ولم يكن مبارك، أكبر أبناء أبيه سعيد، في قوله الأخير، الذي دعا فيه أخويه وأبيه إلى ترك اتباع الظنون، لم يكن - مجرداً من الهوى والنزعات. وفي الحق أن دعوته إلى عدم استباق الحوادث كانت تقف وراءها رغبة ذاتية محضة، إنها رغبته الملحة في الزواج بـصفية كبرى بنات جاره عليّ، مثال الأنوثة الكاملة، التي تعلقت بها آماله المشروعة، واتصلت إليها أحلامه الحبيسة، والتي - إلى هذا - كان يرى في مغامرة أبيه بالوقوف إلى صف الفلاحين، ثم مواجهة سلطة شركة القناة، حاجزاً يمنعه من الظفر بها، بعد أن صار - باقتراب يوم زيجته بها - على شفا بلوغ المنال البعيد. ويوماً قالت له :
- ويوماً يحمل إلى بيتنا هذا الصندوق الأحمر المخطط - ثم في صبيحة اليوم الذي يليه - يتفق أن أخرج لأملأ الماء من النهر الصغير، ملوحة بيدين لونتهما الحناء. ما أبهاه! وما أدناه! (تصف يوم الزواج وما يصحبه من عادات بالقرية..)
وكان يرنو إليها معجباً مرات، ويقذف بالحجارة في بركة الماء التي أمامه مرات، وبين الحالين تتقلب نفسه بين الغبطة والكدر. حتى قال وهو يرقب دوائر الاضطراب التي أحدثتها رميته :
- ولكن دي لسبس - وشركة القناة من ورائه - يرومان تنغيص صفو هذا الخيال الرائق الذي تبتغينه، وأبتغيه. وكم أخشى أن تتسع دائرة عماله، حتى تشمل أبيك علياً، فينتقل الحال من الحديث عن أمل مرتقب، إلى حديث عن فاجعة واقعة ! إن مثل هذا الحديث يردده أخواي، وهكذا صار أبي بعدهم مردداً، ثم ها قد انتهت إليَّ العدوى !
وقالت منقبضة كالوتر المشدود، وكان بين أبيها وأبيه أشواط من الثراء، كالتي تود أن تستنقذه (أباها) :
- أليس بين أبوينا صلة من الصداقة قوية؟ ثم أليس لأبيك كلمة مسموعة لدى الوالى سعيد؟ وقد اصطفاه، على التخصيص، بزراعة المزروعات النادرة، وبالتصدير إلى أوروبا..
وقال الآخر :
- وقد تحدث أبوانا في ظلام يوم أمس حديثاً لم يظفرا بعده بما يبل الريق. ثم ما عسى الوالي نفسه أن يفعل وقد ألفى نفسه مكبلاً بالأكبال بعد أن خطت يداه عقداً فيه من الشروط ما فيه؟ ثم إن شركة القناة بعد اكتتابها ضمت رؤوس أموال أفراد ينتمون إلى كافة الدول، ما جعل إرادتها فوق إرادة الحكومة التركية، أو حتى المصرية !
وكان وجه الشاب ينطق تعبيراً، مستيئساً، بالمثل: "لقد اتسع الخرق على الراقع.". وبدا أن صفية قد شغلت عنه بمشهد الطير السابح فوقهما، في أسراب متآلفة متجانسة، وبتلك الخضرة هناك. وكانت الطبيعة تفيض بجاذبيتها الساحرة، مغلفة حديثهما، بالعطف. وقالت جادة :
- إن مهري لهو لقاء يجمع السعيدان : أبوك إلى الوالي !
