عاد سعيد إلى قريته وقلبه عامر بنشوة الارتياح، فهذه نفسه تهيم في آفاق الظفر، وهذا فؤاده يخفق بالأماني. ولعل الرجل صدق ما قيل له من أن الوالي سينظر في شكواه بعين الاعتبار بعد أن نفذت كلماته إلى عقله ووعيه، بل لعله لم يستبعد أن يرى الوالي سعيد نفسه رأي العين بين المهنئين في حفل زفاف يُقام عما قريب، وشرع يحكي لكل قروي يصادف أن يراه، أو يلتقي به، تفاصيل ما جرى، تارة ممعناً مكرراً، وطوراً موجزاً مقتضباً، كيف صيره القدر سبباً في رفع البلاء، وكيف واتته الشجاعة أمام مرأى البكوات والبشوات، وعلى مسمع منهما، وقال لجاره عليّ :
- ثم نظرت إليه نظرة لابد أنها اخترقت ما ضرب حوله من سياجات العزلة (يريد الوالي سعيد..)، فنفذت إلى سريرته، وآية ذلك أن بدلت حالته أربكت مظهره، فقلت : أيا والينا المبجل سعيد ليس لك أن تبيع رعاياك لشركة القناة، لا.. ولا ما ينبغي لك، وإنه إذا كان فرمان 23 مايو 1843م قد منح الولاة من أسرة محمد عليّ حق حكم المصريين، فإن هذا الفرمان، نفسه، لم يعطهم الحق في امتلاك المصريين، كما يمتلك إنساناً قطيعاً من الغنم أو عقاراً تنتقل ملكيته بلا إرادة..
ولم يصدق عليُّ، بطبيعة الحال، كل ما رُوي له، لكنه، وفي الوقت نفسه، كان مغتبطاً بزوال آخر الحواجز التي ظلت تحول دون زواج ابنته بإبراهيم، ثم باقتراب انقضاء خطر السخرة الذي يتهدده، وقال يسايره :
- وكيف كان حال البكوات والبشوات هناك؟ ولقد نسمع، هنا وهناك، أن الوالي يضع تحت تصرفهم كل ما يطلبونه لأنهم أناس مرعيو الخاطر..
وقال سعيد لا يزال على حاله الأول من السرور، كالثمل :
- ألفيتهم كالأفاعي تتبادل الأنخاب ! إنهم خلق آخر شديد الكبر، لقد أعرضوا عني وعن الوالي بينما كنا نتحدث، وحاول نفر منهم أن يخيفني بقوله: إن القرويين ليسوا يريدون حياة المجد لأنهم فطروا على القناعة والركود، والحراثة - من حيث هي - عدوة المدنية وخصيمة الصناعة، ولم ينصرف عني إلا حين قرأت الصمدية في صمتي الذي دام طوال زمان حديثه !
وقال عليُّ في جزع :
- إن لحظة كتلك حقيقة بإتمام زفاف ابنينا.
وأومأ سعيد يصادقه. وكان اعتقاد أهل القرية في أن تحولاً سيطرأ على نظام السخرة بعد اجتماع سعيد مع الوالي، سبباً في عودة الاستقرار إلى حياتهم الريفية، فتتابعت بعدئذٍ أيام اطمئنان وأمن. وتأسس على الانطباع السائد أن أقيم العرس المنشود في أجواء المسرة التي تناسبه، فكانت طلقات الرصاص المتتالية، ثم الزغاريد، مؤذنتين ببدء ساعة زفاف اليوم المرتقب. وقال سعيد لابنه مبارك، بعد أن بثه نصائحه بشأن ليلة الزفاف، ثم استقبل جماعات المهنئين له، وهو يقلب فيهم النظر:
- إن الوالي لم يحضر..
وندت عن شفتي الابن ابتسامة سخرية سرعان ما كتمها، وقال جاداً :
- وهل كان مقدراً له أن يترك مشاغله ليحضر عرساً ريفياً لأن فلاحاً قديماً ومالكاً حالياً ارتجى منه ذلك ؟!
وقال الأب، في لهجة صارمة تحمل أسى في طياتها :
- لشد ما أخشى أن ينسحب تجاهله على الرجاء الثاني أيضاً !
