الأقدار وحدها هي التي جذبت سعيداً إلى هذا الإعلان الملصق على حائط بيته المبني من الطوب اللبن، كان الليل قد جنَّ عليه حتى صار بالكاد يمكنه أن يميز ما تضمنه الإعلان، ولولا ضوء مصباح وانٍ حمله في يمناه، وأشعة نجوم زاهرة أضاءت محيطه المعتم بشيء من إشراق، لاستعصى على الرجل أن يميز، في هذا الظلام، هذا الذي استوقفه فشغله. ولعل نفسه كانت تود - لولا أن رأت هذا الطارئ الجديد - أن يلج بيته، فيستنيم بين جدرانه إلى لحظات خلوة افتقدها، زمناً، في عراء الأرض، هذه التي جدَّ في حراثتها طوال الظهيرة، والعصاري، وإلى ما بعد المغيب. واقترب من الإعلان، وقال وقد أرهقته الرؤية الليلية من أمره عسراً :
- " دي لسبس.. يدعو الفلاحين المصريين.. إلى أداء واجبهم في حفر القناة.. وإلى نقل الرمال في برزخ السويس.. إن ماء الشرب متوفر.. الأجور وفق الإنتاج، لا عدد الأيام..".
وبدا أن صوته وسط الصمت الليلي قد أيقظ جاره علياً، الذي فتح الباب، وقال وللنوم في صوته أثر، مستخفاً :
- ومن ذا يروم اللحاق بخدمة المغامر الفرنسي إلا أحمق فقد بصيرته وعقله؟
كان الناموس الذي اتخذ من مصباح سعيد مرتعاً يلهو حوله، قد خلقت حركته العابثة ظلالاً، تجلت على الحائط حين ظهور عليّ حاملاً شمعته، فقال الأول يرقبها :
- لم يكن لدي لسبس أن يتجرأ على بث دعايته، لولا أن الحكومة المصرية ساعدته في هذا السبيل، فقلبت فشله الذي دام أمداً طويلاً، إلى نجاح فعال..
وظل يرمق جاره حيناً، وكان الآخر رافلاً في لباس النوم، مرتدياً نعلاً تهتكت أطرافه، وأما يداه فقد أمجلتا من طول استعمال الفأس، ومزاولة الزراعة، حتى قال :
- ولكنه كان قد أعطى وعداً (يريد دي لسبس) قاطعاً بألا يلجأ، تحت أي ظرف، إلى نظام السخرة..
وحرك عليُّ يمناه في عنف، منفعلاً، فتبدى مثيل الإعلان الدعائي، على مبناه، ثم ما لبث أن انكشفت على هاته البيوت المتاخمة للرجلين، نظائر أخرى مماثلة، فتولت عن سعيد دهشته الأولى، وقال عليُّ :
- بربك، وهل يقصد إلينا الأوربيون، إلا لاستغلالنا؟
استقر جواب عليّ في قلب سعيد، جاثماً، ثقيلاً، وأخذ من وقته مدة يقلب أوجه العواقب، ويختبر المآلات، قال كأنه يغالب إحساسه بالخوف :
- من الخير أن الحكومة المصرية لم تصدر بخصوص هذا الموضوع أوامر مكتوبة إلى مديري الأقاليم.. إن المحافظين والمديرين - أيضاً - لم يصدروا إلى العمد ورجال الإدارة أوامر مكتوبة لجمع العمال..
قال عليُّ وهو ينصرف، متثائباً :
- وماذا نملك إلا الصبر والتصبر؟ وفي الحق فلسنا (الفلاحين) أكثر من أزهار قطن تميل للرياح متى عصفت أو زمجرت !
ولم يكن سعيد على حال يسمح له بأن يستطيب تعبيراً إنشائياً كالذي سمعه، ولعل نفسه حارت في معرفة المقصود بالرياح العاصفة المزمجرة، حارت بين الحكومة المصرية (التي يتزعمها والٍ يحمل اسمه)، وبين شركة القناة (التي يترأس مشروعها المهندس الفرنسي المنبوذ)، دون أن تقطع بجواب، أو أن تندفع إلى سؤال.. ثم لعله لم يعرف كيف قفزت إلى خاطره، بعد زمان اضطراب وتحير، أغنية بات يرددها، مرة بعد مرة، في أوان موسم جني القمح، منذ كان صبياً يافعاً، وحتى أن استوى رجلاً:
- " زماننا قلبنا وعدلنا.. وآدى ريحة الجنة فاحت..".
