hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

جلس الملاك والكاهن يتناولان العشاء، ثبت الكاهن منديله على رقبته، وراقب الملاك وهو
شقَّ على الملاك استخدام «. ستُتقن ذلك قريبًا » : يحاول تناول حسائه بصعوبة، ثم قال
السكين والشوكة لكنه تمكن من ذلك في النهاية. أخذ الملاك يختلسالنظر إلى ديليا، العاملة
التي تقدم الطعام. بعد ذلك جلسا يقشران المكسرات، فوجد فيها الملاك متعةً كبيرة، وكانت
«؟ هل كانت هذه أيضًا سيدة » : الفتاة قد انصرفت، فسأل الملاك
«. كلا، ليست سيدة، بل هي خادمة » :( رد الكاهن (بصوتٍ خفيض
«. كان شكلها أفضل » : قال الملاك
«. لا تقل ذلك للسيدة ميندام » : قال الكاهن وهو يخفي إعجابه بما سمع
لم يكن صدر السيدة ميندام ولا أردافها بارزة بالقدر نفسه، ما بين » : تابع الملاك
الصدر والأرداف هو ما كان أكثر امتلاءً، ولم يكن لون ثوبها متمايزًا، بل محايدًا، وكان
«… وجهها
لم يرُق الكاهن أن يسمع انتقاصًا من قدر السيدة ميندام، ولو كانت عدوته اللدود،
«؟ السيدة ميندام وبناتها كنَّ يلعبْنَ التنس؛ هل أعجبتك هذه الأشياء؟ المكسرات » : فقاطعه
«. كثيرًا » :( رد الملاك (بصوتٍ خفيض
«. اسمع، أنا أومن تمامًا بأنك ملاك » :( قال الكاهن (بنبرة ودودة
«. نعم » : قال الملاك
أطلقت النار عليك، ورأيتك تُرفرف، لا شك لديَّ، مع اعترافي بأن الأمر » : واصل الكاهن
غريب عليَّ ويناقض تصوراتي المسبقة، لكن عمليٍّا، أنا متأكد — متأكد تمامًا — أني حقٍّا

رأيت ما رأيت، لكن بعد أن رأيتُ سلوك هذين الشخصَين، (بصوت خفيض) لا أرى لنا
سبيلًا إلى إقناع الناس؛ فالناس اليوم يُصرُّون إصرارًا شديدًا على وجود البراهين. أعتقد أن
جدلًا طويلًا سيدور حول أسلوب تعاملك مع الناس؛ لذا أرى أنه من الأفضل — ولو بصورةٍ
مؤقتة — أن تفعل ما اقترحتَ فعله، أعني أن تتصرف كبشريٍّ بقدر الإمكان. بالطبع لا
وتوقف الكاهن ) «… يمكننا أن نعرف كيف ومتى قد تعود إلى طبيعتك، لكن بعد ما حدث
بعد ما حدث، لن أفُاجأ إن رأيت جانب الغرفة ينهار، وملائكة » : ليُعيد ملء كأسه)، ثم تابع
السماء يظهرون لإعادتك من حيث أتيت، ربما يأخذوننا معًا حتى. لقد أصبح خيالي أكثر
اتساعًا الآن، طوال السنوات الماضية كنت قد نسيت شأن أرضالعجائب، ومع ذلك فالحكمة
«. تقتضيأن نُعلم الناس بالأمر تدريجيٍّا
«؟ أخبرني عن حياتكم، لا أعلم عنها شيئًا حتى الآن، كيف تبدأ حياتكم » : قال الملاك
يا للعجب! لم أتصور أني سأضطر إلىشرح ذلك يومًا، في بداية وجودنا » : قال الكاهن
على هذه الأرض يكون المرء منا طفلًا رضيعًا، قطعةَ لحمٍ ورديةً عديمة الحيلة ملتحفة
بأغطيةٍ بيضاء، بأعينٍ حائرة ترنو إلى الأفق البعيد، ثم يكبر الأطفال، ويزدادون جمالًا
عندما تُغسَل وجوههم، ويأخذون في النمو حتى يبلغوا حجمًا محدَّدًا، يغدو الرُّضَّع صبية
وفتيات، ثم شبانًا وعذراوات، (بصوت خفيض) ثم رجالًا وسيدات في ربيع العمر، وهذا
أفضل مراحل الحياة حسب رأي الكثيرين، وأكثرها جمالًا، حيث الآمال العظيمة والأحلام
«. الملوَّنة والعواطف الغريبة والأخطار التي لا يُحسب لها حساب
«؟ كانت تلك عذراء » : أشار الملاك إلى الباب الذي خرجت منه ديليا وقال
«. نعم، كان تلك عذراء » : قال الكاهن
«؟ وماذا يحدث بعد ذلك » : سأل الملاك
بعد ذلك يخبو ذلك الألق شيئًا فشيئًا، وتشتد ضراوة معترك الحياة، » : قال الكاهن
يأتي إليَّ معظم الرجال والسيدات وقد ائتلفوا في ثنائيات، خجولين مهتزين، يرفلون في
ملابسَ رسميةٍ قبيحة، فأزُوِّجهم، ثم يُرزقون بأطفالٍ صغار ورديِّي اللون، يصبح بعض
أولئك الشبان والعذراوات بُدناء سليطي اللسان، ويصبح آخرون نُحفاء حادِّي الطباع،
يذوي جمال بشرتهم، ويتملَّكهم وهمٌ غريب أنهم أرفع شأنًا ممن يصغرونهم، وتفقد
حياتهم كل ما كان فيها من بهجة ومجد، فيُسَمُّون ما في حياة من يصغرونهم من بهجة
«. ومجد وهمًا، ثم يأخذون في التداعي
«! التداعي! يا للغرابة » : قال الملاك