وكان شأن الرجلين أن يقفا ليستقبلا كل وافد جديد إلى الديار، وحتى لقد أرهقهما السلام على أفواج المهنئين كل إرهاق، ثم هما يستقبلان صواني الأطعمة تحمل صنوفاً من الطير والأرز - ممن يعرفونهم وممن لا يعرفون، وقال الابن :
- لا يصح أن يتسبب شقاء سبعة آلاف عامل، في قلق ما لا يحصى من المزراعين الآمنين.
وقال الأب ممسكاً إحدى الصواني المهداة، بينما يمضي الاستعداد للزواج من حوله بسرعة محمودة :
- من مستصغر الشرر تولد النيران وينتشر الفزع. إن أعدادهم لاتزال تتأرجح بين الزيادة والنقصان طوال العالم الحالي (يريد عام 1861م..) حتى أرهقتني من أمري عسراً، ولست أعرف إن كان لحديثي إلى الوالي أثر فيها، قليل أو كثير !
وتساءل الأب بينما ينعقد حاجباه على وجهه المستطيل :
- وأين أخواك؟
وقال مبارك وهو يحرك يداه في تعبير يتماشى مع ما ينطق به :
- إنهما من الابتهاج في نهاية بعد أن سقط عنهما تكليف انتظار زواج الأخ الأكبر، فجاء الدور على عيسى، ثم يليه إبراهيم، وقد كانا قبل الآن كثيري الارتياب من جدوى الحرص على هذ التسلسل !
وأطرق سعيد فلاح وجهه مجرداً من العواطف، فقال مبارك يعاتبه في تأدب :
- من ذا الذي جعل حياتنا موصولة بحياة المجهولين؟ ولو انتظر الناس انتهاء الألم من العالم ما تجرأ واحد منهم على الابتسام.
وقال الأب :
- يولد طفلاً مسالماً، ثم صبياً يقصد الكتاب، ثم شاباً يعمل في الحقل، ثم يُختطف بلا إنذار، هكذا، مساقاً إلى الهلاك، ألا بئس مثل هذا المصير!
وقال الابن، وكان لذكر المراحل التي يمر بها الريفيون أثر في امتعاضه :
- دع عنك هموماً لم تكن سبباً فيها، وانفرد بالتفكير في هموم صنعتها يداك !
وقال الأب :
- زرعنا الثمرات وحصدنا الأشواك ! (يقصد الفلاحين)
وتبدت على الوجه الكبير حيرة غامضة، كان سعيد يرى ابنه لا ينطق بالرأي إلا مبتسراً، ولا يتفوه بالحديث إلا منعزلاً. وفكر فيما يمكن أن تكون الشركة قد التجأت إليه من السخرة المقنعة. كان يسمع أن الدعاية التي قامت بها، ثم الأجور والمعاملة الطيبة الذين ظفرا بهما العمال، وأخيراً انقضاء فترتي شهر رمضان وعيد الفطر، كل أولئك كانوا سبباً في إقبال المقبلين على تجشم أهوال الحفر، يحدوهم في هذا الإقبال إرادتهم الحرة، وكان يعلم أن الاجتهاد في ترديد مثل هذه الأمور من شأنه أن يسيغ ما لا يُساغ، وأن يقر في الأفهام ما لا يُعقل، إنه يرى نفسه حبيساً بين الاحتمالات، بينما ترتسم ابتسامة التهاني على وجهه، وقال مبارك يقصده :
- ليتك تكف عن الحديث بلسان الجماعة !
وكان أن تسبب احتدام النقاش بينهما إلى تخلي مبارك عن كثير من آداب الحديث، فقال الابن في صوت خفيض لا يخلو من تحدٍ كالذي ثابت نفسه إلى رشدها :
- أنظرني حتى أمسك بالعصا..
