شوادي
شكرتُ ذلك الطيب ودعوتُ له أمتنانًا أن أوصلني إلى وجهتي(أي وجهة)؟
الحقيقة لا أدري، فمنذ وفاة والداي مطلع هذا العام وأنا اسير في بلاد الله بلا وجهه، شهران بالمنيا مع الشيخ "عطية" تعلمتُ فيهما العلاج القرآن الكريم وكنتُ مريدًا له، وأورثني من علمه قبسًا، سفر وترحال بعد ذلك لأسيوط حيث قابلت أحد الصالحين سيدنا الشيخ "عبيد الجعفري" من آل البيت، وتعلمتُ منه ومعه أجزاء من القرآن الكريم، وكذلك أدلفني لعالم السحر والسعي إلى استخراج الآثار (*) مقابر فرعونية خاوية، وآخرى منهوبة وأحيانًا بقايا تسد رمق جوعي للمال .
وناحت الأيام وطالت حيث كنتُ بين علوم القرآن وعلوم السعي نحو "رصد" المقابر والتجسد بهيكلي على أمل إخراج "اللقايا" والآثار.
والآن أنا على مشارف "نجع حمادي" أعبر بعد المسير ترعة شُقتْ؛ لتُرْوَى بها الأراضي والمزروعات، عبرتها متخطيًا "نجع هِو" ولا تسألني عن سبب تسمية هذا النجع بهذا الاسم، فبعض الأسماء لا أسباب لها تماماً كأسمى "شوادي الغلبان" رغم أنني كنتُ ذا يسر ولم أكن من ممتدي اليد سألاً الناس الحاجة، لكنها سنة الناس أن يطلقوا الأسماء على الأشخاص والأماكن. وربما على فتات الرمل أسفل أقدامهم. تعبتُ من المسير حسنًا؛ لأوي إلى هذه الشجرة استظل بظلها، مخرجًا أوراقي شارعًا في الكتابة كما أعتدتُ في ترحالي هذا.
(شوادي رفيق) الابن الوحيد للست (نحمدوه) والشيخ (رفيق)ولدتُ لأموت هكذا قيل عني فلم أولد بيُسر، ولدتُ بعد معاناة في ليلة أحمر القمر فبات دمًا.
جاءتْ على بغلتها القابلة(*) وكانت تُدعى "شوقية" وشرعتْ تخلص رحم أمي مني واضطرت للنواح واللطم كدأب بلدتنا كلَّما تعثر الجنين في أمر ولادته كأنَّهُ ردعٌ للشؤم بالاحتفال به.
خرجتُ سليمًا، ولدتُ وكنتُ هزيلَ الجسد، فلم أكتسب وزنًا حتى سن السابعة. مرَّت أشهر من عمري كان اسمي فيهن "الملكوم" حتى لا أموت، وكما هي عادة القرى أن يسمي الطفل اسمًا يدعو للموت حتى يتحاشاه الموت، وبعدها اكتسبت اسمي "شوادي" بعد مباركة تلك الأشهر من عمري ومرورها.
حبوتُ في الثالثة من عمري أزحف على أربع أتأمل القرية وأهلها، وأنطقتُ بضع كلمات وفي الخامسة خطوت أول خطواتي.
كان والداي كهلان؛ والدي ذو الستين ربيعًا وأمي تخطو مبحرة في الخمسين من عمرها شاء الله بعد عُقرًا دام أكثر من ثلاثين عامًا أن تحمل بي أمي في الخمسين من عمرها.
معجزة !!!
أحقاً تظنها كذلك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الداية أو الولادة
كانت أمي ذات أثداء هزيلة شحيحة اللبن، فكنتُ أرضع من نساء البلدة جميعًا حتى إنَّني حُرمتُ على كل بنات البلدة، أذكرُ أن لي أخًا في الرضاعة كانت أمه تُدعى"شريفة" كان نهم بالرضاعة واستمر بالرضاعة من ثديها حتى تجاوز السابعة من عمره حتى نبُض ثدياها.
يقولون في هذه البلدة التي لا أود ذكر أسمها أن "ولدت الشيبة يتيم" لعل هذا سبب تسميتي بالغلبان؛ لأنني قريبًا أكون يتيمًا.