وبدا مطلبها منالاً بعيداً. فلما آنست صفية منه عجزاً - قد تجسد في مد ساقيه النحيلتين، وتنكيس رأسه المرفوع - قالت كالتي تبثه خواطرها، بغير ترتيب :
- لعمرك إن الشقاء صار يُعقد في شأنه ميزانان، فيعفى بالأول منه أكابر الفلاحين، ويسلط بالآخر سيفه على من لا طاقة له منهم! وإن النفوس الشريفة لتكره حالاً كهذا الحال، وتأنف منه.. (ثم استأنفت وهي تستدير عنه في خفة وحسن) ألا يتحدث الناس في قريتنا هامسين عن خيبة الزوج صبيحة كل زفاف؟ فماذا يمنعهم من أن يقولوا، بعد همسهم هذا، بأننا لم نكترث لحال الشباب، وهم يختفون، صباح مساء، في سبيل المشروع الجديد، فأقمنا عرساً صاخباً على مشهد الأتراح المقيمة، وعلى مسمع من الآهات والأنات؟! ولئن كانت هذه بواطنهم المكتومة فلعلهم إذاً يقولون إننا أيضاً لم نأسَ لمن سيق منهم إلى ساحات الهلاك، حاملين الخبز الجاف، وقُلاَّت الماء، ألوفاً ألوفاً.. وأين أخلاق القرية؟ ثم أين هذه المعاني النبيلة التي شغلنا عنها في ليلة طلب وطمع؟
ولم يحفل الشاب بما سمع من حديث ارتأى فيه مجافاة لمناسبة الزفاف ومقامه السعيد، ثم تضخيماً لأحوال الحقاد والمثرثرين، فآثر - مخفياً ما انطوت عليه ضلوعه من شعور - الصمت مدة، ثم قال في شيء من رجاء :
- فلننظر ما يجري، وكل آت قريب..
وكف الشاب عن إلقاء الحجارة فنعمت بركة الماء بلحظات من سكون، على حين ظل خياله المشحون ينوء بثقل الاحتمالات. وفي الحق ما كان إبراهيم، خلافاً لأبيه، يوماً محباً لقريته، أو لحياته الريفية، بل إنه ليرى مجتمعه في بدائيته، دون مجتمع المدينة، وإنه ليكره هذه المظاهر الاشتراكية كرهاً غريزياً، مبعثه الفرضية التي تقول بأن تشارك القوي مع الضعيف، يضر بالقوي من حيث يضيف إليه أعباء من يقصرون عنه. أجل، كان يؤمن بهذا، على ما فيه من ظاهر الشدة، إيماناً جعله ينفر من حياة العائلة القروية، فلا تطيب له سذاجتها الفطرية، ولا تسليمها الذي لا يزعزعه الطوارئ، ولا عقيدتها الثابتة المذعانة تجاه المظالم والنوائب، ثم إنه إن زار المحروسة أغرته الزخارف وأفسده الترف، وإن مر بالبهارج من هذه التي يعرضها التأنق الحديث على ناظريه هناك أنشأ يلوي عليها مقبلاً. وعلى ذلك أكثر أبوه سعيد النصح له بالقول :
- إنهم (يريد أهل المحروسة) من الطين، ونحن منه، أم تحسبهم من المسك والكافور؟
على أن عبارة صفية :"إن مهري لهو لقاء يجمع السعيدان : أبوك إلى الوالي !" كانت وقت أن ترك مجلسها قد ازدانت في نفسه بزينة الوجاهة، واخترقت بعدئذٍ أسوار حجاب كان قد ضربه على ذاته المنطوية. وعلى هذا فاتح أبيه سعيد في شأنها فقال له :
- إن الخطر الداهم يقترب من ديارنا، شيئاً فشيئاً، حتى لقد بتنا نسمع نذيره، هنا وهناك، (وتابع وهو يحدق إلى عيني أبيه العسليتين..) ألم نعتبر بقصة الثورين؟ وإذا لم ننصر جارنا علياً فما أشبهنا إذاً بالثور الأسود !
وكان الوالي سعيد، في ذلك الأوان، قد أخذ ينكص عن رغبته الأولى في حفر القناة لما تبدى له عظم أضرارها الداخلية والخارجية، ولعله شعر في ذلك الوقت، أكثر من أية فترة تسبقه، بخطورة اندفاعه في تأييد دي لسبس، وكان في جلسته بقصر الحرم يفكر فيما جره عليه المشروع من الخسران، حتى ود لو عاد الزمان فلا كان من أمر المشروع شيء إلا الذكر، وذهبت نفسه إلى يوم الخامس والعشرين من إبريل من العام 1859م، فتردد في أذنيه صوت صديقه دي لسبس، كأنه أصداء الماضي البعيد تنبعث من هوة النسيان، يقول في هذا الحفل الذي أقيم بالبقعة التي اختيرت مبدأً للمشروع :
- "باسم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وطبقاً لقرارات مجلس إدراتها، نضرب أول معول في الأرض التي ستفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته ! إننا هنا مجتمعون تحدونا فكرة واحدة هي فكرة الإخلاص لمساهمي الشركة، ولصالح منشئها، وراعيها العظيم الأمير محمد سعيد !".
