MariamAhmedBekhit

شارك على مواقع التواصل

(٤)
«وحدها الأسماك الميتة تنجرف مع التيار.»
في قارب شبه متهالك تحت ضوء النجوم، كان جالسًا يتابع اصطدام المياه بالجدران دون أن ترمش عينه، في لحظة واحدة جذب الرمح الخاص به ثم ضربه في طرف السفينة واصطاد سمكة كبيرة، رفعها ثم ألقاها في القارب ليتناولها في وقت لاحق.. كان لقبه هو «الأعمش» لأن الرؤية لديه ليست جيدة، عاد للإبحار متجهًا إلى (بقعة الغرباء) وهو ذلك المكان الذي يأخذ منه المسافرين في يومهم الأول.
شعر بأن القارب اهتز بطريقة غريبة فضرب رمحه ليظهر له ملابس بيضاء، نهض من مكانه ثم بدأ يجذب ذلك الشخص الغارق ويلقيه بالداخل.. كان شاب في منتصف عمره، جسده يشوبه تشوهات ويرتدي حلة بيضاء تشبه تلك الخاصة بالطيارين.. تركه في القارب ثم بدأ يتحرك نحو البر.
عندما وصل إلى البر كانت السماء صافية لا يوجد بها سحب فقط مجموعة نجوم متفرقة كل منها على طرف، بمجرد أن وصلا استيقظ ذلك الشاب وبدأ يتلفت حوله ثم انفجر باكيًا وهو ينظر حوله قبل أن يسأل:
- أين الحطام؟
- كل شيء اختفى وأنت انتقلت إلى هُنا.
ظل يشاهد النجوم وهو يبكي بحسرة ولكن «الأعمش» لا يعرف السبب وراء بكائه فالتزم الصمت؛ لأنه يعلم أن جميع من ينتقل إلى هنا للمرة الأولى يصيبه التيه، تكون تحركاته كلها دون علم لما هو قادم.. أنهى بكائه فوجد كوخًا في الخلف تحركا نحوه وأعطاه حقيبة صغيرة بها قارورتين وقطع قطنية صغيرة، فأخرج إحدى القارورتين يشربها جرعة واحدة ثم جلس على الأرضية ينظر للسماء بأعين باكية، ربت «الأعمش» على ظهره ثم قال:
- هناك سبب لكل شيء.. اتبعني.
تبعه ثم ركبا القارب مرة أخرى، وقد بدا المكان وكأن حاله يتبدل عندما يتحرك هذا الرجل الغريب، أعطاه عصا ليجدف بها في الماء وأمسك هو بالأخرى ثم جدفا حتى وصلا إلى منتصف بحيرة كبيرة وما حولهم أكواخ أنصافها السفلية في الماء حتى الباب نصفه غارق بينما النصف الآخر به شرف.. أشار الشاب نحو كوخ مكتوب فوقه (المكتبة) وهو يقول:
- مكتبة غارقة!
- لا شيء غارق هنا، هذه المياه لن تبللك حتى لو غرقت فيها.
قفز «الأعمش» ثم تظاهر بأنه يسبح لكن ملابسه لم تتبلل، نهض بعدها ثم حاول رفع نفسه بفعل الماء فكونت موجة عالية رفعته إلى القارب مرة أخرى وهو يقول:
- دعني أعطيك اسمًا أولًا.. ليكُن اسمك «نديم».
تحركا صوب المكتبة ثم دلفا يشاهدون كل شيء في الداخل، الأسوار المزخرفة والرفوف الملونة وكل واحدٍ منها مكتوب عليه (الجغرافيا)، أخرج «الأعمش» كتاب ثم أعطاه له وهو يقول:
- دليلك في معرفة المكان.
أمسكه يقلبه بين كفيه محاولًا القراءة لكنه لم يستطع، تحركا مرة أخرى حتى قابلا العجوز القابع في المكتبة، أشعل الشيب رأسه بينما هو يحرس تلك المكتبة منذ زمن والزمن هنا يقصد به ملايين الدقائق، جلس «الأعمش» ومعه «نديم» وبدأ يتفحص الكتاب يقرأ منه.
*******
مقدمة
في بداية رحلتك إلى هُنا ستتساءل عن سبب وجودك، وعن البوابة أو كيف تعود إلى منزلك مرة أخرى، عائلتك التي تنتظرك وفراشك الذي اعتدته، ما يجب أن تعلمه هو أنك ستخرج من هنا بشخصية جديدة، ما يجب أن تتأكد منه هو أن كل شيء لم تدركه في الأرض ستدركه هنا.. سواء أتيت عن طريق البر أو البحر الجميع هنا سواء.
شخصيتك الجديدة ستعلمها بمجرد أن تقطع أشواطًا في طريقك الصحيح فقط، وتذكر دائمًا أن الكتاب هذا هو دليلك الوحيد للنجاة فلا تكسر قاعدة ولا تتهرب من شيء سيصيبك لأنه حتميًا سيُصيبك.. لا يكُن قدرك موكل بالنُطق وإنما بما تفعله، نسيتُ أن الحياة على الأرض هُناك تجعلك تعتقد أن المرء حسابه على ما ينطقه.. هُنا كل شيء بالمقلوب، القدر بما ستفعله أنت فقط.
