الصراخ يتعالى والجميع يلتف حول نفسه وشخص ما يردِّد:
- حاولت الهرب مرة أخرى.. حاولت الهرب مرة أخرى.
انقلبت المستشفى رأسًا على عقب بعدما حاولت تلك السيدة الهرب وكعادتها فشلت، وقام رجال الأمن بإمساكها وإدخالها العنبر ومن ثَمَّ اجتمعت إدارة الصحة النفسية و قررت إرسال خطاب للدكتور أحمد عزيز لتولِّيه تلك الحالة؛ فهو طبيب بارع وعالج الكثير ممَّن يعانون من نفس حالتها، وأصرَّ مدير المستشفى على قراره وجميع الأطباء وطاقم تمريض قسم الصحة النفسية عدا دكتورة واحدة هي التي لم توافق وتذمَّرت من هذا القرار، وأصرَّ أيضًا على عدم الحراسة المشددة لها أو حتى حبسها في عنبرها.
٢١ يوليو
نزل أحمد من أعلى سريره وفرك عينيه ولم يقوَ على فتحهما بسهولة ثم ذهب ليفتح الباب وهو يجر قدميه جر من الإرهاق، وقال في قرارة نفسه:
- يا إلهي! مَن هذا المزعج الذي يأتي في الصباح الباكر؟!
- أنَّه ساعي البريد.. أتى حاملًا معه خطابًا للدكتور أحمد متحديًا حرارة الشمس، كان يرتدي قميصه البني القديم بيده حقيبة متوسطة الحجم بها العديد من الخطابات منها خطاب دكتور أحمد.
رفع أحمد حاجبه الأيمن ثم رمق الساعي بنظرة ناعسة قائلًا:
- ما هذا الجواب؟ وممَّن؟
- لا أدري سيدي، كل ما أعرفه أنَّه من مستشفى العباسية للأمراض النفسية.
- حسنًا، شكرًا لك.
- على الرحب والسعة.
رحل الساعي وأغلق أحمد الباب، ثم أخذ الجواب معه لغرفة النوم وألقى به على السرير ليكمل نومه، وقبل أن يغمض عينيه أيقظه صوت المنبه المزعج، فأمسك به وضغط على غفوة حتى ينام قليلًا، وظل يرن الجرس مرات عديدة حتى رنَّ للمرة الأخيرة فاستيقظ أحمد، وفي محاولة فاشلة منه ليُطفئ المنبه وينام مرة ثانية نظر لحرارة الطقس على شاشة هاتفه فوجدها ٤٥°.
تنفَّس الصعداء وشعر بتذمر شديد؛ لأنَّه لا يُحب الصيف ولا يتحمل أن يتعامل مع أي بشري في هذا الفصل، ثم قام بفتح الخطاب وقرأ ما فيه بعينين ناعستين:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة وبعد..
تتقدَّم إدارة الصحة النفسية لطبيبنا الماهر أحمد عزيز أن يتفضَّل ويقبل بالإشراف على حالة خاصة لدينا، في انتظاركم غدًا، وهذا التقرير المرفق مع الخطاب هو تقرير حالتها.
فائق الاحترام والتقدير لسيادتكم.
١٩ يوليو."
فتح التقرير وقرأ بعضًا مما فيه وما هو اسم تلك الحالة وممَّ تعاني، ثم وقف أمام المرآة وهو يحدِّث نفسه قائلًا:
- اليوم، اليوم.. يا إلهي!
ثم أمسك بهاتفه وقام بالاتصال بصديق له وبصوتٍ نائم قال:
- صباح الخير، لن أذهب للعيادة اليوم، نتقابل غدًا.
- لماذا؟ هل أنت مريض؟
- لا، أنا فقط ذاهب للعباسية للتو بناءً على طلبهم.
- ولمَ لم تخبرني البارحة ونحن نشاهد للمباراة؟
- أولًا: لا تُذكِّرني بتلك المباراة، فهي السبب في سهري وأيضًا خسرنا.
ثانيًا: عرفت من دقائق معدودة، فالخطاب وصلني اليوم ولم يصل البارحة، أعتقد تأخَّر.
ثالثًا: الجو مشمس للغاية وشديد الحرارة، وأنت تعلم أنني أكره فصل الصيف، وأخيرًا مع السلامة لا تعطلني أكثر.
أغلق أحمد الاتصال ثم وقف أمام الدولاب وأسند رأسه عليه حتى كاد ينام، ففتح عينيه ببطء شديد وبدأ في جلد ذاته قائلًا:
- ليتني لم أسهر البارحة، ليتني لم أطفئ المنبه لعدة مرات؛ فقد تأخرت كثيرًا، لكنه جلد ذات ولوم غير مُجدٍ، ثم أخرج بنطاله الأسود وأدخله مرة أخرى وقال:
- حيرة كل يوم، أحب البنطال الأسود الكلاسيكي، لكنه يحتاج للمكواة، متى سأتزوج يا الله!
فاضطر أن يلجأ لبنطاله الرمادي وقميصه الأزرق أو كما تُسميه الفتيات الآنbaby blue" " ودخل للاستحمام، وبعد وقتٍ ليس بقصير أصبح جاهزًا، ثم وقف أمام المرآة ممسكًا بزجاجة العطر خاصته ورشَّ الكثير منها بعد أن مشَّط شعره، والتقط ساعته فضية اللون ليلفها حول معصمه بخفة ولبس نظارته الطبية، ولم ينسَ النظارة الشمسية أيضًا، وما إن وصل إلى هناك وفتح باب سيارته حتى انتشت رائحة عطره وملأت المكان، وقف أمام المستشفى قائلًا لنفسه:
- هنا عملي الجديد في قسم الصحة النفسية، هذا القسم الذي يحتضن آلاف من الناس كاحتضان الأم لصغارها، مرضى ليسوا بمرضى فما هم إلا ضحايا لمرضى نفسيين، مستشفى واسع النطاق مقسَّم لعدة مبانٍ منها المخصَّص للسيدات ومنها المخصص للرجال.. ودومًا ما تجد جميع العنابر ممتلئة.
