tafrabooks

Share to Social Media

عبد الرسول


في حبور منه أعلن في حماسه لما وجده مني من مساعده في تلحيد الميت، وكذلك إهالتي للتراب على قبره:
"أنا الشيخ "عبد الرسول" يا ولدي، شيخ وأمام مسجد " نجع فضلون".
كان زهيد الملابس، حسن التبسم، يسير الحديث، هتفتُ في حماسه:
" يا مرحب يا سيدنا الشيخ "عبد الرسول" أنا "شوادي" جايلك من طرف سيدنا الشيخ " عبيد الجعفري".
وهممتُ إلى صُرتي ففككتها، والتقطتُ منها رقعةً من جلد الماعز دُون عليها توصية من سيدنا الشيخ "عبيد الجعفري" وممهور بختمه.
-التقفها مني وتبسم لها ناظرًا، وبعدها طواها إليه، وفتح كلتا ذراعيه مرحبًا بي:
" يا أهلاً بيك يا "شوادي "نورت يا ولدي".
وهم في حديثٍ سريعٍ يسألني:
كيف هي حال شيخي السابق؟ وكيف هي صحته التي لم أُخفي عليه أمر تدهوره نتيجة ما لحق به من شيخوخة وأمراضها المصاحبة؟
أنفض الجمع من حولنا، وذهب كل أناسٍ بما يشغلهم، وكأن زيارة القرافة لم تحرك ساكنًا بقلوبهم، هم الشيخ "عبد الرسول" باقتيادي إلى مقدمة "القرافة" من ناحية النجع، حيث مربط بغلته التي تحمله على ظهرها، وفى تؤدة هم بتحرير قيدها والقمها في فمها "اللجام" ذلك "السرج" الذي به حبل يتحكم بدابته حيث يتوجه وحيث يشاء، وأعلى ظهرها "بالبردعة" أو كما يقولون "الطِراق" وهي وسادة مُحكمة تقيِ دُبر الشيخ من بروز عظام بغلته الضئيلة؛ كي لا تقرحه، هممتُ إليه مساندًا؛ ليعتلي بغلته وسرتُ إلى جواره كدأب الشيوخ في عصري هذا حيث العلو، والدابة للشيخ، والسير والتراب للمُريد.
*****
كان السير في النجع أشبه بالسير في وادي سقر، كل الذين وُعدوا النار قاطنيِه عرايا النحر، وأنصاف الشعر تتطلع شامخة من أسفل السواد الذي أعتلى الرؤوس ووقر بالصدور، نساء النجع لا يعرفون عن برقع الحياء شيئًا، إذ الوجوه سافرة مكشوفة لا يغطيها سوى التكحل والتزين، كنت أتحاشى النظر إليهن، أصواتهن تعلو وتصاحب السماء في ارتفاعها، ضحكات لا تُسمع سوى في بيوت الغانيات، رنانةً تلك الأصوات تقع في القلب محل الفتنة، أنفضُ عني تلك الأفكار وأحيد عن السمع والبصر قليلاً، أتأمل شيخي، أصم وضرير طوال الطريق لا يري ولا يسمع يسبح الله عز وجل في كلمات متواترة؛ لعله الاعتياد أو ربط الله على قلبه فهو كهلاً لا يتكحل من كحل الشباب، فيُزين عيناه بما يُري ويقع منهن.
تجول عيناي في هذا النجع، بيوت من طين مُعلاه بأسقف من خوص، وجريد النخل في أغلبها، وبعض البيوت فوق تلك الطبقة تجد طبقة من الطين على هذا الجريد، وأخرى من البوص، وجدرانها تتعري قشرتها أحيانًا فتري تراص الطوب فوق بعضه لا يفصله إلا الطين؛ ليمسك كل طوبة بأختها كالبنيان المرصوص.