يتساقط شعرهم ويبهت لونه أو يستحيل شيبًا رماديٍّا، انظر إليَّ كمثال » : تابع الكاهن
انحنى الكاهن إلى الأمام ليَظهر في وسط رأسه مساحةٌ دائريةٌ لامعة كعملةٍ معدنية، ثم «…
كما وصفتَ « محزَّزة » ويفقدون أسنانهم، وتنكمش وجوههم وتصبح مجعَّدة أو » : واصل
وجهي. ويزداد اهتمامهم بما سيأكلون أو يشربون، في حين يقل اهتمامهم بأي مباهجَ
أخرى في الحياة، تضعف مفاصلهم فتهتز أطرافهم، ويتباطأ خفقان قلوبهم، أو يسعلون
«… فيلفظون نتفًا من رئاتهم، ويحل الألم
عندما ذُكر الألم. «! آهٍ » : هنا صاح الملاك
يحلُّ الألم ضيفًا ثقيلًا على حياتهم، ثم يرحلون — ليس برضاهم، » : واصل الكاهن
بل رغمًا عنهم — من هذا العالم، يتمسكون بألمه بكل ما يتبقَّى لديهم من قوة؛ لكيلا يفلتوا
«… منه إلى
«؟ إلى أين يرحلون » : قال الملاك
كنت أظن يومًا ما أني أعرف، لكن بعد أن بلغتُ هذا العمر لا أعرف. » : رد الكاهن
لدينا اعتقاد — وربما كان أكثر من مجرد اعتقاد — بأنه يمكن للمرء أن يكون من رجال
وهزَّ رأسه نحو «. الكنيسة وغير مؤمن في الوقت ذاته، يقول ستوكس أن لا شيء في ذلك
الموز.
«؟ وأنت، هل كنتَ رضيعًا ورديٍّا صغيرًا » : سأل الملاك
«. كنت رضيعًا ورديٍّا صغيرًا في وقت ليس بالبعيد » : رد الكاهن
«؟ وهل كنت حينها ترتدي ملابس مثل التي ترتديها الآن » : قال الملاك
بالطبع لا، يا للعجب! يا لها من فكرة غريبة! كنت أرتدي ملابسَ بيضاءَ » : رد الكاهن
«. طويلة على ما أفترض، مثل الرضَّع الورديين الآخرين
«؟ ثم تحولت إلى فتًى صغير » : سأل الملاك
«. فتًى صغير، نعم » : قال الكاهن
«؟ ثم شابٍّ مفعم بالقوة » : سأل الملاك
يؤسفني أني لم أكن شابٍّا مفعمًا بالقوة، بل كنت أمرضكثيرًا، وسلبني » : رد الكاهن
فقري العنفوان والجسارة. كنت أدرس باجتهاد، وانكببت على البحث في أفكارٍ موشكة
على الزوال وضعها رجالٌ ماتوا منذ زمنٍ بعيد، فاتني عنفوان الشباب، ولم تأتني العذراء،
«. ودهمتني كآبة الحياة قبل الأوان
«؟ وهل لديك أطفالٌ ورديُّون صغار » : قال الملاك