لو أردت أن تسمع قصصًا تكاد تجزم من قسوتها أنها خيالية ما عليك سوى أن تأتي إلى هنا، تعالَ وانظر في وجوه المرضى الذين جاؤوا إلى هنا إثر تعاملهم مع أشباه البشر.
في حديقة المستشفى وبالتحديد في منتصفه وقف الدكتور أحمد يتفقَّد المرضى بنظراتٍ حزينة حتى لفت انتباهه سيدة شاحبة الوجه كأنَّ شحوب وجهها يعكس ما بداخلها من ألم، أيُعقل أن تكون الملامح الباهتة مرآةً للخراب الكامن بصدرك؟
انشغل باله بها وبما تفعله، عدَّل نظارته الطبية وحدَّق بها فقد كانت تتحدَّث بصوتٍ عالٍ، بخطواتٍ سريعة وصارمة ذهب إليها ووقف جوارها حتى يسمع ما تقوله، كانت تردِّد تلك الكلمات وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا:
- قال لي سأقاتل من أجلكِ ثم قتلني! فقد أقنعني أنني عدو نفسي!
أجهشت بالبكاء وحاولت أن تخبئ وجهها بيديها حتى تكتم صوت بكائها،
ثم نظرت أمامها فوجدت حذاءً لرجل فمسحت دموعها بيديها ورفعت رأسها عاليًا حتى ترى مَن هذا الذي يقف أمامها، فوجدت رجلًا مهندمًا في لباسه في الثلاثين من عمره، وسيم ينظر لها بابتسامة رقيقة ثم جلس أمامها على الأرض وقال:
- مرحبًا، ما اسمك؟!
- سارة سـ....
سـ... سعد.
توقَّع دكتور أحمد أنَّ سارة تعاني من تأتأة نفسية، وهي نوع من أنواع التلعثم، وعرف أن تلك السيدة هي نفس السيدة التي احضروه هنا لأجلها، حتى يتولَّى معالجتها.
ثم أردف قائلًا:
- وكيف حالُكِ اليوم يا سارة.
- حالِك، حالي حالِك.. حالِك للغاية فأنا في أحلك أيامي.
وفجأةً عمَّ الصمت المكان، وبدأت تتربص حولها بنظراتِ بريئة حتى لمعت دموعها داخل عينيها كما تلمع النجوم في السماء، ثم تركت الطبيب خلفها وذهبت لغرفتها، وقبل أن يقوم أحمد حتى يتفقَّد مباني المستشفى والذهاب لمديرها وجد ورقةً في نفس مكان جلوس سارة، فأمسك بها وقبل أن يفتحها وجد سارة أمامه وفي محاولة منها لشد الورقة من بين يديه احمرَّت وجنتيها وبرزت عروق جبينها، ثم صاحت بعصبية مفرطة:
- أهذه لك حتى تقرأها؟
وقبل أن يتفوَّه بأي كلمة تركته وتركت الورقة معه وذهبت مرة أخرى، ففتح الورقة وقرأ ما بها..
"لا عز كعز الأب، ولا دلال كدلاله لبناته".
- "فريسكا...".
تردَّدت تلك الكلمة عدة مرات من بائع الفريسكا في قطار أسوان إسكندرية القطار المميز أو ما يُسمَّى بقطار "الغلابة".
وقف بجانبي بائع الفريسكا بعدما لوَّحَ له الرجل الخمسيني الذي يجلس أمامي وجواره ابنته، والتي لا يتعدَّى عمرها الثمانية وعشرين عامًا، وقال له:
- ثلاثة فريسكا من فضلك.
فنظرت له ابنته قائلة:
- لا يا أبي، واحدة فقط وسنتقاسمها سويًّا ككل شيء نتقاسمه.
ثم استكملت حديثها وهي تتساءل عن سعر الواحدة منها وقالت بصوتٍ منخفض:
- معنا عشرون جنيهًا فقط يا أبي.
ثم همهمت بشيءٍ آخر لأبيها، لكني لم أسمعه.
نظر لها بنظرةٍ اجتمع فيها حنان العالم كله، ثم نظر لبائع الفريسكا وقال:
- خمسة من فضلك لعيون الغالية حبيبة وقُرَّة أبيها.
حديثهما أجبرني للتركيز معهما طوال الطريق حتى لمعت عيناي وشعرت بغُصَّة داخل قلبي؛ حيث تذكَّرت أبي غفر الله له على ما أنا به الآن، وقبل أن أبكي رأيت واحدة من الفريسكا على حقيبتي، فنظرت لذلك الرجل وابنته فقال لي:
- هذه لكِ، أنا أتحدث معكِ منذُ دقائق وأنتِ لم تنتبهي لي.
فاعتذرت له وقلت بابتسامة زائفة:
- آسفة لم أسمع حضرتك، وآسفة مرة ثانية لعدم قبولي لتلك الهدية الجميلة؛ فأنا لستُ من مُحبي الفريسكا.
لكن إصراره وابتسامته الجميلة أرغمتني على أخذها والاحتفاظ بها داخل الحقيبة، فما كان مني إلا أن شكرته وشكرت ابنته ليلىٰ والتي أعجبني اسمها كثيرًا، ثم استأذنت منهما لأغفو حتى الاقتراب من المحطة التي أريدها، لكن الحقيقة أنني كنت أتهرب من حديثي معهم والغُصَّة التي شعرت بها جعلتني أخاف من أن أبغض تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي تمتلك أعظم أب، فاستدرتُ نحو شباك القطار وأقنعتهما بأنني سأنام، رغم أني طوال الطريق أبكي دون صوت ودموعي تتساقط مني أكثر فأكثر، وبدأت في استحضار واجترار الماضي والذكريات ولعن الماضي والحاضر معًا.
لطالما نشتكي عقوق الوالدين يجب ألَّا نغفل عن عقوق الأبناء، وأنت كأب مثلما تبحث عن بر أبنائك لك، فابدأ في برهم أولًا، منذُ الصغر وأنا أشعر أنني يتيمة، ما فعله أبي بي ليس بهين حتى أسامحه.