بعض البيوت ذات دبُر يسكنه البقر والخراف والماعز، وقليلة هي تلك البيوت، وأخرى دبُرها حصنًا "للتبن" وذلك الذي يُنتج من حصاد القمح، وفصله إلى غلال للبشر وتبن للدواب والبناء.
خاطري قبيح هذا ما جال بخاطري حين وقعت عيناي على إحداهُن تتمشي في دلال يلهب القلوب، وتُقِعُ في النفس موضع شهوة الجسد والدلال، نافرة النهدين وممشوقة القوام أو كما يوصفها العرب "قدها المياس" لا ليست من علامات الجمال تلك التي لا تكتنز باللحم، ويتهادى جسدها، ويهتز في تلك الفترة لكنها كانت شهية كوجبة من ماعز لذئب تطوق لنيل صيده منذ حول أو يزيد.
أزحتُ عنها بصري مستغفرًا الله عز وجل متذكرًا ما آل إليه أمر سيدي "بكر الناعسي" شيخ المريدين حين همَّتْ به غانية في إحدى مرآته القليلة التي خرج فيها من مخدعة الذي يأويه وبراح تنسكه، نظر لها مرة فوقع قلبه ما يهيم به الرجل حين يشتهي امرأة، وهم بها في اشتهاء انتهى لزرع بذرته في رحمها، فخشي من أمره فضيحة فقتلها، وكان من الأمر ما كان، فكشف الله ستره عنه وخُبر القوم بأمره فكان يوم القصاص منه، فعُلق على خشبة عاتية الطول، ودُقتُ الأوتاد في أطرافه وأُحرق كما تأكل النار الهشيم.
كان عقابٌ على غير شرع الله، وما أستُن به ولكنهم أرادوا به ردعًا من سوَّلت له نفسه أمرًا.

*****
بيوت كُثر هي كما سبق ووصفتها، كان يتوسطها منزلاً لا بل قصرًا من طابقين ويعلوه ما يشبه الصرح الممرد مكشوف الأوصال، ذو مساحة كبرى وشبابيك كبيرة وكان مميزًا عن أنداده من المنازل في هذا النجع.
-"دا بيت العمدة يا "شوادي".
قالها شيخي حين لاحظ أني أطلق النظر تجاهه، وأردف:
-"بيوت الذوات والعُمد دايماً كبيرة وشرحه كدا، وهواها بحر وتشد العين ياولدي".
قالها في حماس أو ربما ذلك ما شعرتُ به حماس أنداد "قارون" حين تمنوا أن يكون لهم مثل حظه، ولكني نفضتْ عني أمري فبلاشك أختلط الأمر عليَّ.
لشد ما لفت خاطري أننا برغم تجاوزنا ساعة العصاري، وقد رطُبتْ الأرض من قسوة الشمس وقيظها حين الظهيرة إلا أنني لم يتناهى إلى مسامعي أي ضحكات أو حتى صرخات أطفال في هذا النجع. والمعروف أن في مثل هذه الساعة يتقافز الأطفال مرحّا ولعبًا في شوارع النجوع وأمام المنازل، لا أصناف من البشر هنا سوى الرجال والنساء أو لنقول ذئاب جياع وخراف متمايلة تتمايع في دلال أمام ذئابها.
وأما حال الرجال فلكأنهم قسورة تنتظرُ الحُمر المستنفرة، يرتدون الجلابيب السوداء في خيلاء لا يعتليها سوى كبير الجن ربما وكانت جوانب الطرقات أسفل الأشجار ومقدمات المنازل مثواهم، يجلسون فتخرج أعينهم من محاجرها كلما مرت إحدهن، لا فرق هنا بين كهلٍ مُعمرٍ وشابٍ، نبت الشارب توًا أسفل أنفه، كلهم في الأمر سواء أعين وقحة لا تستحي أن تفترس لحوم النساء كلما مرت.