وأحس عليُّ نغماً مألوفاً يتناهى إلى أذنيه الناعستين، فاستتبع وقد اجتمع صوته وصوت صاحبه على الغناء :
- " لما جينا ناخد عدلنا.. لقينا الأيام ولت وراحت..!".
وبدا أن الأنغام المألوفة قد بددت وحشة المصاير المجهولة.. ولكن ما أن استدار سعيد عن ناصية عليّ، فوجد قبالته وجه دي لسبس الجامد، يطالعه كالذي انبعث من الرماد بعد رقاد، بشاربه المفتول، وبدلته السوداء، ونظرته الرصينة، وشعره الأبيض، متوسطاً أعلى الإعلان الدعائي، حتى استولى عليه الذعر من جديد، دون أن يفصح هذه المرة، لأحد، عما اعتراه من وجل.. وكتم انفعاله فقال لما دلف إلى بيته :
- سلام الله على المؤمنين..
وكان للرجل بنون ثلاثة، وقال مبارك وهو أكبر أبنائه :
- وعليكم السلام..(ثم وهو يعتدل في فراشه استجابة لحضور أبيه..) هل رأيت ما رأيناه؟ (يريد الإعلان..) ولماذا تلجأ الحكومة إلى لصق الإعلانات على بنايات الفلاحين، وهي التي لم تدع فرصة إلا وأمسكت فيها لنا بالعصا؟
وبدا سؤال الابن عابراً لحال الاستقبال،.. فقال الأب بعد أن أخذ مدة يتدراكه فيها :
- لدي تفسيران، لا يتنافى صحة الواحد منهما، مع احتمال صحة الآخر، أحدهما : أنها تروم تضليل الرأي العام، بقولها إن جمع العمال جاء وفق الطريقة الحرة، وأن اجتماعهم كان بمطلق حريتهم، وبمحض رغبتهم، استجابة لما رأوه في الإعلان المنشور من عرض سخي !
وهنالك قاطع إبراهيم، أصغر الأبناء، قول أبيه، فصاح قائلاً في هذر :
- لا يمكن أن يكون هذا حق، لأن وجه دي لسبس المطبوع على الجد - وهذا من المعروف المحقق - من شأنه أن يمتص الامتنان من المكان امتصاص النحلة لرحيق الزهر،.. فلا يمكن بعدئذٍ أن يلحق به الناس عن طيب خاطر.
وتابع الأب في غير اكتراث لمزاح الابن :
- والثاني : أنها تخشى ما يمكن أن يذاع على الألسنة الأوروبية، من أقاويل تعرضها للمساءلة، من جهة تركيا، على التحديد،.. ثم إن صحائف كالـTimes في إنجلترا وغيرها لن ترتضي أساليب العصور الوسطى، بعد أن اعتبرت نفسها حارسة للمدنية الحديثة ووكيلة لها، ولعلها تحرض حكومتها ذات النفوذ هنا على التحرك..
وقال إبراهيم، يقصد تفنيد التفسير الثاني :
- إن الزمن حليف قوي للشركة، وكلما مضت الأيام زاد مركزها توطداً أمام تردد الحكومة التركية التي انتهجت سياسة الامتناع عن الموافقة على المشروع لا رفضه،.. ولأجل هذا فإني مُستبعد الثاني !
وكان إلمام سعيد بطرف من أحوال السياسة الخارجية، وإتقانه شيئاً من الإنجليزية، الناجمين عن تجارته بالقطن مع أهل الديار الأوروبية، قد هيأ له بين الفلاحين، في قريته، موقع الناصح، وصيره قبلة يلوذون إليها، متى غمض عليهم غامض.. وكم طاب له، قبل اليوم، مرات، أن يرفل في جلبابه البسيط، وفي يده خاتم من الزبرجد الأخضر (حجر كريم يشبه الزمرد..)، فيقول مباهياً :
- ولهذا الخاتم نظيره الأصفر القبرصي لكنني آثرت المصري عليه ! (ولم يكن الرجل قد وطأت قدماه قبرص العثمانية في حياته ولا اختلط بقاطنيها من التُرك ساعة !)