كنت أرى آباء أصدقائي يقومون باحتضانهم وأنا لا، لم يحتضنني أبي ولو لمرةٍ واحدة منذُ أن وُلِدت، كان يمتلك أكبر قدر من العصبية، ولديه قدرة عالية على إهانة أبنائه والتقليل منهم سواء بينه وبينهم أو بين الناس أيضًا، يكره أن ينظر لي ويراني أضحك، فحتى ضحكاتي البسيطة كانت تضايقه وتسبِّب له الحزن الشديد، لم يخرج معي ولو لمرة لنشتري شيئًا سويًّا، جعلني أبي كسيرة الفؤاد هشة الروح.
طوى الطبيب الورقة واحتفظ بها في جيب بنطاله، وقرر الذهاب لسارة فذهب لموظفة الاستقبال وسألها عن غرفة سارة، فنظرت له مبتسمةً وقالت:
- مرحبًا دكتور أحمد، نحن على علم بوصولك إلى هنا اليوم، لكن مَن سارة التي تريدها؟
- مرحبًا بكِ، اسمها سارة سعد، هي سيدة في العقد الثالث من عمرها تقريبًا.
- حسنًا، ستدخل من هذا الممر وقبل أن تصل لآخره ستجد الغرفة رقم ٣٠١ وهي غرفة سارة.
- شكرًا جزيلًا.
وبدأ في السير نحو الممر للوصول لغرفتها، وقبل أن يصل تسمَّر في مكانه وضرب جبينه بكفه بعدما تذكَّر أنَّه لم يحتسِ كوبه المفضَّل من الشاي بالنعناع، فهو يحبه ويُحسن له مزاجه، فرجع للوراء ونظر لموظفة الاستقبال قائلًا لها:
- أين الساعي؟
- ماذا تريد؟ أنا سأحضر لك ما تريده.
- آسف لكِ، لكن أريد كوبًا من الشاي بالنعناع، وفضلًا لا أريده "شاي نعناع فتلة" أريد شاي مصري أصيل مع عود النعناع الأخضر.
ابتسمت الموظفة للدكتور أحمد وقالت:
- بالطبع يا دكتور، ألف هنا مقدَّمًا.
- شكرًا لكِ، أرسليه مع الساعي على غرفة سارة، سأحتسيه هناك.
- على الرحب والسعة، حسنًا.
وصل الدكتور أحمد غرفة سارة وطرق ثلاث مرات، ثم أمسك بمقبض الباب وفتحه فلم يُحرك دخوله ساكنًا لسارة، فقام بسحب كرسي بلاستيكي وجلس جوار سريرها، وبدأ معها طرف الحديث قائلًا:
- لم أشرب مشروبي المفضَّل قبل مجيئي للمصحة، أتدرين ما السبب؟
لم تجِب عليه سارة، وظلَّت صامتةً فأردف قائلًا:
- لأنني استيقظت متأخرًا، ولو وجَّهتِ لي سؤالًا وقلتِ لي: ولِمَ استيقظت متأخرًا؟ سأقول لكِ: لأنني نمت متأخرًا بعض الشيء، أنا لا أحب السهر، لكن كنت أشاهد مباراةً مهمة، فالكُرة هي شغفي الوحيد ولا أحب تفويت مباراة واحدة. أتدرين؟ أنا لم أذهب لمدير المستشفى وجئت إليكِ أولًا.
وظل يتحدث كثيرًا وهي كما هي ملتزمة الصمت، وإذ بها بنظرة سخرية تقطع الصمت قائلة:
- دائمًا كانت تقودني قدمي نحو تلك المستشفى فأنظر لها متأملةً فيها بقوة، كنت أشعر بألم في صدري وحزن شديد على كل فرد بداخلها، والآن أصبحت فردًا فيها أيضًا.
قطع الساعي حديث سارة فقد أحضر الشاي بالنعناع للدكتور أحمد، أخذه منه أحمد وشكره، ثم قال لسارة:
- وماذا بعد؟
أمسكت برأسها وصرخت قائلة:
- من فضلك أخرج من الغرفة الآن.
واستكملت في الصراخ بقوة وطردت دكتور أحمد فخرج من الغرفة ولم يحاول أن يهدئها، وبدأ في التجول داخل المستشفى وذهب إلى المدير فرحب به ترحيب حارًّا قائلًا:
- دكتورنا العزيز أحمد، حللت أهلًا ووطِئت سهلًا، كيف حالك؟
- الحمد لله بخير، وصلني خطابكم اليوم، أعتقد كان من المفترض أن يصلني البارحة.
- نعم، البارحة.. فنحن أرسلناه من يوم ١٩ يوليو على علم بأنه سيصل لك يوم ٢٠ يوليو وأنك ستأتي بعد استلامه بيوم.
- خيرًا إن شاء الله، قرأت التقرير لكن أريد أن أعرف مَن كان الطبيب المعالج لسارة؟
- أكثر من طبيب وطبيبة، لكن آخر مَن حاول معالجة سارة هي الدكتورة مريم، أعتقد أنك تعرفها؟
- أجل، أعرفها.
- أريد الذهاب إليها من فضلك.
- حسنًا، لكن قُل لي أولًا ما هي قهوتك؟
- احتسيتُ شايًا بالنعناع قبل أن أذهب لسارة، شكرًا لك.
- ذهبت لسارة؟ داهية أنت يا دكتور أحمد، وتُحب أن تبدأ سريعًا سريعًا.
- الطب النفسي لا يُحب التأجيل، المرضى النفسيون أولى بكل لحظة، فإن الثانية الواحدة تفرق معهم.
ضغط المدير على الجرس ثلاث ضغطات لترد موظفة من موظفات الاستقبال بصوت رقيق أشبه بصوت موظفات خدمة العملاء وهي مثلهن، موظفة رقيقة لكن مهملة، فقال لها:
- تعالَي إلى هنا.
ثم نظر لأحمد قبل أن يُعطيه علبة من الـ panadol extra قائلًا بمزح:
- ستحتاج هذا حتمًا.
- لمَ؟
- ستعرف بعد دقائق.