ولشد تعجبي تلك العمامة السوداء التي تُزين رؤوسهم، ما عهدتُ تلك العمامة من قبل في ترحالي هذا، كانت العمامات كلها من القماش الأبيض الناصع إلا هنا، كان الواحد منهم كهلاً كان أم شابًا يرتدي جلباب أسود كويِ توًا، وجفف من غسيله وأسفله "تقشيطه" وهو جلباب ابيض خفيف أسفل الجلباب، وعلى رأسه لُفت العمامة السوداء ورُبطت من الخلف تاركةً من خلفها ذيلاً أسود منكسر كذيل كلبًا طُرد توًا من جيفة كانت تجمعه، وأقرانه على نتن لحمها، وذلك الحذاء الأسود من القماش الذي يشبه الفانوس في مقدمته المدببة.
وتذكرتُ حديث بعضهم لبعض لما شرع الشيخ "عبد الرسول" في خطبة الموت على قبر متوافاهم الذي دُفن قبل حين، حين امتعضت وجوه ونزحتْ عنه وجوه، ولهت أيدي في التراب والحصى غير عابئة بما يقوله، وكأن الحديث لا يوجه إليهم حتى تناهى إليَّ همساتهم، وإحدهم قال:
-"يا شيخ خلص هي نقصاك يعني سايبين همنا وتلنا عشان ندفن "المقندل" ده وكمان هتصدعنا، كفاية يوم الجمعة".
-وآخر همس بينهم:
-"يا عم اتعظ أنت، أحنا فراعنة معمرين فيها".
وهكذا دأب الهمسات، وكأن حديثه عن الثواب والعقاب والجنة والنار والقبر لا تمسهم، وكأنهم آمنون الحياة ومكرها والموت وتوقيته، وحدثتني نفسي آسفًا أن ما قيل عنهم يبدوا صحيحًا ولكن ليس كل القول _وإنَّ بدا حقاً_ يُعمم على أشباهه سأمضي في أمري، وأتعلم من شيخي وأرى وأرقبهم عن كثب.
*****
على حافة النجع بدا لي وحيدًا ذلك المنزل المتكون من الطين، ولا يعلو عن الأرض سوى ثلاثة أمتار، يكسيه من عراء السماء البوص المُحمل فوقه بالطين؛ ليسد الثقوب، ويزيده دفئ متى أشتد الطقس ببرده، منزلٌ صغيرٌ هو وأمامه "مصطبتان " كالعادة، وهنَّ صغيرتان تظلها حفنة من البوص محكمة التشبث ببعضها البعض من خلال الحبال التي تُحاك؛ لأجل عمل هذه "السبائت" كما هو اسمها، ووضع جزءً منها على حائط المنزل، والجزء الأمامي ثُبت على "عرقين" أو كما يطلق عليهن "فلقين" من جذوع النخيل الضخم، مدفونة جذورهم في الأرض عمقًا لا بأس به، والمصطبة كانت على ارتفاعٍ عالٍ لا بأس به، بُنِيتْ من طين وعلى ظهرها فراش من حصير نُسج من "الحلف أو الخوص".
نزل بمساعدتي شيخي الجديد "عبد الرسول" من على ظهر بغلته، وإلى أحد "العِرقين" ربط حبلاً والطرف الآخر في عنق دابته، حررها من لجامها، وكذلك "الطِراق أو البردعة" من على ظهرها، وانحني يقيد قدماها الأماميتين بالحبل حتى يضمن عدم هروبها، وسعيها في أرض الله التي لا يُرى لها جانب آخر، فقد كان في طرف القرية حيث الصحراء العارية أمامه.
