أهلا بك عزيزى القارئ فى أول قصة أطرحها بين ناظريك،قصة ما تمنيت أن أبدأ بها وجاهدت نفسي كثيرا حتى لا تكون أول شئ أقدمه لك من تلك القصص التى أعددتها لك؛أحداثها جعلتنى أختارها الاولى رغم بشاعة ما فيها لكن العبرة منها ربما ستكون عندك مؤثرة فوق ما تتخيل فدعنى أقص عليك ما حدث.
في محافظة ما من محافظات المحروسة وفى بلدة موجودة فى مكان ما ستكون مسرحا لأحداث ربما لم تحدث فى غابة تجمع حيوانات مفترسة وذئاب لا تشبع من سفك الدماء ونهش لحم ضحاياها تلك بلدة ربما ستتهمني عزيزي بالمبالغة فى الوصف لو قلت لك أنها من كثرة أراقة الدم فيها تغيرت الوان أراضيها وما عادت تشبه أي أرض تحيطها وكأن تلك الدماء التي سالت بسبب أو دون سبب قد سطرت لعنة أبدية وكتبت طلاسمها فى كل بقعة منها يكفى أن أقول لك أن تلك البلدة ُيقتل الرجل فيها لأتفه الاسباب ربما لنظرة نظرها لأحدهم فلم تعجب من نظر اليه .
لا يحل مساء على البلدة إلا وقتيل أو أثنين وربما أكثر قد رحلوا وشُيعت جنازاتهم؛سميت تلك البلدة باسم جبَّارة وربما كان تسميتها بهذا بسبب ما يحدث فيها حتى أن أهلها أخذوا طباعهم من اسم بلدتهم فصاروا جبابرة في أقوالهم وأفعالهم .
في مكان كهذا وبيئة كتلك ولد منصور في أسرة متوسطة الحال وكان اوسط اخوته يكبره أحمد وعلي والاخير هو من يعول البيت في ذاك الوقت حيث أن أباهم جابر كُبر وما عاد يتحمل العمل وإجهاده ،كبر منصور حتى جاء يوم كان الأول له بالمدرسة استيقظ مبكرا علي غير عادته ويبدو أنه كان فرحا فهذا اليوم له بريق خاص بالنسبة لأي شخص .
تجهز ولبس ثيابه الجديدة تلك التي اشتراها له والده ليلبسها فى يوم كهذا ويجاوره في نفس الحجرة أحمد ؛احمد شاب وسيم يبلغ من العمر خمسة عشر عاما واليوم أول يوم له فى المدرسة الثانوية كان فرحا للغاية فقد حقق أول مرحلة من مراحل النجاح التى رسمها لنفسه فى صغره،تناولا إفطار أعدته لهما أمهما صاحبة الاربعين عاما ؛امرأة أقل ما يقال عنها أنها أحد أعمدة ذاك البيت وصاحبة الفضل فى كل ما وصل اليه الجميع بعد الله.
كبر منصور ومازال يتذكر ذاك الطريق الذي إنخرط فيه لأول مرة برفقة أخيه علي وهو يوصله الي المدرسة ،ظل حينها علي يوصيه أن يلتزم بكلام مدرسيه وأن يجتهد قدر الامكان ولكن منصور يبدو أن معظم تركيزه في ذاك اليوم فقده في فرحه بثيابه تارة وبشكل المدرسة تارة أخري ،وصل المدرسة ليجد أن المدرس الذى ينظم صفوفهم فى طابور الصباح تربطه بأبيه صلة قرابة فرحب به وأوصله الى فصله الذي كان يجهل مكانه في بداية الامر .
كل تلك الاحداث كانت هادئة لا يتخللها شئ يريبك أو يريب من يناظرها ولكن دائما ما يسبق العاصفة سكونا غريب يخدع ساكن المكان حتى لا يستعد لما سيحل به ،انتهى يوم منصور الدراسي دون شئ يشوبه ليعود بعدها فرحا الى بيته تمنى أن يسابق الريح يريد أن يبشر أمه عما جرى معه طوال اليوم ؛يقص عليها كلمات معلميه له فى أول لقاء جمعهم به ، ولكن وكما يقال تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن فلم يكمل منصور طريق بيته إلا وطلقات الاسلحة النارية انطلقت من كل مكان نظر يمينا ويسارا وإذا بشيوخ وشباب يمسكون الأسلحة والرشاشات وطلقاتهم تخرج كرمال تناثرت فى كل مكان ؛لكنها لا تطلق فى الهواء بهدف إخافة من أمامهم بل لا تخرج طلقة إلا وسكنت في جسد أحدهم وإما مات أو أُصيب ،فر منصور علي الفور لبيته مفزوعا كأي طفل من صوت الطلقات ليجد أمه تلتقطه فى حضنها وهى تبكي والخوف كان مرسوما علي وجهها حتي كاد أن يميتها .