وجاء عيسى وإبراهيم بالعصا بعد إشارة الأخير لهما لكأنهما أعدا لتلك اللحظة عدتها، وأمسك مبارك عصاه يرقص بها فيتلوى جسده وتتحرك يداه بالخفة العجيبة، ثم وثب الشاب إلى الطاولة وثبة عجلى فإذا هو من فوقها راقصاً تتفادى خطاه صواني الطعام وآنية الأغذية، وكان أن دعت حركته إلى قدوم البنات من كل ناحية، فجاءت صفية وهداية وحليمة - بنات عليّ الثلاثة - يرقصن حيناً، ويصفقن حيناً، ويستطلعن هذا الذي فارق عالم الأرض بعينين باسمتين، حيناً ثالثة، ثم أن حضورهن - هداية وحليمة والبنات - في مناسبات كتلك قد يفتح أمامهن أبواب زيجة منتظرة، ويقرب إليهن نصيبهن المقدور، هكذا تلقن البنات في القرى، وقال مبارك لأبيه وهو يرقبهم من عل :
- هذا لأن الأحزان، كما ترى، تطويها المباهج لا التحسر !
وقال سعيد مأخوذاً :
- ولسوف تكسر عنقك فتصير ليلة الزفاف واهناً كمثل خيال المآتة..
وقال مبارك كالثمل :
- أين القواصة (رجال الأمن) تداهم البيوت؟ إني لا أكاد أسمع لهم أثراً، وحتى إن حضروا فسوف أضربهم بالعصا، ولقد أهوي بها فوق رؤوسهم ! اللعنة على الدلاة والإنكشارية والأرناؤوط ! وعلى المرتزقة من الأمن !
وقال سعيد يداري بيمناه وجهه كمن اقترف ذنباً :
- لا ترقص على آلام إخوتك (يريد المختطفين من المزارعين)، ولقد تسوقك الأقدار إلى حال كحالهم.
وقال مبارك في عاطفة صادقة :
- أقسم لك أنهم، أخوتي، إن كانوا لايزالون هنا لرقصوا مع الراقصين غير آبهين !
وقال سعيد :
- هكذا تموت أخلاق القرية وينفرد بنا الأفندية !
وقال مبارك وعيناه ترنوان إلى بعيد كأنه ليصبو إلى حياة الأفندية :
- من الخير أن تموت ولأكونن أول المشيعين لها.
وحل مقام انفرط فيه النظام، وحفلت الدار بأكثر من طاقتها من أولئك الذين ظفروا بنصيب التواجد، وإذاً فقد لاذ سعيد بالصمت المطبق غريباً بين غرباء، ومرر بصريه في الحاضرين ممن ثملوا بالرقص والتصفيق، فهاله ألا يجد جاره علياً بينهم، وسأل ابنته صفية عن شأنه فقال مرتاعاً، مجتهداً أن يجد بين جلبة التصفيق موضعاً يتحدث فيه، وكان الإنشاد يرتفع بالقول "مدي إيدك يا عروسة.. مدي إيدك للحنة.. مدي إيدك يا عروسة.. مدي إيدك وتحنّي." :
- وأين أبوك أيتها العروس؟
وقالت الأخرى في سعادة لا توصف :
- لعله أضحى يؤم المصلين في صلاة المغرب بمسجد القرية الكبير ! ولعل نفسه خانته فأطال الوعظ فيهم بعد الصلاة.
وقال سعيد في وجل :
- أولم يكن يجدر به أن يكون أول الحاضرين؟ أيعقل أن يسهى عن ليلة كتلك أو أن يذهن عن أمرها وأمرنا؟
وقالت هداية وهي تجول النظر في محيطها المشحون بالمراقص والأسمار:
- إنه لا يحب الحرام، وهذا فيما يظهر يبرر تأخره..