على أي حال، يمكنك أن تلاحظ أني بدأت » : وتوقف لوهلة ثم تابع «. كلا » : رد الكاهن
في التداعي، قريبًا سينحني ظهري كساق زهرةٍ ذابلة، وبعد بضعة آلاف من الأيام سينتهي
«! أمري، وسأغادر عالمي هذا، لا أعلم إلى أين
«؟ وعليك أن تأكل هكذا كل يوم » : سأل الملاك
عليَّ أن آكل وأشتري ملابسي وأحافظ على هذا السقف الذي يحميني، » : رد الكاهن
يوجد في هذا العالم شيئان كريهان يسمَّيان البرد والمطر. الآخرون هنا — لأسباب يطول
شرحها، وبطريقة لا متسع لذكرها الآن — جعلوا لي دورًا هامٍّا في حياتهم؛ يأتونني
بأطفالهم الورديِّين الصغار فأقرأ على كلٍّ منهم اسمًا وبعضالأشياء الأخرى، وعندما يكبر
هؤلاء الأطفال ويصبحون شبابًا وعذراوات يأتون مجددًا لتأكيد تعميدهم، ستفهم ذلك
بدقةٍ أكبر لاحقًا. وقبل أن يأتلفوا في ثنائيات وينجبوا أطفالًا ورديِّين صغارًا عليهم أن يأتوا
ويستمعوا إليَّ أتلو عليهم مقاطع من كتاب. ثم يُنبذون، فلا تتحدث عذراء أخرى إلى من
أنجبت طفلًا ورديٍّا صغيرًا قبل أن أقرأ عليها من كتابي لعشرين دقيقة. هذاضروري، كما
سيتضح لك، مهما كان غريبًا عليك الآن. وفي وقتٍ لاحق، عندما يبدءون في التداعي، أحاول
إقناعهم بعالمٍ غريب لا أكاد أومن أنا نفسي به، فيه حياةٌ مختلفة تمامًا عن حياتهم التي
عاشوها أو التي يرغبون فيها. وفي النهاية أدفنهم، وأقرأ من كتابي على آخرين لن يلبثوا
أن يلحقوا بهم في الأرضالمجهولة. أكون معهم في بداية حياتهم، وفي أوجها، وفي نهايتها.
وكل سبعة أيام، أحدثهم — وأنا البشري الذي لا أرى شيئًا أكثر مما يرونه — عن حياةٍ
آتية، حياة لا نعرف شيئًا عنها، إذا كان لها وجود، ثم أتداعى وأنا لم أزل أحدثهم بنبوءاتي
«. تلك
«! يا لها من حياةٍ غريبة » : قال الملاك
نعم، يا لها من حياةٍ غريبة! لكن ما يجعلها غريبة بالنسبة إليَّ شيءٌ » : رد الكاهن
«. جديد؛ فقد كنت أعتبرها تسلسلًا لا حيد عنه حتى ظهرتَ أنت في حياتي
حياتنا هذه عنيدة، تقيد أرواحنا بحبال متعها المؤقتة، (بصوت » : استطرد الكاهن
خفيض) فعندما أحُدث شعب الكنيسة عن حياةٍ أخرى، أجد بعضهم يشبعون نهمهم
بأكل الحلويات، وأرى شيوخًا يغطُّون في النوم، وشبابًا يختلسون النظر إلى العذراوات،
ورجالًا بالغين يتباهى كلٌّ منهم بصديريٍّ أبيض اللون تتدلَّى منه سلسلةٌ ذهبية، أجسادٌ
بشريةٌ عاديةٌ مغلَّفة بغطاء من البذخ والأبهة، وزوجاتهم يستعرضْنَ قبعاتهن المبهرجة،
ما لمْ تَرَ عَينٌ، » : في حين أواصل أنا كلامي الرتيب عن أشياء لا تُرى ولا تُدرَك، أتلو عليهم