طرقت موظفة الاستقبال الباب ودخلت للمكتب بعدما أذِنَ لها المدير، وطلب منها أن تأخذ دكتور أحمد للدكتورة مريم، فأخذته معها وطوال الطريق تثرثر فهي حقًّا مزعجة للغاية.
ثم قالت لأحمد:
- هذا مكتب الدكتورة مريم.
- شكرًا لكِ.
قال أحمد في قرارة نفسه:
- كان مُحقًّا، فأنا أحتاج للـ panadol أو ربما أحتاج رأسًا جديدًا، يا الله! ما هذه الموظفة، إنها تُشبه الراديو، لا تشعر بالتعب من كم المواضيع التي تتحدث فيها، فهي تتكلم فيما تعرف وفيما لا تعرف.
نظر لساعته ثم طرق باب المكتب، وقام بفتحه بعد ١٠ ثوانٍ بعدما سمع صوتًا من الداخل يقول:
- تفضَّل يا مَن بالخارج.
فوجد الدكتورة مريم تنظر من شُرفة المكتب على المرضى، حاول أن يتنحنح حتى تنتبه له فاستدارت ونظرت إليه قائلة:
- دكتور أحمد عزيز، أهلًا وسهلًا بكَ.. تفضَّل بالجلوس.
ثم جلس الاثنان مقابل بعضهما، فبدأ أحمد الحديث قائلًا:
- أخبارك يا دكتورة مريم؟
- بخير وأنت؟
- الحمد لله على ما يُرام، جئت إليكِ؛ لأنني سأتولى معالجة المريضة التي تُدعَى سارة سعد.
ابتلعت ريقها ورمشت ثم نظرت على يمينها وقالت:
- حضرتك تُحب الاستعجال دائمًا، انتظر قليلًا فاليوم هو أول يوم لك بالمستشفى.
- تحمَّلي سخافتي يا دكتورة مريم وحاولي مساعدتي.
أمسكت بقلم ومن شدة ما تشعر بيه انكسر بيديها وقالت له:
- حسنًا، كما تشاء.
سارة كانت تعاني من عدة مشكلات ومنها Dissociative identity disorder أمسكت بعض الأوراق ليفهم أنها مشغولة ويتركها ويرحل، فلم يسألها فقالت له:
- معذرةً أنا مشغولة اليوم، أيمكننا التحدث في وقتٍ لاحق؟
- حسنًا آسف لكِ، وشكرًا لمساعدتكِ لي.
- على الرحب والسعة.
ثم أخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها وقامت بالاتصال برقم هاتف مجهول الهُوية، وقالت بعصبية مفرطة:
- دكتور أحمد عزيز هنا، هذه كارثة، أحمد عزيز داهية، داهية حقًّا.
- حسنًا حسنًا، سأعاود الاتصال بك في وقتٍ لاحق، مع السلامة الآن.
وحينما خرج من مكتبها وجد موظف من موظفين الاستقبال ينتظره، أعطاه مفتاحًا وقال له:
- هذا المفتاح الخاص بمكتب حضرتك، وهو ثالث مكتب ناحية اليمين، أنرت قسم الصحة النفسية يا دكتور أحمد.
- أشكرك يا...
ثم اقترب من موظف الاستقبال وقرأ اسمه المكتوب بالـ "id" وقال:
- يا وليد، أشكرك يا وليد.
ذهب أحمد لمكتبه ومعه تقرير سارة المرسَل مع الخطاب، وفتح باب المكتب وقبل أن يجلس وجد أمامه الساعي، رحب به أيضًا وقال له:
- أتريد أن تحتسي أي مشروب؟
- ما اسمك أولًا؟
- سالم.
- حسنًا يا سالم يا صاحب الوجه البشوش، أريد قهوةً سادة.
- حسنًا يا دكتور، أستأذن حضرتك.
- تفضَّل.
غادر الساعي المكتب ووقف أحمد أمام النافذة وفتحها، لكنه لم يتحمل أشعة الشمس الحارقة فقام بإغلاقها على الفور، وجلس على الكرسي ولفَّ به وهو يضحك ثم قال لنفسه:
- ما هذا الذي تفعله يا أحمد؟ الحمد لله لم يرَني أحد.
ثم أمسك بالتقرير وأرخى نظارته الطبية على أنفه، ثم أردف قائلًا:
- وما قصتكِ أنتِ أيضًا أيتها السيدة!
قطع جرس الهاتف تفكيره فأخرج هاتفه من جيبه، فكان الممرض الخاص بعيادته، ردَّ عليه قائلًا:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- ماذا ستفعل، لن تأتي اليوم إلى عملك يا دكتور أحمد؟
- نعم، سنؤجِّل جلسات اليوم ليومٍ آخر.
- حسنًا، في انتظار مكالمة حضرتك لتحديد المواعيد.
- حسنًا، مع السلامة.
- مع السلامة.
وبعد أن انتهى من تلك المكالمة طرق الساعي الباب ودخل حاملًا فنجان القهوة السادة، فأشار له دكتور أحمد على المكتب حتى يترك القهوة فوقه ويخرج؛ فقد كان مرهقًا للغاية حتى إنه لم يقدر على الرد.
وقبل أن يقرر الذهاب للمنزل ذهب مرة أخرى لسارة وبدأ معها طرف الحديث للمرة الثانية، فبكت بحرقة شديدة وهي تنظر له فقال لها:
- كل شيء سيصبح على ما يُرام، لكن ساعديني حتى أساعدكِ، البكاء ليس بحل، فوالله لو تقطعت أوصالكِ من البكاء العالم لن يلتفت، لن يلتفت أبدًا.
- لن تساعدني، ولا أريد أن تساعدني، الجميع يكذب، الجميع يتلاعب بي.
- أنا معكِ وليس ضدك.
- لا، الجميع ضدي.
- أنا لست الجميع، أنا هنا لأجلكِ.. أرجوكِ تحدَّثي معي.
ظلَّت سارة صامتةً وهي تضغط على يديها بقوة، ثم نظرت له بعدما كفكفت دموعها وقالت:
- ماذا بعدُ أيُّها الطبيب، العالم موحش لا جدوى من حديثي الذي تنتظره لمعالجتي، أنا على ما يُرام بصمتي الدائم هذا ونُدرة حديثي، فالكلام ومخالطة البشر هما مَن يجعلاني غاضبةً وثائرة.