أتممتُ من عمري السابعة عشر، حين أشتد قيظ الشمس وجفتْ القرية، حين ثارت العقارب على ديارنا، فما إن انتهت الشمس من أمرها نهارًا وتعاقب الليل على النهار حتى اهتاجت الرياح في ليلة قمرية صيفية تتغلفها الرطوبة؛ لتثور العقارب أعقاب الأبواب في بلدتنا عالية، وكان الحصير هو سرير نومنا.
سهل عقب بابنا المرتفع دلوف عددًا لا بأس به من العقارب السوداء محملة بسمِّها الآسن وكانت ليلة الخميس، يُقال إن العقارب تفرغ سمومها حينها، كان والداي نائمين على حُصر(فراش) من الخوص قد احتوى جسدهما حين هوتْ العقارب بذيولها تلسعهم في دناءةٍ معهودةٍ منها، صرخًا ورُددتْ السماء صرخاتهما، لم تكن صرخاتهما فقط ليلتها حتى بدى، وكأنه يوم الصراخ الأعظم.
هرولنا إلى الشيخ "فرحات" ليحوي والداي ويُذهب عنهم سم هذه الكائنات المقيتة، مُمددًا جسدا والداي وإلى جوارهما أجساد أخرى، لم يهمني يومها أن أتبين كنههم، أعين تزوغ، وأعين غشيت، وأعين ارتحلت إلى عالم الموتى، شفاه مرتجفة كانتْ شفاه والداي لكنها الروح فاضتْ لخالقها (عز وجل) قبل أن يتفحصهما الشيخ "فرحات".
ماتَ والداي ومعهم اثنا عشر كهلاً وطفلاً رضيع، وكان لجنازتهما الوقار العظيم والحزن المخيم على تلك البلدة امتنانًا لفضلهما على قومها.
*****
وهكذا كنتُ أُعَامَلُ كاليتيم وفي هذه السن بت لقيطًا، أرى الشفقة في أعين قاطني هذه البلدة، تارةً يتسابقون الاهتمام بي وتارةً أكون ضيف أفراحهم، لكن كيف أصبرُ على هذه الحياة وهذا المُقت الذي لا اُطيقه ولا أحبذه!
وكنتُ تلقيتُ من تعليمي يُسرًا على يد والدي، ومن بعده على يد أحد الشيوخ الأجلاء في هذه البلدة.
وفي إحدى الأيام حسمتُ أمري، وصررتُ ملابسي بصُرة وربطتها في عصاي وحملتها خلف ظهري على كتفي، أنتظر الجزء الأخير من الليل؛ لأغلق باب بيت والداي وأهمُ الرحيل على كل البلاد حتى هذه البقعة. والآن وجهتي شيخّا اسمه الشيخ "عبد الرسول" ، شيخ وإمام جامع هذا النجع "نجع فضلون" ولا أدري من فضلون هذا لكن كما قولتُ كعادة بلادنا لا سبب للأسماء سوى تمييز هذه البلاد.
*****
ذو شارب مفتول بنهايته، وطاقية زهرية، وجلباب رديء، وصُرة على عصا أحملها على إحدى أكتافي، أسير نحو هذا النجع بعد أن ارتاحتْ قدماي أسفل هذه الشجرة.
مِنْ على بُعد بدى شيخًا كهلًا يسيرُ بعربَته ذات العجلتان المتهالكتان التي يجرها حماره – حمارٌ كهلٌ مثله – أعتقدُ أنه من ذات عُمره، وإن كانت أعمار الحمير أقصر من البشر.
بحنان أبوي رغم خشونة صوته:
-"على فين الترحال يا ولدي؟".
-"إمسيت يا عم الحج على نجع فضلون هكذا أجبتُ".
-"اللهم احفظنا، تعال يا ولدي المسير طويل تعال أما اقربك منهم شوية"
قالها في تؤدة رغم استعاذته.
ركبتُ أو كما يقولون هنا "جلحت" وكان ونيسي حتى مشارف هذا النجع.
-"ليه سموه نجع فضلوني يا عم الحج؟"
بادرته بالسؤال فور استقرار جسدي على سطح عربته.