أما عن الأرض وغيرها فأبحث بنفسك في المكان، رُبما قدرك أن تكون من المعاونين، أو بحار يجمع الراحلين ويلقيهم في بئر الظلمة.. وتذكر ألا يضيع منك هذا الكتاب، نسختك الوحيدة وطوق نجاتك الوحيد.


في البحيرة
كان صوت الأمواج المتلاطمة يدور في ذهنها بكثرة مع شعور أن شيئًا يجذبها لأسفل، طنين أذنها يتعالى وهي تترنح في المياه محاولة التشبث في أي شيء، اصطدمت بشيء صلب فرفعت يدها تستند إليه ثم بدأت ترفع جسدها.. كان ارتفاع المياه يفوقها بمراحل بينما هي تتسلق الصخور بألم في جسدها حتى وصلت إلى قمتها فبدأت تتنفس بكثرة، أنفاسها تتلاحق، تلهث وكأنها كانت تسير في الصحراء لأميال.. صرخت عندما وجدت قاربًا يقترب منها وهي تقول:
- أنا هنا.
كان صوتها حبيسًا وكأنها تختنق لكنه تعالى رويدًا رويدا، التفت لها الشاب الجالس في القارب ثم بدأ يتحرك به نحوها فصعدت إليه وهي تمد يدها ليجذبها ولكنه تركها تتحرك بمفردها بينما هو يقول:
- ظننتكِ غادرتِ.
- أشعر باختناق.
أعطاها حقيبة فتجرعت الزجاجة وهي تقول:
- ما هذه الزجاجة؟
- ما يبقيكِ على قيد الحياة هنا.
تحرك بالقارب في اتجاه أرض الأكواخ ثم تجولا فيها، بدأ سيرهم في أرض صخرية، العديد من الأكواخ تحاوطهم وفي الشرف الزجاجية يظهر أناس ينظرون لها، وصلا إلى كوخ شبه محطم فتوقف «سليم» أولًا ثم قال:
- طُلِب مني أن أتركك هنا.
نظرت حولها فوجدت أن الأكواخ أصبحت بعيدة عنها فقط هذا الكوخ يقع بمكان أشبه بالصحراء، وجدت صنبور للمياه وبمجرد أن اقتربت منه بات يتلاشى، التفتت له تتساءل:
- هلا أخبرتني كيفية العودة إلى عالمي؟
- سأترك معكِ الكتاب لتطلعي عليه.. حين أعثر عليكِ مرة أخرى ستخبرينني بما استطاعتي قراءته من هذا الكتاب، وإن لم تستطيعي فاذهبي إلى مكتبة العجوز.. الكتاب يخبرك بطريقك كما أخبرني أن أتركك هُنا، عليكِ أن تتحركي الآن.
تركها أمام الكوخ ثم غادر في اتجاه العودة إلى القارب بينما هي بدأت تتطلع للمكان واقتربت من الكوخ، وجدت ورقة معلقة على الباب مكتوب عليها
" المهمة الأولى,
على الإنسان أن يهتم بنظافة مسكنه لذلك نظفي الكوخ هذا جيدًا، وحاولي استكشاف مكان كل شيء ستحتاجينه.. وستأتيكِ المساعدات عِندما تصلين إلى الأجزاء الشاقة. "
ألقت بالورقة أرضًا ثم دلفت وعلى وجهها نظرة غير مبالية، وجدت المكان بالداخل أشبه بمنزل قديم، أريكة متهالكة وفراش يعتليه بيوت العنكبوت، ومجموعة أوراق ساقطة على الأرض.. نظرت إلى الحائط الثالث فوجدت مكتب صغير كرسيه مقلوب على جانبه، مجموعة أقلام وورقة ملطخة تعتلي المكتب فاقتربت منها.. وجدت رسالة بخط اليد وصورة لرجل بحلة سوداء يقف في حديقة ومن حوله زهور ملونة صغيرة، أمسكت الصورة ثم تحركت باتجاه الأريكة فوجدت خلفها شرفة زجاجية من كثرة الأتربة بات لونها بلون الجدران الخشبية، فتحتها وهي تبعد بيدها الأخرى تلك العفرة التي أغرقت وجهها، بدأ سِرب ضوء ينتقل إلى المكان عبر الشرفة على الرغم من الظلام الدامس.. فقط ضوء القمر يترك أثره دون التلوث الذي اعتدته.
لم تجِد أي شيء تستطيع استخدامه في التنظيف، لا أوانٍ تستطيع وضع الماء بها ولا ممسحة ولا أي شيء.. قررت سحب غطاء الفراش لتمسح به لكنها وجدت الأتربة المتراكمة فوقه أكثر بكثير، وعلى الرغم من ذلك لم تتسخ ملابسها حتى.. خرجت لتبحث في الخارج فوجدت سيدة تسير وفي يدها مجموعة أوانٍ، ركضت نحوها وهي تقول:
- من أين أتيتِ بهذه؟
التفتت لها السيدة ثم وقفت تنظر لها بعد أن ضيقت عينيها وهي تقول:
- يوجد رجل يصنعها في ذلك الاتجاه.