ثم أمسكت بمجلدٍ كبير جوارها وأعطته للطبيب..
- هل لك أن تقرأ هذا المجلد؟ ربما تدري ما بي، لكن ليس الآن من فضلك.
أخذ الطبيب أحمد المجلد ليضعه تحت حافظة أوراقه التي يحملها وانصرف من الغرفة، مرَّ اليوم والآخر ولم تتحدث سارة عمَّا بها حتى مَلَّ أحمد وقرر عدم تولِّي مسؤوليتها، وفي يوم من الأيام ذهب لمكتبه وأخرج ورقةً وقلمًا وكتب:
"أمَّا بعد؛ أعتذر من سيادتكم على استحياء؛ لعدم تكملة الرحلة الطويلة من بعد أيامٍ قليلة من المحاولة مع الحالة، فالوضع ليس بهيِّن والبداية غير مبشِّرة بالمرة.
مُقدِّمه لسيادتكم: أحمد عزيز.
ذات يومٍ انقلبت المصحة رأسًا على عقب والسبب ليس محاولة لهروب سارة، بل الفاجعة التي جعلت لون السماء يتغير، جعلته أسود ينعي روح ضحية لمرضها النفسي، جعلت جميع مَن في المستشفى يبكون على هذا الخبر اللعين ويتعكر صفو السماء.
اليوم انتحرت سارة، فقد دخلت عليها الطبيبة مريم ووجدت سارة لا تتنفس وجوارها ملعقة غارقة بدمائها.
رنَّ هاتف الدكتور أحمد، وكان المتصل الدكتورة مريم.
- انتهت رحلة سارة يا دكتور أحمد.
- معقول؟ تمَّت معالجتها خلال يومين!
- لا، انتحرت.
- ........
- دكتور أحمد! دكتور أحمد!
سقط الهاتف من بين يديه وهو يرتجف ولم يصدِّق هذا الخبر، ظلَّ يتحرك في أرجاء الشقة كالمجنون وأجهش باكيًا حتى كاد يسيل الدم من عينيه، أخذ يُحدِّث نفسه قائلًا:
- كنت سأتراجع في قراري، والدليل أنني لم أقدِّم اعتذاري للإدارة ومزَّقت الورقة بعدما كتبت ما بها، لم أرِد التخلي عنها ولم أتخلَّ عن مريض من قبل، كنت سأحاول معها حتى تتحدث، كاد الندم يمزقني.
المجلد..
المجلد..
تذكَّر أحمد المجلد الذي تركته له سارة منذُ عدة أيام وهو لم يقرأ ولو جزءًا صغيرًا ممَّا به بعد، فبحث عنه كثيرًا ولم يجده ليشعر بخذلان وخيبة أمل فبحث مرارًا حتى وجده مختبئًا تحت الأوراق، أخذه معه لغرفته وقبل أن يبدأ فيه ذهب للمطبخ وأعدَّ قهوته ورجع للغرفة ثم جلس على السرير وبدأ في القراءة:
السلام على قلبك يا مَن تقرأ هذه الكلمات، عند قراءتك لتلك الكلمات المتراصة فاعلم أنني الآن بين يد الرحمٰن الذي هو أرحم بي منكم.
أنا الآن تركت لكم الدنيا وما بها من أذى ونفوذ، ولا أعلم هل سأكون في نعيم أم جحيم، لكني أدرك جيدًا كم رحمة الله واسعة ووسعت كل شيء وستشملني هذه المرة أيضًا!
بدايةً ما حدث لي كان منذُ زمنٍ بعيد منذُ أن وُلِدت فوجدتُ نفسي من محاربي السرطان، فقد عانيت من سرطان الرئة، توالت الخيبات عليَّ من كل اتجاه
من أهلي، أصدقائي، زوجي، دراستي وحتى صحتي النفسية وأفكاري السوداوية أيضًا لم ترحمني.
ترك أحمد المجلد ليغسل وجهه ثم ارتدى نظارته ليقرأ بتمعُّن، ففتح المجلد عشوائيًّا مرة أخرى ليقرأ هذه الكلمات:
"في عيادة الطبيب النفسي"
- وكان لديكِ القدرة لإقناعهم بذلك الوهم؟
- نعم، ربما أفشل دائمًا في تكوين العلاقات صداقة أو حب، لكن لم أفشل في الكذب عليهم، وأنا هنا بسبب نجاحي وتمثيلي العظيم، إذا حدث غير ذلك لن أكون هنا وأتحدث بهذه الشجاعة.
- والآن الفشل بالنسبة لكِ كان الأفضل والخيار الصائب، أليس كذلك؟
- لا، أنا سعيدة لنجاحي في تلك الأكذوبة.
- لِمَ سعيدة، لكذبكِ؟!
- نعم، كذب لكنني لم أؤذِ أحدًا.
- لماذا لم تخبري من حولكِ لطالما تقولين لم تؤذِ أحدًا وأتيتِ إلى هنا؟
- لم أقل الحقيقة حتى لا يراني من حولي بصورةٍ سيئة أكثر من ذلك، فأنا حقًّا لم أؤذِ أحدًا غير نفسي، فقد قمت بتشويه روحي وقلبي.
لكن أتدري؟ التعامل مع الأشخاص الوهميين كان لطيفًا، العالم الافتراضي كان فراشاتٍ وورود، أنا قمت بتجسيد أشخاص داخلي ومني ولي، أصبحت بـخمس شخصيات، شخصيتي الحقيقية السخيفة والمسالمة الهادئة وتلك الشخصية لم تكوِّن أي صداقات على مواقع التواصل الاجتماعي كالواقع تمامًا، ظلت وحيدةً هنا وهناك.