بعد صمتٌ أحسبه دهرّا تحدث هذا الكهل بعيونٍ ساهمة تقوى على الخوض في عوالم الكون الخفية، وبشفاه متلذذة خاطبني:
-"زمان يا ولدي النجع ده كان عمدته "الحبيشي القبطي"
وكان خواجة مسيحي، وكان وحق ربنا على اللي سمعته عنه كان عادل ودائمًا. ودود وبتاع خير وكل الناس كانتْ واحد وكان يتقال على الخواجة منهم وسط الحديت "يا أبو جارو" دليل على المودة والمجاورة بينهم، ولفِت الأيام يا ولدي ومِرض بالعمدة "الحبيشي" وبعدها مات وكان مش معاه لا عيل ولا تيل، وانتقلت العمودية بأمر الحكمدار لبيت "التايه" وكان راجل مليح مش عفش، كان حداه (عنده) ولدين "نادر" البكري، و"فضلون" الصغير والمدلع، كان "نادر" طيب ويتشال فوق الرأس يا ولدي، وكل الناس تحبه وأبوه العمدة، كان بلسم يتحط على الجرح يطيب يا وليدي(*) ، وعكسه ونقيضه كان "فضلون" كان "مُلعب" ويحب الرمرمة والقباحة.
جوز العمدة عياله الاثنين على أمل يتصلح حال "فضلون" بعد الجواز، لكن يا ولدي مفيش صلحان حال واصِل وزاد فُجره لدرجة أنه راود مرات أخوه "نادر" وكان عايزها في الحرام، المهم اتعرف "فضلون" علي شيخ أسمه "وهيبه" بتاع لقايا، وآثار وقرب منه وبقى وليفه وبيجري معاه في الآثار (اللقايا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تصغير يا ولدي وتستخدم للتدليل في الصعيد
وفي يوم يا ولدي بيت العمودية ولع ومات العمدة و"نادر" ومراته وعياله وكل اللي فيه و"فضلون" كان برا كيِف العادة بيشرب "بوظة" ويدور على لقايا، الله أعلم بمين السبب (قالها في إلقاء اتهام على ذلك الذي لم تمسسه النار وبقى).
وانتقلت العمودية لـ "فضلون" وبقي عمدة البلد وقرب منه "وهيبه" وبقى كلب مسعور يدور علي اللقايا، ومن وراه قومه يقولهم دم يقولوا ندبح (قالها في غموض) كل اللي في النجع يا ولدي الطمع اللي جواهم طلع وبقوا عبيد اللقايا والآثار، وربنا لعنهم بلعنة الطمع والفواحش وقلة الحيا، وزاد مع الوقت جبروتهم.
وفي يوم يا ولدي لقوا "فضلون" على باب مقبرة فرعوني وبين أيديه حتتين آثار وهدومه مقطعة و"صاحبة هوا" مش متحشمة، ميتين يا ولدي على باب المُقبرة وفي فواحش، والعياذ بالله يا ولدي، ومات "فضلون" يا ولدي وياريت الناس تتعظ لكن فضلوا على ذنوبهم، بقوا شياطين على الارض يمشوا كلهم بقوا فضلون.
غمغمت "أناس كفضلون" سمعها فلم يرد.
-"هيييييييسسسس، أول النجع أهو يا وليدي" (قالها في حنو أبوي عهدته منذ أن ألتقيته)، وأكمل:
-"راجع حالك يا ولدي، المغموس في المش مالح، ولو كبيت عليه عسل".
ابتسمت وشكرتُ له نصحه، وترجلت عن عربته مودعه داعيًا له بالخير، ودوام الصحة، وكذلك فعل هو.
أُناس كفضلون؟
عَلِقَتْ كلمات هذا الكهل بذهني، وظلتْ حبيسته تلك العادة البذيئة بداخلي، من استرداد مشاهد قد مضتْ، وأقوال لا طائل منها، فروحت أفكر وتضربُ دفوف برأسي راقصة على صراط عقلي بين المُضي والعودة وأسفلي الجحيم.
هل حقًا هؤلاء القوم كما قال هذا الأشيب الذي أقتنص الزمن كاهله فبات خواء يُهرتل؟
هل هو مازال بالعقل الرشيد أم لعب الزمان به وبات عقله والطفل سواء؟
الحكايات والقصص كلها وجه واحد لقصة من واقع يتناقلها البشر ويستزيدوا فيها فتكون أسطورة، وتبيت حقيقة رغم كل شيء.