وأسفل إبطه ضم إليه الطِراق واللجام وأمسك عصاه، وهم بي مرحبًا إلى منزله، فتح الباب بعد معالجة قفله ودلفنا، كان أقل المنازل حقًا أناقة من الخارج وكذلك الداخل فمن الداخل كان مكون من غرفتين وملحق به دورة مياه، كانت الغرفة الأولي هي التي استقبلت حضوري، فكانت ذات شباك كبير متهالك الخشب كالعادة، مُمسمرةٌ من الداخل لكن لا بأس ببعض الثقوب التي تُيسر النظر من داخله أو خارجه، وتسمح بدخول نسيم الهواء على اليسار في منتصف، أعلى الجدار كان هناك "لمبة جاز" تضيء بالكيروسين للإضاءة بالليل القريب، وإلى جوار الجدار كانت هناك "طبلية" المُعدة من خشب للأكل عليها، وعلى اليمين تجاه الغرفة الأخرى "خزانة" من خشب احتوت على طعام الشيخ وكأنها مطبخه، كانت إحدى الدُرف مفتوحة بدا ما تحويه من أطباق، وبعض المعالق، وحلة، وأشياء أخرى لم أستبينها وعلى الأرض افترش شيخي الحصير وجلسنا عليه، كانت الأرض رطبه وكأنه قد رشها بالماء قبل خروجه، جلسنا متربعين الأرجل ومرة أخرى رحب بي في ارتباك حقيقي، يوضح أنه شحيح الضيف في بيته لا يزوره أحد منذ أمد.
بادرتُ وفككتُ صُرتي مخرجًا منها أوراقي ودلفتْ أحدثه عما تعلمته من شيوخي الأجلاء السابقين، وما أودُّ تعلمه منه ذاكرًا بالطبع أمر ما كان مني حيث كنتُ دليلاً "الهداية" للمقابر ونبش الاثار، كان توتره قد أزداد بعدها حتى جعل لساني ثقيل، فنجوتُ من ثقله بالصمت منتظرًا حديثه.
"ايه اللي جابك النجع دا يا ولدي؟"
تنهد:
"همِل النجع دا الصبح، وأسعى دور علي شيخ يعلمك بعيد عن النجع الملعون ده"
-هالني حديثه، وألجمتُ الدهشة لساني، فأكمل:
"ناس دينها معدوم لا تخشي الله، يا ولدي وفيه فسق وفجور أعوذ بالله منهم، وأخاف تتفتن منهم وأنت صغير لسه – صمت – هملهم وشوف حالك في مكان تانى يا ولدي"
استعدتُ رشدي من دهشتي، فضغطت على كل كلمة تخرج من بين أسناني:
-"أنا سمعتُ عنهم يا سيدنا الشيخ والحكاوي جات في حجري، وعارف كويس الكلام اللي بيتقال عنهم، ومتخافش عليا أنا تربية شيوخ كُبار وشيخي كمان وصاني أتعلم منك؛ لأنك أهل علم ومكانتك عالية وانا يسعدني جوارك وعلامك"
قولتها في رزانة أملاً ألا يُصرَّ على أمر رحيلي لما وجدته في ملامحه من آسى وحزن، وكان صمته قد أحال جلستنا لمقبرة بلا شاهد.
صمت وتأملني، وبعد برهة نصب قامته واقفًا، وغاب في الغرفة الأخرى، وجاء بالطعام على "صُنية " فأنزوي بها جانبًا جالبًا "الطلبية" وأوسطها بيننا بعد أن نحي أوراق العلم، ووضع الطعام على "الطبلية" قائلاً:
"تتضايف يا ولدي وبعدين نكمل حكينا"
كان طعامه زهيدًا فكان "مش" في إحدى أطباقه، وآخر به قطعة جبنة بيضاء وعدد لا بأس به من الطماطم والبصل، وإن كان أزاح البصل جانبًا بعيدًا عن متناولنا ملمحًا لقرب صلاة المغرب التي اقتربتْ وكذلك بيضتان مسلوقتان، وشرعنا في الأكل بالعيش "البتاو" الذي ربما مضى يوم على خبزه، فكان أصلب قليلاً يحتاج مجهودًا في مضغه، وشرعتُ أكل في نهم وكذلك إلى جواري "قلة الماء" متى استسقيتُ ارتويتُ، وأكلنا في صمت حتى شرعتُ أخاطبه، وأعود بحديثي إلى أمر "القرافة" والميت الذي دُفن قبل حين.