ثم أنظر فأرى رجلًا بالغًا فانيًا يتأمل بعين «. ولَمْ تَسْمَعْ أذُُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ
الإعجاب قفازَين ثمنهما ثلاثة شلنات وستة بنسات. إيماني يضعف عامًا بعد عام، عندما
كنت أمرضوأنا شاب كنت شبه متأكد من أن وراء هذا العالم الخيالي المؤقت يوجد العالم
«… الحقيقي، عالم الأبدية، أما الآن
فازداد وزني عما كان » : ونظر إلى يده السمينة البيضاء تعبث بساق الكأس، ثم قال
«. عليه تلك الأيام
تغيرتُ وتطورت كثيرًا، لم أعد أهتم بصراع الروح والجسد كما » : ثم استأنف كلامه
كنت، يومًا بعد يوم يهتز إيماني بمعتقداتي ويزداد إيماني بالرب، أعيش حياةً خاملة، لا
أؤدي واجباتي على أكمل وجه، وأهتم بالطيور والشطرنج بعض الشيء، محض تفاهات،
وصمت قليلًا.) ) «… عمري بيده
تنهد الكاهن وظل يتفكر، في حين راقبه الملاك متحيرًا، وأعاد الكاهن ملء كأسه.

تعشى الملاك مع الكاهن وتسامرا، ثم حلَّ الليل، فتثاءب.
يا للعجب! يبدو أن قوة عُلْيا فتحت فمي فجأةً ثم تدفَّقت في حلقي » : قال الملاك فجأة
«. دفعةٌ كبيرة من الهواء
«؟ أنت تثاءبت، ألا تتثاءبون في بلدك الملائكي » : قال الكاهن
«. لا نتثاءب أبدًا » : رد الملاك
«. ومع ذلك، أنتم خالدون، أعتقد أنك تريد الذهاب للسرير » : قال الكاهن
«؟ سرير؟! أين هذا المكان » : رد الملاك
شرح الكاهن له ما هو الظلام وعرَّفه فن الخلود إلى النوم (يبدو أن الملائكة لا ينامون
إلا ليحلموا، يحلمون وهم يضعون جباههم على ركبهم كالإنسان البدائي، وينامون في مروجٍ
تغطيها زهور الخشخاش، في حر النهار). ووجد الملاك ترتيب غرفة النوم غريبًا.
لماذا كلشيء مرفوع على قوائمَ خشبيةٍ كبيرة؟ لماذا تتركون الأرضوترفعون » : فقال
فقدم له الكاهن تفسيرًا فلسفيٍّا غامضًا. حرق الملاك «؟ كل شيء على أربع قوائمَ خشبية
إصبعه بلهب الشمعة، وأبدى جهلًا تامٍّا بمبادئ الاحتراق. طال اللهب الستائر، فلم يكن من
الملاك إلا أن راقبه منبهرًا، وبعد أن أخُمِد الحريق اضطُر الكاهن أن يلقي عليه محاضرةً

عن النار. ولم يكن ذلك الشرح الوحيد الذي اضطر الكاهن لتقديمه، حتى الصابون كان
يتطلَّبشرحًا. مرت ساعة تقريبًا قبل أن يخلد الملاك إلى النوم.
إنه جميلٌ جدٍّا، ملاكٌ حقيقي، لا شك في ذلك، » : قال الكاهن وهو يهبط الدرج منهكًا
«. لكن أخشى أنه سيكون مصدر قلقٍ دائم حتى يتعلَّم كيفية سير الأمور هنا على الأرض
بدا عليه القلق، فصبَّ لنفسه كأسًا إضافية، ثم أعاد النبيذ إلى القبو.