وثاني شخصية ذات الطابع الفظ الغليظ، كان لي شخصية قوية شرسة تتعامل بحزمٍ وقوة، الجميع يحاول الاقتراب مني وأن يكونوا أصدقائي رغم خوفهم الدائم مني ومن ردود أفعالي، وجسدت شخصيتين لاثنين من أصدقائي؛ وذلك لسد الاحتياج لصديق حتى إنني كنت أراسل نفسي من جميع الحسابات الزائفة هذه حتى اقتنع الجميع بوجود أصدقاء حولي ولم يلحظ أحد الحقيقة، حقيقة أنني وحيدة وجسدت أيضًا شخصًا آخر أُحبه وتأكَّد الجميع بأنني على صلة بشاب أحبه وسنتزوج قريبًا.
لم يكن كأي فصام.
قبل تجسيد أي شخصية منهم أشعر برعشة في جسدي كأني أتهيأ لدخولي في الشخصية والتعايش معها لمدة قصيرة، وكانت الرعشة في تزايد مع الشخصية القوية، قررت الذهاب للطبيب النفسي من قبل أو بالفعل ذهبت، لكن كنت خائفةً وما زلت خائفةً من أن تقوم بإيذائي كما فعلت سابقًا.
- خائفة ممَّن؟
- شخصيتي الثانية "القوية" هذه.
- جميعهم أنتِ، هل ستقومين بإيذاء نفسكِ؟
- نعم؛ لأني في اللاوعي، والشخصيات أعداء لكن في جسدٍ واحد، جميع شخصياتي كانت تتكاتف سويًّا لإخراج شخصٍ سوي، وهذا ما كنت أعتقده، لكن بعد ذلك أصبحوا أعداء وسأقول لك كيف، الخمس شخصيات كانت كل شخصية منهم لسد فراغ داخل سارة ولمنع الأذى عنها، بعد ذلك تضاربت أفكار كل شخصية لتكون المسيطرة على باقي الشخصيات وتعمل لصالحها، وتحاول السيطرة على جسدي ليصبح ملك شخصية واحدة، وغالبًا الشخصية القوية.
الفصام بدأ وأنا في العاشرة من عمري، والسبب الرفض.. الرفض الدائم.. رفض أهلي لي، رفض أصدقائي، رفض العالم لوجودي، الكون متآمر ضدي، الكون متآمر ضد سارة.
باءت محاولاتي في إيجاد صديق يفهم ما بي بالفشل حتى لجأت لمواقع التواصل الاجتماعي والحسابات الزائفة هذه، منذُ أن وُلِدتُ لم أجد أو أقابل أحدًا يشبهني، خصالهم واحدة والأسماء تختلف.
كقارئ وجد مكتبةً كبيرةً تحوي آلاف المجلدات الورقية ذات الأغلفة الجذابة الشائقة، وحينما شرع في القراءة فإذ به يجد ما بداخل المجلد الأول هو نفسه ما كُتِب بباقي المجلدات دون تغيير فشعر بالحسرة، إذ أنَّ العناوين قد اختلفت دون المضمون.
شعور بالامتلاء والفيضان لا أدري ماذا أقول بعد كل هذا.
هكذا دار الحديث بيني وبين الطبيب النفسي، لم أستطِع التلفُّظ بأي كلمة أخرى، فأنهيت الجلسة النفسية معه وتركته لأغادر العيادة.
جذبت مذكرات سارة انتباه الدكتور أحمد، فقام بإلغاء بعض الأعمال الخاصة به ليتفرغ للمجلد، وكان يفتحه بشكلٍ عشوائي ويقرأ ما تقع عيناه عليه، فقرأ...
نعم، حُب خاطئ لا تأخذك الدهشة يا مَن تقرأ هذا المجلد،
فما خفي كان أعظم وأسوأ.
فالشاب الثلاثيني لم يُحبني، فقط كان يحاول التسلية بي كما فعل بمَن قبلي أو ربما أحب حبي له، لكن لم يحبني أنا، لم يُحب سارة.. والأدهى أنه متزوج ولديه أطفال، وكأي رجل متزوج يقول ما يربطني بزوجتي هم الأطفال.
أطفال! أي أطفال؟! مَن تتركهم وتترك زوجتك لتبحث بين الفتيات عن ملذاتك؟ مَن لم ينصرهم القدَر وجاؤوا لهذه الدنيا ليجدوا أنَّهم أطفال لأبٍ قاسٍ أناني لا يهمه إلَّا نفسه فقط.
عجبًا له! فكان يتلاعب بجميع مَن حوله ومَن يراه يقول: هل هناك بشر بتلك المثالية؟! أيُّ مثالية هذه؟ تلك المصطنعة أو ما يُسمَّى بالنفاق؟
كل يومٍ أراه فيه كان بمثابة طعنة في منتصف قلبي، كل نظرة تحرق جوفي، لكن ما حدث لم يكُن بإرادتي، وبعد وقتٍ ليس بطويل قررت اللجوء لصديقتي التي تعرَّفت عليها من على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" وأحببتها، وهي الوحيدة مَن عرفت عني كل شيء، وكانت على علم بحساباتي الزائفة لكن دائمًا الطعنة تأتي ممَّن نستثنيه، تأتي من الأقربين.
كانت صديقتي هذه أكبر مني سنًّا، وذات يومٍ قلت لها:
- الفتاة البريئة التي تخاف الله وعلى قدرٍ ليس بقليل من العلم والدين والخُلق وقعت أسيرةً لشاب ثلاثيني، فهذا الشاب يُدعى كريم هو عشريني الهيئة، ثلاثيني العمر، أربعيني التفكير كان يعي ما يفعل قبل القيام به، رجل يأسر أي فتاة بنظراته التي تجبرنا نحن -الفتيات- على الاستسلام واللين وكلماته التي لها عظيم الأثر عليَّ، فكانت تقع على قلبي مثل حبَّات المطر التي تروي أرضٍ بور لتُزهر من جديد، كان يفهم ما بي قبل النطق به، تلميحاته جذابة للغاية، فقد أحببته! كنت أظن هذا ما يُسمَّى إعجاب فقط، لكن لا، أنا أحببته.. فـقد أسَرني حُب خاطئ يا صديقتي.
كانت تُنصت لي دون استيعاب وعقلها يدور به جملة واحدة: هل سارة تفعل ما فعلته هذا؟
طوى الطبيب تلك الورقة وانتقل لورقةٍ أخرى...