-"تعرف الميت دا يا سيدنا الشيخ "عبد الرسول"؟
-"أه يا ولدي، لكن بتسأل ليه"؟
ترددت الكلمات في داخلي قبل أن تخرج مني ...
-"أصل ...أصل...طيب هو مات كيف"؟
متشككاً في سؤالي كان جوابه:
-"مات موتة ربنا يا ولدي، لقوه الصبح وروحه فاضتْ للكريم.
-"أصل ... بص يا سيدنا الشيخ "عبد الرسول" الراجل دا مات مسموم، أنا متأكد".
دهشته أدهشتني، لم تكن دهشة الذي سمع أمرًا لا يعلمه، لكنه دُهش قليلاً موجهًا ناظره لي وبعدها أكمل طعامه – ثم سأل:
-"وكيف عرفت يا ولدي"؟
-"غطا رأسه من الكفن لما لحدته انكشف، يا سيدنا الشيخ، وبان وشه وارم ومنفوخ ودي علامة من علامات التسمم ..."
صمت كثيرًا عقب جملتي الأخيرة ولم يحرك ساكنًا ثم في صوت رخيم مستسلم لا يرى في الأمر دهشة أو ريبة:
-"قولتلك يا ولدي ناس ما يعلم بيها إلا ربنا – صمت – دا بقي "سنهودي" الله يرحمه لسه متجوز بنت بكر أصغر من عياله.
بيقولوا والعهدة على اللي قال إن مراته الصغيرة دي لقوها في الحرام والعياذ بالله مع الواد "صبري" وانتشرت الإشاعات في النجع عليهم –تنهد– ربنا يرحمنا من شرورهم وفجورهم".
-"طب وهو كل البلد يعني سممته يا سيدنا الشيخ"؟
-"يا ولدي كلهم عفشين، كلهم".
أكملتُ الطعامَ دون حديث آخر، خشيتُ لو انفرجت شفتاي لحديث أن يذكره بالنجع وفجوره، فيلتفت لأمري ويأمرني بالرحيل عنه.
انتهينا من الطعام ورغم إصراري أن أقوم نيابة عنه به إلا أنه أصرَّ على رفع الطعام وحده، وأكد أن أمر ضيافتي اليوم وغدًا على عاتقه، وهو من أصول الضيافة امتننتْ له ذلك، ولما لفت به نظري من موافقة ضمنية مستترة على استمرار معيشتي معه والتعلم منه رغم ما دار بيننا من حديث قبل قليل .
*****
آن الغروب وصمتتْ البرايا، وهممتُ إلى "دورة المياه" مشمرًا ساعدي وكاشفًا عن كاحلي منتوي الوضوء لصلاة المغرب، وفي داخله شرعتُ في أمري وإلى جواري "كوز" أساعد نفسي به للوضوء في حرصًا على قطرة الماء، فالقادم من الصحراء لاهثًا على قطرة المياه خير من يحرص عليه.
أتممتُ وضوئي، وأعدتُ ملابسي لسابق وضعها، وقدِمتُ لشيخي معلنًا استعدادي للصلاة الذي بدوره باشر أمره في "دورة المياه" وتوضأ وترجل لجواري متوجهين إلى جامع النجع.
تأملتُ النجع بالغروب في طريقي مرة أخرى خرى تحت ضوء آخر شعاع من الشمس، بيوت مظلمة تخشي النور إلا من قناديل الكيروسين المُضاءة أمام أبواب أحدهم، لا صوت بكاء كما قولتُ لأي طفل أو رضيع.