ولم يقنع سعيد بحجتي البنتين، ولم تهتدِ نفسه إلى دقيقة طمأنينة وقد أصابت غيبة صاحبه فؤاده المزعزع، بسهم جديد، وتساءل: ما حيلة المرء تداهمه أشباح النوزال والبلايا، تتراءى له في أقبح الصور؟ أيعقل أنهم اختطفوه كما يقتلع النبت من طينته، وكما تهوي الشهب من أعالي السماءات؟ الأوغاد ! لم يتركوا له فرصة، لم يحفظوا له عهداً، ولم يشغلهم حق من الحقوق، ولكن مهلاً.. لا.. أنى لهم أن يقترفوا ذنباً جديداً وقد أمرهم رئيسهم (الوالي) بتغير في النظام المعمول به؟ ولكن ألم يوقع الوالي نفسه غير مكترث على الفرمان الأول - ثم عقد الامتياز الأول والثاني - والذي بموجبهم أهدرت حقوق البلاد والعباد؟ ألم يؤثر صداقته بدي لسبس على حياة آلاف من رعيته؟ ألم يساق الفلاحين كالعبيد أو كالجمال على علم منه فلم يحرك ساكناً؟ وجثم على صدره خيال مخيف فنهض مودعاً حياة الزفاف البهيجة، وترك دياره العامرة بالطبول والمزامير في ضرب من الاضطراب، حاولت صفية أن تستبقيه فأبى، ومضى بين الحشد كالموتور، اجتاز بركة الماء، ابتل أسفل ساقيه، حدق من موقعه إلى المصفقين الرافلين وهم قعود في جلابيب ملونة يتحلقن امراة تتوسطهن بينما هي ترقص مختالة ويرتفع الإنشاد بالقول :
يا عريس قم خد عروسك.. واطلع اليوم في العلالي
وافرشوا القبة وناموا.. فوقها جُنح الليالي
ثم استدار عنهم وأتبع سيره، دق على باب جاره عليّ فلم يجبه مجيب، وكرر ثلاث، ثم لاح من الظلام شبح آدمي، لعله من رجال الأمن، يقول :
- نأسف غاية الأسف.. لقد قصد، منذ ما يربو على الساعة، إلى ساحات الحفر، قصد إلى هناك، بإرادته !
واهتز قلب سعيد وجلاً، بهت وجهه المستطيل من وقع الصاعقة، غامت عيناه العسليتان في سحابة الانكسار، وجال بصره فرأى ثلاثة أو أربعة من رجال الأمن الأشداء، على كثب من الأول، فقال في جسارة عبارة حملها بالمعاني :
- لا أحد يقصد إلى الموت طواعية !
وقال الشرطي يقف عند الباب بينما تهتز الحشائش في محيطه :
- ما صلتك إليه؟ ومن معك؟ ألم تدرِ أنه سوف يعود حالما يؤدي واجبه تجاه أفندينا والوطن؟
وقال صائحاً كمن انتفخت منه الأوداج :
- إني لا أملك إلا نفسي،.. إن برزخ السويس غدا مقبرة الأحياء !
وتدخل شرطي آخر، كان يقع على ميمنة من الأول، فقال في ازدراء :
- كف عن المجادلة وإلا صحبناك إلى هنالك، رفقة صاحبك..
وقال سعيد في ذروة من ذرى الصدق الطفولي :
- فليكن ! أيها الأنذال.. الحقراء ! كيف طاوعتكم أنفسكم على أن تختطفوا بريئاً في ليلة زفاف ابنته كأنه القمر في عل السماء يهوي ليلة تمامه؟ ألم يبلغكم أمر الوالي سعيد وقد كان له يوم التقيته قرار بشأن منع السخرة؟ من يحرككم ويقف وراءكم إلا أن تكون أذرع الشيطان؟
وقال الشرطي في تقرير، كأنه يبرر فعلته أمام ضميره :
- ولقد كنا أول العام لا نجمع من العمال إلا لماماً نظراً للعواصف الرملية، وما نزل بالساحات من صقيع كالزمهرير، وكذا لانعدام الحاجة إليهم، ثم صرنا نتوسع، شيئاً فشيئاً، مع تحسن المناخ، ومع تصاعد الحاجة إليهم.. هذا كل ما هنالك..
وقال سعيد في تجرؤ :
- أهدرتم خزانة الدولة طمعاً في مجد زائف !
وقال الآخر متجهماً، وكان يجد نفسه مدفوعاً إلى استمرار النقاش لغير سبب:
- خزانة الدولة هي خزانة الوالي، ثم إن تكاليف إنشاء القناة والأعمال المتصلة بها لا تزيد عن مائتي مليون فرنك، هذا ما ذهب إليه المهندسون المصريون أنفسهم (واستتبع وهو يرمي ببصره إلى بعيد..) إن الأراضي، كما تعرف وترى، في غير حاجة إلى أيادِ عاملة كثيرة، وقد قارب موسم القمح على الانتهاء..
وقال سعيد في جنون وعناد :
- أيها الأفاقون المناكيد ! سوف تتمرمغون في ألف جحيم !
وحينئذٍ كتَّفه الشرطي، ثم أخذ يسوقه بالعصا، وقال في هدوء عجيب :
- هذا جزاء ما صدر منك من تجاوز..