ثم وهو يلتفت إلى العمال المصريين (دي لسبس) - بعد أن أمسك بمعول ضارباً به الأرض في إحدى الحفر التي عملت على خط القناة، إيذاناً بالبدء في عمليات الحفر، فتترجم كلمته الحماسية إلى لغتهم العربية، بعد حين :
- "سيضرب كل منكم بمعوله الأرض كما فعلنا الآن، وعليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلتكم ولبلدكم الجميلة. يحيا أفندينا محمد سعيد باشا ! ".
وما أن فرغ الوالي سعيد من تصوره، الذي كان قد نقل إليه على ألسنة الفلاحين الحاضرين، هناك، وقتئذٍ، وكانوا لايزالون زهاء مائة نفس، جيء بهم من دمياط ونواحيها القريبة، حتى ضرب بقبضته على المائدة، ضربها حتى اضطربت الصحون، تأثراً، واهتز ضيوفه، وجلاً، وقيل له في نبرة تقرير تخشى من انفعاله :
- آن موعد الاستماع إلى شكايات الفلاحين..!
وأرخى الوالي سعيد قبضته إيذاناً بالقبول، بينما أنشأ يشرب بالأخرى النبيذ الأحمر يداري به غضبته، وكان الحضور في مجلسه من البكوات والبشوات ينوءان بالازدراء العميق لسيرة الفلاحين، حتى لقد رأوا في الاستماع إلى شكايتهم تعذيباً نفسانياً لم يطيقوه، فأعرض فريق منهم عما يجري، بينما تأفف الفريق الآخر مخفياً حقيقة شعوره دون تصريح، ولاح الفلاح الأول، لاح في جلبابه غريباً عن حال القصور، فقال :
- مولاي سعيد باشا، أفندينا ولي النعم ! جئتك لا شاكياً وإنما ممتناً، ولأصف لك من بعدئذٍ أحوال الفلاحين بعد اللائحة التي أصدرتموها في السابع والعشرين من يناير، ثم عدلتموها في الخامس من أغسطس، من العام المجيد 1858م، الذي تحقق لنا فيه الاحتفاظ بالأراضي، مع دفع رسوم التسجيل البالغة أربعة عشر قرشاً عن الفدان الواحد، وهذا الثمن البخس الذي اخترتموه ليس إلا تعبيراً عن كرمكم الجم. وفيه تحقق أيضاً أن لمن يحرث الأرض فيؤدي ضريبتها لخمس سنوات حق ملكيتها،.. أليس هذا لهو الفردوس الأرضي الذي نعمنا وننعم - نحن الفلاحين - بتفاحته المحرمة؟
وسر الوالي سعيد بما سمع دون أن يترك الثناء في نفسه أثر، كالسحائب المنقشعة تبددها شمس الأصباح، والتفت عدد من البكوات والبشوات بعد إعراضهم إلى موقع المتحدث، وقد كان لنبرته المنمطة أثر في الاعتقاد بكونه ملقناً، فقال الأول مقتضباً وهو يلحظ ذلك منهم :
- الذي يليه..
وهنالك تقدم سعيد (مالك الأطيان) إلى الوالي سعيد، تتنازعه العواطف المتضاربة: كان مدفوعاً بالشفقة على أحوال السخرة، وما آلت إليه قريته من استتباب الفزع الرهيب، من جهة، ومتهيباً في الوقت نفسه من هذا الذي لا تُرد له كلمة، ولا يبلغ أمره جدال ولا نزاع، فقال :
- إن الحقيقة لهي على غير ما يصفون، نعم.. مولاي سعيد الذي شاءت الأقدار أن نتشارك الاسم نفسه، دون أن نتشارك المسؤوليات الجسام أو المجد العظيم..
وتبدى الوالي مستقبلاً لحديث الآخر، حتى ضيق عينيه الضيقتين بالأساس، وقال معتدلاً في جلسته :
- لا تخش شيئاً.. هلم!