ويأخذ يجوب أنحية قريته الموادعة، فيشرب اللبن الرائب مع المعدمين، يعد البنات بالزوج المثالي متى تواصوا بالصبر، ويشد على أيدي الرجال فيستحثهم على البذل، ثم يجود على العائزين بصنوف النعمة، في مناسبات المولد النبوي، والعيدين، والأفراح، والموالد، وغيرها،.. أجل، كان ذلك كله يسعده،.. وكم اختبأت نفسه وراء مثل هذه الأمور حتى تناسى الناس حقيقة كونه مالكاً للأطيان، ثرياً.. ولكن ما أن يحدث أن تصله منهم، أو من ذويهم، أخبار مترامية، تصف هجرة أصهارهم لقراهم ولزراعتهم، في سبيل العمل في حفر الترعة الجديدة، ونقل الرمال في برزخ السويس، فإنه ما يلبث أن يطمئنهم جاداً بقوله :
- أولم يكن الوالي سعيد أول من أعطى الفلاح حق الملكية فصيره سيداً لأرضه ولمحصوله؟ فلم تسيئون به الظنون؟ وفي الخامس من أغسطس من العام 1858م، أي قبل ثلاث سنوات بالضبط من اليوم، حين عُدلت اللائحة السعيدية، انتهت مشكلات الفلاح إلى غير رجعة.. !
على هذا النحو، كان سعيد، وحتى عهد قريب، يصدر عن يقين عميق بأن شيئاً، في دنياه الآمنة، ليس يدعو إلى الخوف. ذلك قبل أن تعاظمت، في الأشهر التي خلت، مخاوفه - مثلما تعاظمت لدى أهل البلاد كلها - بعد أن تكررت على أسماعه (وأسماعهم)، أنباء جمع الفلاحين، بطرق كانت لوحشيتها وغلظتها، موضع تبارى الخلائق في قصها وسردها، ثم كانت رؤيته للإعلان الدعائي ملتصقاً بجدران بيته مثار فزع نفسه القلقة، كمثل ضربة أخيرة أصابت بناء متهالك، فهوت به.. وقال عيسى، الابن الأوسط :
- أخشى أن تشتد علينا العقدة، فلا يجد أولي الأمر بداً من اشتراك أكابر ملاك الأطيان، وأبنائهم، في أعمال الحفر.. والشركة سلخت فوق العامين منذ شرعت في عمليات المشروع ولم تصل لنتيجة عملية ناجزة، ولعلها ترضخ أمام ضغوط الجمعية العامة للمساهمين والتي من المقرر أن يجري لها انعقاد عما قريب !
وقال إبراهيم، في تقرير :
- منذ أن ارتضت البلاد الاستدانة إلى شركة القناة، وأحد ليس في مأمن، لقد قبل الوالي - في الفرمان الأول - شروطاً لا يقبل بها عاقل ! هذه خطيئة أن تُترك الأمور فيقبض عليها شخص واحد.
وقال مبارك، وصوته من الغلظة فوق أخويه :
- لم لا تدعا الهواجس جانباً.. إن رأيي وأبي قبل أن يستولي عليه الخوف الأخير، واحد.. أنسيتما حالنا قبل اللائحة؟ وقد كنا قبلها أجراء، نمنح الخراج، كمثل الفتات، ونصل الليل إلى النهار، أذلاء مقهورين.. حتى أن تولى سعيد فصرنا ملاكاً، يقصدنا الأوروبيون، من شتى أصقاع الأرض، ويتعاملون معنا.. وهل الذي عنى بحالنا يسوقنا إلى التهلكة؟
وقال عيسى، في شيء من لامبالاة :
- وماذا عن الأنباء، والوقائع،.. أكلها من سبيل الإفك؟
وقال مبارك، وهو ينظر إلى أبيه، كالذي يستنطقه الجواب :
- الأفواه عند النوادي.. ماذا يشبعها إلا اللغو؟ وفي الحق فلا يمكن أن يصح كل ما يصلنا عن أحوال العمال، هناك، وفيه كثير متضارب، متناقض، وهؤلاء الذين يضيفون ويحذفون، ينتهون إلى الفرى والأكاذيب المفزعتين!
وبدا أن الأب قد غاب عن أحاديث أبنائه، فتبدى شارد الذهن، كالذي يجول الفكر في غامض لم يستبنه، وقال وهو يخرج الإعلان من جيبه :
- انظروا إليه.. لقد دعاني الفضول إلى اقتطاعه والاحتفاظ به..
وقال مبارك، في رصانة، بعدما أبصر وجه دي لسبس منكمشاً بفعل اهتراء الورقة :
- لقد رأينا مثيله على أبواب المساجد، ومحطات السكك الحديدية، والأسواق، والشوارع الآهلة بالسكان، وحتى أقسام البوليس، إن آلافاً منه طبعت ووزعت في القرى والنجوع!.. لابد أن ناشريه قد أخذوا يكثرون، ويظهر أنهم سيكثرون كلما تقدمت الأيام.