وقف الخوري أمام المرآة وخلع ياقته متفكرًا، خاطبته السيدة ميندام من الكرسيالمصنوع
من الخيزران.
لم أسمع قط قصةً أغرب من هذه، لا بد أن هذا الرجل فقد عقله، هل أنت » : قالت
«… متأكد
«. متأكد تمامًا عزيزتي، أخبرتك بكل كلمة وفعل » : رد الخوري
«. أمر لا يقبله العقل » : قالت السيدة ميندام وهي تشير بيديها
«. بالضبط يا عزيزتي » : وافقها الخوري
«. لا شك أن الكاهن مجنون » : قالت السيدة ميندام
وهذا الأحدب من أغرب » : وضع الخوري دبوسيبدلته بعناية على منضدة الزينة وقال
من رأت عيناي منذ وقتٍ طويل بالتأكيد؛ شكله غريب، له وجهٌ كبير فاتح اللون، وشعرٌ بُنِّي
طويل لا بد أنه لم يُقصَّ منذ أشهر! هذا بالإضافة إلى تحديقه الدائم الغريب، وابتسامته
«. المتكلَّفة، هيئته سخيفة كالمخنَّثين
«؟ ولكن من عساه أن يكون » : قالت السيدة ميندام
لا يمكنني تصور ذلك يا عزيزتي، ولا أعرف حتى من أين جاء، ربما » : رد الخوري
«. كان منشدًا في جوقة أو شيئًا من هذا القبيل
«؟ لكن لماذا كان عند الشجيرات؟ وبهذا الزي الفظيع » : سألت السيدة ميندام
«.« ميندام، هذا ملاك » : لا أعرف، لم يعطني الكاهن تفسيرًا، لم يقل لي إلا » : رد الخوري
أتساءل لو كان يعاقر الخمر، ربما كانا يستحمان عند » : قالت السيدة ميندام متفكرة
«. النبع، هذا وارد بالطبع، ولكني لم ألاحظ أي ملابس أخرى على ذراعه
جلس الخوري على السرير، وفك رباط حذائه.
الأمر كله لغزٌ مستغلق عليَّ يا عزيزتي، (يُسمع صوت فك الرباط) الهلوسة هي » : قال
«… التفسير الوحيد ال
«؟ هل أنت متأكد يا جورج أنها لم تكن امرأة » : سألت السيدة ميندام
«. متأكد تمامًا » : رد الخوري
«. يمكنني تمييز الرجال بالتأكيد »
«. وهذا كان شابٍّا في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره »
«؟ لا أفهم، هل قلت إن هذا الشيء سيقيم في منزل الكاهن » : قالت السيدة ميندام
ونهض من السرير واتجه «. هيليار مجنون، هذا هو الأمر ببساطة » : قال الخوري
طريقته كانت توحي بأنه كان يصدق أن » : نحو الباب ليضع حذاءه في مكانه، ثم واصل
«؟ هل حذاؤكِ في الخارج عزيزتي » : ثم سأل السيدة ميندام «. ذلك المشوَّه ملاك بالفعل
لطالما كان غريب الأطوار، فيهشيء » : ثم واصلت «. بل بجانب الخزانة بالضبط » : ردَّت
«! من الطفولة، ملاك؟! يا للعجب
توجه الخوري إلى المدفأة التي كانت السيدة ميندام تُفضِّل إشعالها حتى في الصيف،
يُهمل كل المشكلات الملحَّة في الحياة، وينشغل كل » : ووقف بجوارها يعبث بحمالتَيه وقال
لا بد أن هيليار » : ثم انفجر بالضحك وواصل «! حين بشكلٍ جديد من أشكال العبث، ملاك
«. مجنون
حتى لو كان كذلك، لا تفسير » : انتقلت عدوى الضحك إلى السيدة ميندام وقالت
«. للأحدب بعدُ
«. لا بد أن الأحدب أيضًا مجنون » : قال الخوري
وصمتت برهة.) ) «. هذا هو التفسير المنطقي الوحيد » : قالت السيدة ميندام
سواء أكان ملاكًا أم غير ذلك، لا يهمني إلا ما يعنيني، حتى لو كان » : ثم واصلت
«. الرجل يظن أنه بصحبة ملاك، ما من سبب يسوغ عدم تصرفه بلياقة
«. صحيح تمامًا » : رد الخوري
«؟ ستكتب إلى الأسقف، أليس كذلك » : قالت السيدة ميندام وهي تسعل
نعم، لن أكتب إلى الأسقف، لو فعلت لبدا في ذلك شيء من الغدر، كما » : رد الخوري
«. أنه لم يهتم بخطابي الأخير
«… لكن بالتأكيد » : قالت
سأكتب إلى أوستن سرٍّا، وهو سيخبر الأسقف لا محالة، عليكِ أن » : قال الخوري
«… تتذكري يا عزيزتي أن

إن هيليار يمكنه عزلك؟ هذا ما كنت ستقول؟ عزيزي، الرجل أضعف من » : قاطعته
أن يفعلها! أعرف ذلك، كما أنك تتولى كل أعماله نيابة عنه، فنحن من نُدير الأبرشية من
أقصاها إلى أقصاها، لا أعرف ماذا قد يحدث لفقراء الأبرشية لولاي، غدًا سيؤويهم منزل
«… الكاهن مجانًا، جودي أنسيل مثلًا
«. أعلم يا عزيزتي، حدثتْني عنها بعد ظهر اليوم » : قال الخوري وهو يخلع ملابسه