وقال سعيد متشجعاً :
- إن دي لسبس يا مولاي ليلعب اللعبة الكبرى، لقد ساق ألوف الأبرياء إلى ساحات الهلاك، وإني لأربأ أن يجمع مقامكم السامي مع مثله صداقة، وهل يجتمع الأضداد أو يصح اجتماعهم؟.. إن جاري علياً لهو فلاح بسيط، وإني على الخلاف منه مالك ثري، فكان له - لانتسابه إلى طبقة الفلاحين - أن يكون في مرمى خطر الالتحاق بالسخرة، العاملين في جد وإخلاص بالترعة الجديدة التي قررتم إنشاءها، هذا الخطر الذي، صيرتني التصاريف دون فضل مني - وأنا من الملاكين الكبار - في مأمن منه..
ومرر سعيد ناظريه في أولئك القاعدين على المائدة، ثم أرجع البصر إلى الوالي، وقال :
- رغم أن الفاصل بين سكنانا - أنا وعليّ- في الواقع بركة صغيرة، تملؤها الأمطار أوقات الصيب، وينقطع عنها الماء من حين إلى حين.. وقد كنا نذهب قبل هذا في صبانا إلى كُتَّاب واحد، ثم بتنا ندرس الديانة معاً.. ولست هنا في مقام الحديث عن نفسي، أو عن جاري عليّ، وما أحقر نفسينا إذا قيست بآلاف القرويين!.. وفي المجمل: إننا لم نتصور يوماً أن تنتكس مساعيكم النبيلة في تنفيذ المشروع الجديد إلى حديث مطامع، وصراع إرادات، وغلبة نفوس.. وإني أضنُّ بصاحب اللائحة السعيدية أن يتورط فيما فيه أذى برعيته من الفلاحين..
وقال أحد البكوات، بعد أن لاحظ تأثر السامعين بحديث الرجل :
- وهل كان الوالي سعيد سبباً في كل هذا؟ لماذا لا يتحامل الناس -وأكثرهم يرومون حياة بلا مشاق - على الصعائب في سبيل نيل المطامح الجليلة لا يشقون بعدها؟ ولو أن خوفو مثلاً التفت إلى مثل حديثك العاطفي هذا إذاً ما كان له أن يشيد هرمه العظيم شاهداً، ومتحدياً، على تراخي الأحقاب ! ولماذا يستوجب علينا أن نعود إلى التاريخ البعيد وأمامنا شواهده القريبة لا تزال عالقة؟.. (وهنا التفت إلى الوالي مُهذباً نبرته..) ألم يبدأ أبوكم الباشا (يريد محمد عليّ) إنشاء الفروع العظمى للنيل، ثم تقوية جسوره، حوالي العام السادس عشر من مطلع القرن الحالي،.. ألم تتم هذه الأعمال الجليلة بطريقة السخرة الإجبارية اليسيرة فانقضت بسرعة مدهشة؟ أما السخرة لأعمال المنفعة العامة فقد كانت مصر منشأها، أجل.. وما الأهرام والتيه وبحيرة مريوط إلا شواهد عليها باقية !
ولم يحفل الوالي بحديث البك، وكان يوازن مجتهداً في صمت بين قول دي لسبس له - في خطاباته إليه - بأن عظمته الشخصية وتقدير الرأي العام في أوروبا له يتوقفان على زيادة عدد العمال المصريين، وبين حديث أخير جديد. أكانت تشده أحلام يقظة يرى فيها نفسه علماً تاريخياً يذكره الحفدة والذراري؟ هل رأى طيفاً لصفوة المجتمع الأوربي يحببون إليه أمر القناة؟ نعم، وقال سعيد (مالك الأطيان) مستغلاً فرصة الصمت وسط الدهش :
- إني أدعوك مولاي سعيد - ولا تعتبروا دعوتي طمعاً لا أستحقه - إلى حضور حفل زفاف ابني مبارك، إلى جارته صفية ابنة عليّ، بعد أن يجري، وهذا رجاء آخر، تعديل في النظام المعمول به في القناة.. لتروا كيف تتوق القرى الواقعة تحت سلطانكم إلى معنى الأمن الذي لا يتحقق إلا في ظل وجودكم !