حينما ذهبتُ لتلك المستشفى كنت شغوفةً بالعمل هناك، لم أعِ ما كان يُخفيه القدر لي في هذه السن الصغيرة، كان أول يوم لي مهم للغاية فكان تحديًا لنفسي وأهلي ولمن معي؛ لإثبات أنني جديرة بذلك العمل، مرَّ اليوم الأول والثاني والثالث.. مرَّت أيام كُثُر هناك وفي كل يومٍ أجد أنني في المكان الخاطئ، هذا ليس مكاني وهؤلاء الأشخاص ليسوا مثلي.
وجدتُ الفتيات ليسوا كسارة فبينهن كل شيءٍ مُباح، لم يضعن لأنفسهن خطوطًا حمراء، كنت أخاف أن يأتي اليوم الذي أفعل فيه ما يفعلن.
وبعد مرور بعض الوقت لاحظتُ عليَّ التغير، تنازلت عن بعضٍ من مبادئي، أحاول تقليد الفتيات من حولي في ضحكاتهن وأسلوبهن حتى مخالطتهن للرجال، لقد نسيت أن أقول إن عملي بتلك المستشفى يجمعني بالرجال أيضًا كما يجمعني بالنساء، ومن قبل ذهابي إلى هناك أو حتى التفكير لخروجي من المنزل كنت أعي تمامًا أنَّ مُخالطتي للرجال أمر لا بُدَّ منه، لكن هناك حدود يجب عليَّ عدم تجاوزها ومراعاتها؛ لأنني ذاهبة فقط للعمل من أجل المال والتعلم أيضًا لكسب الخبرة، لكن ما حدث كان مفاجأةً لي قبل أي شخص غيري وتغيَّرت.
ظلَّ دكتور أحمد ينتقل بين أوراق المجلد ويقرأ ما دوَّنته سارة طيلة حياتها، ووجد أن المجلد يخبر مَن سيقرؤه عن سر صمت سارة الدائم، وأن محاولاتها الدائمة للبوح والتي كانت تبوء بالفشل هي السبب في عُزلتها وصمتها وتدوينها لتلك الكلمات.
وأنَّ المجلد يحوي معاناة سارة كاملةً منذُ ولادتها ومعاناتها مع مرض السرطان حتى دخولها المصحة النفسية، فقرر أن يُكمل ما بدأه من قراءةٍ، لكن انتقل إلى آخر أوراق المجلد ليقرأ:
تلخيصًا لـِمَا كُتِب في الأوراق السابقة سأقصُّ ما حدث رُبما مَن أعطيه المجلد يشعر بالملل ولا يُكمل ما أدوِّنه طيلة رحلتي.
حينما وُلِدت سارة -والتي تسرد لك قصتها الآن- لم تملأ السعادة أرجاء المنزل كأي مولود جديد يُولَد في مجتمعنا، لكن حدث العكس.. ساد الحزن والأسى المنزل؛ لأنني أنثى وكأنَّ الإناث هنَّ مَن خَلقن أنفسهن وأنهنَّ عار وكارثة عُظمى، وعند دخولي للمدرسة شعرت بالتعاسة، فكلما اقتربتُ من صديقة كانت ترفض صداقتي لذلك كنت أكره الدراسة وأرسب دائمًا، كنت على يقين أنَّ الصداقة تفعل الكثير والكثير ولو كان لي صديقة واحدة تقوم بتشجيعي سأكون ناجحة، لكن حمدًا لله وبعد مقابلة العديد من الفتيات والأصدقاء لم أحاول أن أكوِّن علاقة صداقة واحدة مرة أخرى، فجميعهن واحد صفاتهن تتكرر رغم اختلاف ملامحهن.
وعند مرضي كنت أتمنى لو توفَّاني الله، فقد كان الكيماوي يُغير شكلي، يُسقط شعري وألقى الكثير من السخرية، فأنا أتذكَّر أنَّ ابنة خالتي سخرت مني ومن مرضي اللعين هذا، وذات يوم -وبعد تلقي أول جرعة كيماوي- أصرَّت أن تمشط لي شعري وكان يتساقط، فقالت لي: شعركِ يتساقط كشعر الهرة! وتعالىٰ صوتها بالضحك عليَّ ولم تعلم ما أثر ضحكاتها هذه على قلبي، فكانت ضحكاتها تُفتِّت قلبي.
وفي سن السابعة عشر أحببت الرجل الخاطئ، والذي علِمت بعد ذلك أنَّه متزوج ولديه أطفال ومن ثَم تزوجت من رجل لا أحبه وحاولتُ مع قلبي حتى نحبه لكن قلبي رافض تمامًا، وقام بخيانتي مع أعز صديقاتي، والتي أحببتها كثيرًا بعد أن تعرفت عليها عن طريق موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، وكنت أعتقد أنها تحبني أيضًا، فهي مَن فعلت بي هكذا وأنا الآن في مصحة نفسية،
والسبب.. هي، زوجي وأبي الذي لا يكترث لي ولإخوتي، غليظ الأسلوب عصبي الطبع.
وبعد التجارب القاسية والتعثُّر الدائم أدركت أنَّ المرض النفسي أصعب بكثير من المرض الجسدي، ليست جلسات الكيماوي هي مَن جعلتني أدوِّن مذكراتي وأقرر الانتحار، لكن المرض النفسي فعل.
وقف أحمد أمام النافذة يُفكر محدِّثًا نفسه:
- مَن هي صديقة سارة التي فعلت بها كل هذا؟ ولِمَ سارة لم تذكر اسمها في تلك المذكرات التي دوَّنتها وتتحدث عنها في كل ورقةٍ بطريقةٍ مجهولة للغاية؟ هناك حلقة مفقودة.
قطع جرس الباب تفكيره فترك المجلد من يديه وخرج من غرفته متجهًا لباب الشقة، ففتح ووجد أمام الباب أخاه الأصغر يحيى، عمره أصغر من عمر أخيه الذي يكبرهُ بثلاث سنوات، شاب شعره كالفحم وعيناه سوداوان ذا أنف صغير، حينما تنظر لملامحه تُصيبك الطمأنينة والسكينة؛ فهو من الأطباء الذين يمتلكون قدرةً تحليليةً عالية. فقابلا بعضهما بالسلام الحار ولهفة الاشتياق وتعانقا عناقًا طويلًا.