عوت الذئاب بخاطري وفكري، لا لست ذلك الذي يخشى ذئاب، فكره متي ناحتْ كلا إنني لست ذلك الذي أدبُر حين أفكر. كنتُ واقفًا، لا أخطو حين تصارعتْ الذئاب والخراف بداخلي، حتى جاء هاتفي يسعى مقتنصًا الخراف من فك الذئاب قائلا:
" واااه، بقي "شوادي" اللي أتربي على أيد العلماء، والمشايخ يخاف فتنة ناس فسقوا بدل ما يهديهم، ويكون مشهور بعلمه بينهم، كيف يعني تسيب كل دا وكمان شيخك "عبيد الجعفري" وصاك تتعلم على يد الشيخ اللي هناك وشكر فيه كمان، كل ده وتقوم تهمله وتمشي!
عيب والله، إن كان اللي زيك يخاف أومال مين اللي يقدر يصلح حال الناس؟
بقي شوادي اللي عمره لا طمع في زاد ولا مال ولا غوته الشهوات يخاف اومال الجهلة يعملوا أيه؟"
وفي خيلاء شمخ صدري عاليًا منتفخًا شادًا قامتي، ومستبشرًا بي وعلى كتفي استقرتْ تلك العصاة التي يُعقد في نهايتها صرتي خلف ظهري، وخطت أقدامي نحو دُبر النجع حيث السير حتى الوصول لجامع ذلك النجع، والسؤال عن شيخهم ( ذاك مبتغاي) تحركتُ وأنتويتُ الأكمال، وأن أكون بينهم مرموقًا.
"الإنسان عدو ما يجهل" ذلك ما جاء بخاطري حين أقنعتُ ذاتي بالاستمرار في الخُطي نحو "نجع فضلون" فما أجهله لا يعني أنني أخشاه؛ لذلك متفاخرًا بعلمي وما أوتيته، وكان الكهل قد أطال الوقوف بعربته العجوز، وخفتت ابتسامته حين وجد سير أقدامي نحو النجع وقاطنوه.
أوليته ظهري ونفضت عني شرودي هذا ودلفتُ يتخبط التراب بقدماي سيرًا، كنتُ مهرولًا كالهابط من جبل، كان النجع في هاوية، وكأنه أحيط بالتراب، فبات كالقبر المفتوح لم يُهال التراب عليه بعد.
نازلاً كانت قدماي وثابتةٌ هي أبصاري فخلف النجع مثوي العباد حيث كانت القرافة (القبور) حتى إذا رأيتُ القبور أجفلتُ، وخشع الفؤاد أمامها رافعًا الكف معلقًا إياه بأخيه باسطاهما، قارئًا الفاتحة ودعوتُ الله بما شاء لعباده الصالحين الذين أسفل التراب تواروا.
كانت القبور على بكرتها، شواهدها قد صُنعت من طوب من طين كما صُنع الإنسان من طينه، ولشد جنوح خاطري الذي ذهب إلى أن كل قبرٍ كان شاهده مصنوع من ذات طين ضيفه التي تحتضنه، شواهد القبور كانت على شكل حصان، ذلك الذي هو يشبه في شكله المقامات قائم الزوايا يعلو أقل من متر عن الأرض، وينشق عنه قامة كبيرة تعلو نصف متر عن إحدى أضلاعه، ويُلون بالجير الأبيض، وكُتِبَ في إحدى أركانه "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" وفي مقدمته يكتب قبر المرحوم ذاكرًا اسم الميت، وهكذا هي شواهد القبور عالية شامخة تُحْرَسُ، وتشهد أن هذه البقعة من الأرض تحمِل في رحمها متوفي، ولعمري دومًا أعتقد أن بكل شبرٍ من هذه الأرض التي نسير عليها ما هي إلا قبورًا بلا شواهد فالأرض حُبلي بنا تحمل أجسادنا التي ماتت حديثةً كانتْ أم بلاها الزمن فكانت رميم حتي إذا جاء يوم أن تقوم الأشهاد لفظتنا فخرجنا إليها خلقًا جديدًا.