وكان الأب يقرأ بصوت حائر، مرتجف، تفاصيل ما احتواه الإعلان. مثله - في حيرته وارتجافه - كمثل شعاع الفجر الذي ينسل إلى منكبيه، فلا تدري أيعلن نهاية الليل، أم يؤذن بميلاد النهار! :
- " إن المشروع الجديد قناة ملاحية دولية تصل المشرق إلى المغرب من أقصر السبل، وتربط بين البحر الأبيض المتوسط عند بورسعيد وبين البحر الأحمر عند السويس..
إن شركة القناة قد أنشات قرى لسكنى العمال..
وأقامت، بعد الإنشاء، في كل قرية مسجداً تقام فيه الشعائر الدينية الإسلامية..
إن ماء الشرب متوفر..
الأجور وفق الإنتاج، لا عدد الأيام..
أجر العامل يتراوح من ستة قروش إلى ثمانية قروش لقاء عمله اليومي.. مع افتراض أن تتضاعف الأجور، بالتبعية، عند زيادة الإنتاج..
للعمال حرية الشراء من مخازن المقاول.. أو من الباعة المتجولين..
حرمنا على الرؤساء الأوروبيين - مهما كانت منازلهم أو درجاتهم - ضرب الفلاحين أو إساءة معاملتهم..".
وكان سعيد يقرأ، في تمام من التحقيق والتدقيق، فلما انتهى أزال عن عينيه آثار النوم، وأعاد بحركة إبهامه التي لامست أسفل جفنيه - أعاد وضوح الرؤية لمشهد محيطه المشوش، وقال في شيء من الضجر، كأنه استبطن وجه الحقيقة، من طريق الحدس :
- إن المهندس الفرنسي الماكر يحبب إلى الفلاحين العمل معه، ويزين في قلوبهم ذاك المرام، بشتى الأحابيل. أيعقل أن تتحقق مثل تلك الشروط؟ (ثم جال في عيون أبنائه كأنه يبحث فيهم عن مشكك أو متحدٍ..) ثم أنها - الشركة - استعانت، كما بلغني، برجال الأزهر، وبالأنبا كرلس الرابع، بطريرك الأقباط الأرثوذكس، قبل أن تعاجله المنية، بغتة - أقول استعانت بهما على جمع العمال. وذلك باعث آخر على الارتياب..
ووضع الأخير مصباح يده اليمنى، على المائدة، فأقفله، بعد أن عدمت الحاجة إليه بينما حددت أضواء الفجر معالم الاجتماع. وقال إبراهيم، في إذعان الابن الأصغر :
- صدقت يا أبتِ ! ولو أن الواقع كما يصفون، ما احتيج إلى الدعاية الكثيفة تحجب وجه الحقيقة. إن دي لسبس يحرص، كما سمعت، على أن يردد، مرات، أن مشروع القناة قد جاء ذكره في القرآن والإنجيل !
وقال عيسى، في حماسة :
- لا بد لنا - ونحن من أكابر ملاك الأطيان في القرية - من موقف.. ولكن كيف السبيل إليه؟!
ووجم مبارك في هدوء ظاهري، وكان رأيه أنهم (أسرته) ينتسبون إلى طبقة الملاكين لا الفلاحين، وأن طبقة الأفندية هي التي جارت وتجور على الفلاحين، ثم إنه بات يهون من تأثير الإعلان بقوله :
- إني لا أزال أخالفكم الرأي جميعاً.. فليس من داعٍ إلى استباق الحوادث أو الأخذ بضعيف الشواهد وإلا وقعنا فرائس الظنون، ثم من ذا، في عصر كعصرنا، يغامر بتجارته في سبيل رفع مظلمة لم تنزل به بعد، ولعلها لا تنزل أبداً؟ أولم تتفشَ الأمية بين أقوامنا من المزراعين؟ فكيف بهم أن ينساقوا - وهم الجهلاء بالبيان - وراء الإعلانات المكتوبة؟ (ثم وهو يلتفت إلى أبيه في اهتمام..) وأين جارنا عليّ مما يجري؟ وكيف حال بناته؟
ولم يجبه الأب، إذ كان لا يزال شارداً فيما تبدى له من صورة دي لسبس، دون أن يقف منها على موقف يريحه !