سارت في نفس الاتجاه الذي أشارت إليه السيدة دون أن تودعها، ظلت تسير لفترة لكنها لم تجد أي شيء فوقفت في مكانها على وشك البكاء، تشعر بالخدر في أقدامها وكأنها تسير لأيام، جلست على الأرض تبكي حتى سمعت صوت يقول:
- لماذا تبكين؟
التفتت فوجدتها عجوز تحمل قوارير زجاجية، نظرت لها ثم وقفت وهي تقول:
- أريد زجاجة مثل هذه.. من أين أحضرتها؟ لا لا هل تستطيعين إعطائي واحدة؟
مدت السيدة زجاجة ثم أخذتها مرة أخرى وهي تقول:
- ولكن لا شيء من دون مقابل، ماذا لديك؟
- أنا جديدة هنا، لا زلت أستكشف المكان ولكن يتوجب علي تنظيف كوخي أولًا.
تأوهت السيدة فسقط منها كل ما تحمله، ظلت واقفة في مكانها لكنها شعرت بالضيق فتحركت في اتجاه العجوز تلملم أغراضها، هتفت السيدة بجدية:
- ساعديني على الوصول إلى كوخي بكل هذه الأغراض وسأعطيكِ ما يكفي لتنظيف كوخك.
حملت الأغراض ثم سارت بجوار السيدة التي التزمت الصمت، فقط تسير دون أن تشعر بعناء بينما هي مع كل خطوة تشعر بأنها تسير على أشواك، قدمها تؤلمها والرؤية تصبح ضبابية شيء فشيء، ظلت تسير حتى وجدت ممسحة وزجاجات مياه على الأرض أمام كوخها، ركضت في اتجاههم وتركت العجوز وأغراضها، بمجرد أن أمسكت بإحدى الزجاجات وجدته ماء وسِخ، والتفتت فلم تجِد العجوز.
وجدت ورقة جديدة مُلقاة بجوار الزجاجات المتسخة
"ألم تتعلمي الدرس من العجوز الأولى؟"
******



على الجزيرة
تجمع فريق الإنقاذ في رحلة البحث عن الفتاة التي لم تخرج إلى سطح المياه منذ ساعات، ما بين بكاء «ايجه» وصدمة «طارق» كان الجميع منهمك في البحث أكثر وأكثر يحاولون البحث في القاع وفي كل مكان لكن لا أثر لها، خرج أحد المنقذين يقول:
- من الممكن أن التيار جرفها لمكان بعيد.
أرسل أحدهم بلاغًا عبر الجهاز الذي معه ليخبرهم أن فتاة كانت تسبح واختفت من البحر ليبدأ بقية فرق الإنقاذ على السواحل البحث عنها.
- هل من الممكن أن تكون.. هل ماتت؟
أنهت «ايجه» حديثها باكية بينما تنظر إلى «محمد» الذي وصلت أوردته بمحاليل مغذية، التفت طارق ينظر لها ثم عاد بنظره إلى صديقه وهو يقول:
- لن تكون كذلك -بإذن الله-.
سمعوا صوت هاتف «محمد» يصدر نغمته المعتادة عندما تتصل والدته، نظر الاثنان للهاتف ثم أجاب «طارق» أولًا ليأتيه صوت والدته العجوز تقول:
- هل أنتم بخير؟ انقبض قلبي فجأة.
- نحن بخير يا أمي لا تقلقي.
كانت «ايجه» تتابع معه المكالمة لتسمع صوت والدته الذي ارتاح فجأة فصرخت فيه برعب:
- بخير؟؟ أي خير بينما كل منهما في عالم آخر؟
دفعها بعيدًا ثم قال:
- «ايجه» كانت تمثل مشهد من مسرحيتها القادمة.. لا تقلقي يا أمي وأبلغي والدة «محمد» سلامنا أيضًا.. هو سيحادثها عقب خروجه من الحمام.
أنهى المكالمة ثم أغلق الهاتف وظل ينظر لصديقه بصمت بينما في الخلفية «ايجه» تحادث ذاتها وتصرخ على نفسها:
- هل حصلتِ على مرادك؟ لم تحصلي بالتأكيد.. دفعتيها وماذا لو ماتت؟ أصبحت قاتلة!! أنا قاتلة؟
ظلت تضرب على رأسها وهي تبكي بينما «طارق» نهض من مكانه وهو يقول:
- ماذا فعلتِ؟
نظرت له بينما هو اقترب منها يصرخ أكثر:
- هل أنتِ من مزق لوحها؟
أصبح الصمت هو المسيطر ويتخلله صوت نحيبها وأسئلة «طارق» اللانهائية.
4 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.