جلستُ إلى جوار القبور أتأملها، مساحةً كبري تحمل العديد من الأشهاد خلف نجع يشهد العديد أيضًا من الأبنية التي يحتويها لا اختلاف هنا بين شواهد القبور، فالفقير أسفل التراب يتوارى وإلى جواره من تَنعم بالغني، تأملت الحياة والممات، لا اختلاف نُحاسب على حياة انقضتْ؛ لنخلد في حياة آتية، هكذا دأب الحياة لا مُعمرًا ولا خالدًا فيها، فالطيب من رحل عنها بزاد الخير والتقوى، والخبيث من استشرى به الخُبث فحُمِل به إلى مُلحدة، أتممتُ دعواتي وهممتُ بالنهوض مستندًا لإحدى الشواهد حين اقتنصتْ عيناي أمرًا.
من بعيد ناحية النجع، تعالتْ أصوات الخطوات وعانق الغبار عنان السماء، وبدى وكأنها عاصفة آتيةٌ، وبعد تَفَرُّسُ واقتراب بدى المشهد جليًا لي، نعش بين الغبار يطير محلقًا بطيء الحركة رغم كثافة الغبار من حوله، وحده طائر؟
بدى ما بين الغبار رجلٌ ذو عمامة ووقار الشيوخ، يتقدم النعش مرددًا الشهادة في علو صوتًا لا ينافسه أحد، ومن بعده أربعة على أكتافهم كان النعش يستقر، ومن خلفهم قومٌ أهوال كُثر حتى إذا تفرق الغبار ظهروا كانوا والسواد سواء كغربانِ آتية لأخيها دافنة تنوح ولا تُكبر ولا تُشهِد، ولكأنهم غصنٌ فوق الهالكة غُرس فجف، سواد الملابس واضحًا لا غبار، ولكن _والحق أقول_ توجس قلبي، وأستشعر السواد بقلوبهم.
معجلاً لخطاي أحُثها على اللحاق بالركب مستقبلاً هرولتْ، وإلى إحدى الأكتاف الأربع الحاملة للنعش أبدلتُ وحملت عنه، أردد في قوة غير عابيءٍ بهولاء الغربان من خلفي:
"لا إله إلا الله والميت حبيب الله
الله دايم هو الدايم ولا دايم غير الله
لا إله إلا الله والميت حبيب الله"
حتي إذا وصلت إلى قبرٍ فتح فاه مستقبلاً لضيفٍ جديد ٍ،أنزلنا النعش واستبقتُ الخُطي فكنتُ أول الداخلين إلى القبر، حيث دخلتُ بظهري لا وجهي – كما هي العادة – فلو أنك سألتُ مُلحدًا "التُربى" لقال لك:
"هكذا نستقبل الموتى ونخرج بوجهنا فوقار القبور عظيم"
رفعه ثالث وكان مُكفنًا بالأبيض غير ذي إحكام واستقبلتْ رأسه إلى الحُفرة التي باتت الآن بيته، ساعدني أحدهم فألحدناه وأسفل رأسه، وضعتُ "طوبة" لنومه الأبدي قبل يوم الدينونة، أنفك عنه غطاء رأسه فبدى منه قليلاً، فبدى لي أمرًا وبه توجستُ الخيفة في كينونة نفسي ظنًا وشكًا، أعدت غطاء رأسه، وأحكمته، وقرأت الفاتحة له في عجالة، ومستقبلاً بوجهي الناس خرجتُ وظننتُ أني سابقًا الناس، أمسكتُ "المعول" أو كما يقولون عنها ها هنا "الطُرية" فالطُرية هي تلك التي نُستخدم في النقب والزراعة والأصغر منها تسمي "القدوم" ولكن ولشدة دهشتي لم يحرك أحدهم ساكنًا؛ لربما خشي المرء منهم اتساخ ملابسهم، فتعالوا، لكن هم كالغربان فوق الشجر من حولي لا مساعد لي، وفي همةٍ أهلتُ التراب إلى قبر المتوفي حتى إذا انتهيتُ من أمري، مسحتُ عرقي بكم جلبابي، ورششتُ الماء على مثوي المرحوم، تقدم لي الشيخ مباركًا و ممتنًا لي صنيعي، ومخبرًا إياي باسمه.