استمر مسيرنا حيث المنتصف إلى الجامع، كان متواضعًا لا يليق بهذا النجع المُختال ساكنيه، حين برز لنا فور وصولنا إليه باب من خشب قديم قدم النجع، فتحه شيخي وإلى يمينه تحسس حتى قبض بيده علي أول قنديل زيت، وأشعل عود ثقاب بعد عدة محاولات فاشلة أناره وطاف بما بقي من قناديل لها مُشعلاً، عاد إلى الخارج، ونظر نظرة للسماء، وعاد لي آمرًا:
-اطلع على سطح الجامع يا "شوادي" وأدي السلم هناك خده، وحطه على الحيطة قصاد فتحة السقف، وأطلع آذن المغرب وجبت.
نفذتُ أمره وصعدتُ عاليًا، آخذًا نفسًا عميقًا ومغلفًا أُذني بكلتا يداي، وبصوتٍ شدي ندي ورثته عن المرحوم والدي – رحمه الله – أذنت في الملأ:
-"الله أكبر الله أكبر..."
أنهيتُ الأذان في البرية مُسمعًا الأذان للأنس منهم وجنهم وسائر مخلوقات الله عز وجل، ونزلت إلى شيخي الذي في حبوره المعتاد بارك لي أمرَ صوتي الندي، وتجمع قلةٌ من القوم إلى الصلاة، ويكأن النجع بلا أقوام، قليلون متأففين رغم أن أقامة صلاة المغرب قريبة.
أصرَّ شيخي أن أكون للصلاة أمامًا لما لمسه مني من صوت، وحفظ لكتاب الله عز وجل، وأمام المحراب وجهتُ وجهي لله عز وجل، واعتدلتُ موجهًا حديثي لمن خلفي من المُصليين:
-"استووا، وتراصوا، واعتدلوا، واخشعوا في صلاتكم، فأنتم بين يدي الواحد القاهر الحي الذي لا يموت".
غلفتُ أذني مكبرًا وشارعًا في الصلاة، وبعد دعاء الاستفتاح بالصلاة وقراءة الفاتحة، قرأتُ ما فتح الله عليَّ من القرآن الكريم، وأطلت الصلاة للخشوع والتضرع، وكنتُ في آيات العذاب استعيذ، وفي آيات الرحمة، والجنة أسال الله من فضله.
كان السعال هو ما لفت ناظري في أمر هؤلاء القوم من خلفي، فقد كثُر سعالهم وكأن أمرٌ جللاً قد دب بصدورهم فكواها وجعل السعال مخرجًا لدخان صدورهم.
أنهيتُ الصلاة، وكعادتي متلفتًا للقوم من بعد الصلاة مصافحًا ولكن _ويالدهشتي – كان الخروج من الجامع أسرع من الدخول إليه، عُدت للمحراب ناظرًا وداعيًا ومستغفرًا. ومن خلفي طبطب أحدهم على كتفي، وإليه ملتفتًا وجدتُ أمامي كهلًا شامطًا تجاوز الخمسين بقليل، حاد الملامح وآنف معقوف ولحية نبتت على حواف عظام وجهه. وكأنها سورٌ محيط به استطالتْ أسفل ذقنه وحالقًا شاربه، كث الحواجب وضيق العينين، وفي ضحكة صفراء لم أرتح لها منذ البداية مديدة إليَّ مصافحًا في تؤدة:
-"يا أهلاً بالمريد الجديد لسيدنا الشيخ، أنا الشيخ "وهيبه" زميلك في كتاب الله، وعالم جليل من علماء البلد".
صمتَ قليلاً – أردف قوله بلومة لائم:



-"ابقي متطولش في الصلاة، الناس وراها مشاغل، وأقرا قصار السور يا شيخ" وأستدرك قوله :
"أصل أنت عارف يعني المغرب غريب، وبعده العشا وكدا يعني"

شكرتُ له نصحه واعدًا بالأخذ به في الصلوات القادمة، ألقى السلام مودعًا وخرج لأمره خارج الجامع، وبقى كلانا أنا وشيخي وعدتُ أذكر الله عز وجل نافضًا عني أمرهم جميعًا.
*****

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.