"منصور يا ولدي فطرت قلبي من الخوف عليك هل أنت بخير؟" أومأل برأسه يحاول أن يطمئنها بينما كانت عيناها تتفحص جسمه مخافة أن يكون قد جرح أو أصيب وقلبها بداخله ألف سؤال.
"يارب لا تكسر قلبي وتحزنني علي أبني أؤ زوجي يارب نجنا واحفظ شبابنا ورجالنا..."يداها تضربهما ببعضهما تارة وتمسح بهما دموعها تارة أخرى ،أقدامها حائرة كمن فقد وجهته وتخشى أن يدخل عليها أحدهم بخبر وفاة ولدها أو زوجها وكلا الخبرين سيهدها .
بينما كانت أم منصور تحاول طمئنت أبنائها كبيرهم وصغيرهم وأولهم منصور التى ما زالت تحتضنه فى محاولة منها أن تشعره بقربها منه رغم أن القلق والخوف ينهش فيها نهشا وكأن صدرها وضع بداخله جمرة من نار.
وفجأة ووسط سكون ملأ المكان وخيم على أركانه طُرق الباب فهبت الأم تفتحه وهى تتمنى ألا تجد وجها غير وجه ابنها وزوجها،فتحت فإذا بجابر وعلي علامات الفزع تملؤ وجهيهما ،أغلقا باب البيت كمن يخاف أن يلحقها أحد لتقوم الأم بعد أن تركت منصور واتجهت نحو علي وجابر تطمئن عليهما مخافة أن يكون قد أصابهما مكروه تخشاه.
"حرب بكل ما تعنيه الكلمة "تلك كانت أول جملة سمعها منصور من أخيه علي لتسقط دموعه بعدها دون أن يعرف سببها هل خوفا مما يحدث بالخارج أم خوفا علي أهله ونفسه ،قطع دموع منصور كلمات ابيه التى زادت الخوف في قلبه حينما سالته زوجته عما يحدث بالخارج
"لا أدرى ماذا أقول لكِ يا أم على لكن ما يحدث بالخارج هي فتنة ستلتهم بلدا بأكمله ،عائله عسران وعائلة زيدان سينهون علي أنفسهم لقد سقط ما لا يقل عن عشرون قتيلا الى الآن و....."توقف صوت ابى وقد تنهد لتسقط دمعاته فقامت زوجته لتهون عليه الأمر.
"هون عليك يا أبا على ليس بيدنا شئ نفعله لهم إلا الدعاء "
"حزين على حال بلدتنا يا أم على لا تمر أيام إلا وقتلى هنا وجرحى هناك الى متى سيظل حال بلادنا هكذا؟!"
زاد من جو المكان الحزين أصوات سيارات الإسعاف التى تنقل القتلى والمصابين واحدا تلو الأخر حتى تحول المشهد وكأنه أحد المشاهد الدامية لحرب بكل تعنيه الكلمة من معني وكأنهم لم يعرفوا بعضهم وكأن صلات القرابة التى كانت تربطهم قد بددت والدماء قد صارت مياة وكأنها لم تكن .
"يبدو أن هذا المكان قد شهد مجزرة فى حق الجميع عزل كانوا أو من يحملون السلاح ،يبدو أننا أمام عقول قادمة الينا من العصور الحجرية "تلك كانت أخر جملة قالها أحد المحققين وهو يغطي أخر ضحايا تلك المجزرة كما وصفها معلنا للجميع أن الموضوع قد انتهى
مر ذاك اليوم وحل الدمار ببلدة كانت من ساعات آمنة او قل تصنعت الأمان كانت الشمش ساعتها أعلنت رحيلها لتأخذ معها أخر ما تبقى لمنصور وأهل قريته من أمل ،عاد الجميع الى ادراجهم ومكثوا البيوت يُطالعون جدرانها لعلها تفسر لهم حالهم .
خرج منصور دون أنْ تلحظ أمه خروجه لا يدري هو نفسه لماذا خرج؟ماذا يريد أن يعرف بعد أن رأي بعينيه دمٌ أُرِيقَ دون علةٍ أو سبب؟هرول ودموعه تغرق خده قبل الأرض التى كره ملامحها؛رائحة الدم لوثة هوائها وآثاره غيرت شكل تربتها،أسكتت دمعاته تلك الرصاصة التى أطلقها أحدهم لتستقر فى منتصف رأسه وسُجلُ قتيلٌ بعدها جديد فى دفتر بلدة أضحى إراقة الدم فيها أسهل من إشعال سيجارة!