وهكذا، في غرفة النوم الصغيرة هذه، نصل إلى استراحتنا الأولى في هذه القصة، بذلنا جهدًا
فيسردها للقارئ الكريم، وقد حان الوقت الآن لتلخيصما سبق ذكره.
بالنظر إلى ما سلف ذكره يتضح للقارئ الكريم أن الكثير قد جرى، بدأنا بوهج من
الضوء (كشعاعٍ ذهبي يلمع في ظلمة الليل في منحنياتٍ تظهر وتختفي كالْتماع أنصال
سيوفٍ مصلتة)، وصوت قيثارة، وظهور ملاكٍ ذي جناحَين متعددي الألوان.
ثم قُص الجناحان سريعًا، واختفت الهالة المحيطة بالملاك، وانطمس بهاؤه تحت
المعطف والبنطال، وبدأ الملاك يتصرف كالإنسان خوفًا من اتهامه بالجنون أو الانتحال.
وقد رأى القارئ الكريم أيضًا آراء الكاهن والطبيب وزوجة الخوري في الوافد الغريب أو
خمَّن تلك الآراء، وسترد فيما يلي آراءٌ مثيرة أخرى.
استحال غسق تلك الأمسية الصيفية ليلًا مظلمًا، وخلد الملاك إلى النوم، فرأى فيما
يرى النائم عالمه الرائع، حيث الضوء دائم، والجميع سعداء، والنار لا تحرق، والثلج لا
يقرص، والنجوم تنثر ضوءها الفضي على غدرانٍ تتخلَّل مروجًا يغطيها عشبٌ كالزغب
الناعم وتصب في أبحر من سلام. يرى جناحَيه وقد استعادا ألوانهما الكثيرة، يرفرف بهما
في هواءٍ نقي كالبلور يملأ العالم الذي جاء منه.
وبينما كان الملاك مستغرقًا في أحلامه، ظل الكاهن مستيقظًا تكتنفه الحيرة. ساوره
قلق مما قد تُقدِم عليه السيدة ميندام، لكن أحاديث ذلك المساء فتحت نافذة في عقله، رأى
منها بعين الخيال عالمًا سحريٍّا لم يخطر ببال أحد، عالمًا ظل حتى ذلك الحين متواريًا عن
أعين عالمه. لعشرين عامًا عاشحياته اليومية كسائر أهل قريته، تعصمه معتقداته العادية
وكفاح الحياة المرهق من الغرق في الأحلام الغريبة، أما الآن فقد دهمه إحساسبحلولشيءٍ
غريب لم يعهده، خالط انزعاجه المعتاد من جاره الفظِّ.

شعر بنذر شرٍّ قادم طغَت من فورها على كل اعتباراته؛ فقام من سريره متخبطًا،
واصطدمت ساقاه بالأثاث أكثر من مرة، حتى عثر على أعواد الثقاب أخيرًا، فأشعل شمعة
ليتأكد أن عالمه الذي يعرفه لم يزل كما هو. كانت المتاعب التي سيجرُّها عليه آل ميندام
أكثرَ ما يشغله، تخيَّل لسان السيدة ميندام معلقًا فوقه كسيف ديموقليس، هل ستهدأ
ثائرتها قبل أن تملأ الدنيا ضجيجًا عن هذه الواقعة؟
وعندما نامصائد الطائر الغريب أخيرًا نومه المضطرب، كان جالي—ابن سيدرتون—
يفرغ بندقيته بحذر بعد يومٍ مرهق لم يُدرَّ عليه شيئًا، وكان ساندي برايت راكعًا يصلي
وقد أحكم غلق نافذته. وبعد أن تحادثتا طويلًا عن الصوت والوهج غطَّت آني درغان
في نومٍ عميق وفمها مفتوح، وكانت أم آموري تحلم بالغسيل. وجلس لامبي درغان في
سريره يدندن بجزء من لحن سمعه مرةً ويرهف السمع لعله يسمعه مرةً أخرى. أما كاتب
المحامي في إبينج هانجر، فكان يحاول كتابة أبيات من الشعر عن ابنة تاجر الحلويات في
بورتبردوك وقد نسي أمر الطائر الغريب تمامًا. وبالنسبة إلى المزارع الذي رأى الطائر على
تخوم حديقة سيدرمورتون فقد لحقت بعينه إصابة نجمت عن مشادةٍصغيرة حول أرجل
كان علينا أن نُشير إلى هؤلاء في عجالة، إذ لم يسبِّب مَلَاك قبل .« السفينة » الطيور على متن
ذلك قط مثل هذه السلسلة من الأحداث.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.