- لماذا لم تقل لي أنَّك ستصل اليوم من المكسيك يا يحيى؛ لأنتظرك بالمطار؟
- لا عليك، فقد قررت المجيء دون سابق إنذار لشيءٍ مهم.
- ماذا؟
- بالطبع سأقول لك.
ساعد أحمد يحيى في إفراغ حقائبه وقال له:
- قُم وخذ حمامًا دافئًا وغيِّر ملابسك، وأنا سأكمل ترتيب حقائبك وتجهيز الغرفة لك؛ كي تستريح من متاعب السفر، لكن بعدما أجهِّز الطعام لنتناول وجبة الغداء معًا.
لكن يحيى لم يوافقه قائلًا:
- هل تعرف أنَّ الطبيب المعالج لسارة قبلك هو الدكتور سيف صديق طفولتك؟
- لا، ليس الدكتور سيف، ما عرفته أنَّ الدكتورة مريم هي آخر مَن حاول معالجة سارة.
- قبل دخول سارة للمستشفى كان الدكتور سيف هو آخر طبيب معالج لها هذا ما عرفته، لكن مَن يتابع حالتها بالمستشفى هي الدكتورة مريم، نعم.
- لا أعرف كل هذا، لكن سارة تركت لي مجلدًا لا أدري أكان لي وكانت تعني أن تتركه لي أم هذه صدفة، لكن هناك حلقات كثيرة مفقودة.
أعطى المجلد ليحيى؛ ليساعده فهو أيضًا طبيب نفسي بالمكسيك وطبيب ماهر ومُلم بالكثير من العلم، ثم تركه ودخل للمطبخ وصرخ من الداخل حتى يسمعه يحيى قائلًا:
- قم بالاستحمام، واترك المجلد حتى نأكل.
- حسنًا.
وبعد مدة ليست بطويلة خرج يحيى من الحمام، وأحمد من المطبخ حاملًا الأطباق والخبز وساعده يحيى في تجهيز الطاولة ووضع الطعام عليها، ونظر أحمد ليحيى فوجده ممسكًا بالملعقة وشارد بخياله بعيدًا، فاقترب منه وبأعلى صوته قال:
- يحيى يحيى يحيى.. ما بك؟
- لا شيء.
- حقًّا؟
- لا ترهق نفسك في التفكير بي أنا على ما يُرام، لكني سأقوم لأنام قليلًا، أنت ماذا ستفعل؟
- سأذهب للمصحة.
ذهب أحمد للمصحة النفسية ومكث يحيى في المنزل ولم ينَم، لكنه بدأ في القراءة وعلى الجانب الآخر كان دكتور أحمد يتحدث مع الدكتورة مريم عن سارة، فقالت له:
- سارة كانت تعاني من Severe mental disorders ومؤخَّرًا عانت من OCD.
عقد حاجبيه وقال لها باستغراب وهو يخلع نظارته الطبية:
- كانت تعاني من الوسواس القهري؟!
- نعم، لمَ كل هذه الدهشة والاستغراب؟
- لا شيء، لكن تقرير سارة الذي وصلني لم يُكتَب فيه أنها تعاني من Obsessive compulsive disorder، لكن لا عليكِ.. استكملي حديثكِ.
قالت وهي تبتسم ابتسامةً صفراء:
- وأيضًا تتلاعب بمن حولها وتحاول دائمًا استعطاف من يراها فلا تنخدع، وقلت لك من قبل أنها كانت تعاني من Dissociative identity disorder .
وبعد حديثها والذي طال كثيرًا شعر دكتور أحمد بعدم ارتياح لحديث دكتورة مريم، واستأذن منها ليُنهي أشغاله، فأردفت قائلة:
- زوج سارة أتى مرة واحدة لزيارة زوجته، ولم يفعل ذلك مرة ثانية.
فأنهى الحديث معها واستأذن منها مرة ثانية وذهب لغرفة سارة، وبدأ يفتش هنا وهناك عن أي أوراقٍ كتبتها ثم أمسك بهاتفه للاتصال بدكتور سيف، وبينما يبحث عن هاتف صديقه وجد على سرير سارة حروفًا محفورة، لكن لا يمكن قراءتها بسهولة، فقال لنفسه:
- لطالما يمكنها الكتابة بالمجلد لِـمَ حاولت الحفر على السرير رغم صعوبة هذا؟ وتأكد من ظنونه بأنَّ هناك حلقات مفقودة، فهرول إلى المنزل ليتحدَّث مع يحيى والذي وجده يقرأ المجلد فقال له:
- يمكنك تأجيل القراءة لوقتٍ آخر، فجسدك يحتاج للقليل من الراحة.
- لا، سأُكمل ما بدأته.
ثم ترك المجلد وقال لأخيه الأكبر:
- هناك حرف أعلى كل صفحة.
-أين؟ لم ألحظ ذلك، أرِني هذا.
فَأمسك يحيى المجلد مرة أخرى وأعطاه لأحمد، حدَّق أحمد النظر لتلك الأحرُف وذهب بخياله للمصحة وبالتحديد سرير سارة، ثم قال بتوتر ملحوظ:
- سأذهب للمصحة الآن.
ولم ينتظر أي رد فعل من يحيى وغادر، ثم ركب سيارته الخاصة وانطلق بسرعة جنونية نحو المستشفى، وبدأ يُحدِّث نفسه بصوتٍ عالٍ:
- هذا يعني أنَّ صديقة سارة هي...
قطع حديثه مع نفسه سائق يقف أمامه بالحافلة، وأخرج رأسه من النافذة ليصرخ في وجهه:
- ألم تدرك ما هي مخاطر القيادة بهذه السرعة الجنونية يا أنت؟
اعتذر أحمد باستحياء وترك السائق ثم أكمل طريقه حتى وصل المستشفى ومن ثَمَّ غرفة سارة، وحاول قراءة الأحرُف المكتوبة، لكن سمع صوت خطوات خافتة.