأولى التي كانت في بداية العام الثالثة عشرة للهجرة, وانتهت بانتصار المسلمين على الروم, وبعد أن لقيَ سلمة في أجنادين ما لقيَ من آلام, عاد بعد شهور واشتركَ في معركة مرج الصفر, وقد قاتل البطلُ سلمة بن هشام في هذه الموقعة قتالًا مجيدًا, وصبرَ فيها صبرًا حميدًا, وأراد اللهُ له ما عنده, وما عندَ الله خير للأبرار, فاختار له نعمة الشهادة بعد أنْ قاتل قتالَ الأبطال المغاوير, وكان عاملًا حاسمًا في المعركة ومضى يفني في جموع الروم حتى سقطَ صريعًا على أرض المعركة.
سنن النسائي الكبرى ** المسند للإمام أحمد بن حنبل الشيباني ** المستدرك على الصحيحين ** تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ** فتوح الشام للأزدي ** البداية والنهاية ** مختصر تاريخ ابن عساكر ** الطبقات الكبرى لابن سعد ** تاريخ الإسلام ووفيات والمشاهير ** الإصابة في تمييز الصحابة ** بغية الطلب في أخبار حلب ** إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ** السيرة النبوية لابن هشام ** غربال الزمان في وفيات الأعيان ** فتوح البلدان للبلاذري ** تاريخ الأمم والملوك.