SaraMamdouh

شارك على مواقع التواصل

أول أيام دوامي في إحدى شركات الدعاية والإعلان. عمل؛ على قدر بساطته لا أظنه ملل. استقبلت مرآتي، وعقدت أنشوطة على خصر فستاني الرمادي الخالي من التفاصيل، والذي يلائمه حذائي الأبيض؛ الذي لا يضيف لطولي لكنه يمنحني الشعور بالراحة. ساويت جنبات شعري، وتعطرت بالياسمين. استدرت استدارة كاملة أنشر العطر حولي وابتسم؛ لاستقبل أول أيام عملي.
مقر الشركة ملاصق لمسكني فلا يقلقني عبور الشارع ولا تزعجني إشارات السائقين ولا نظرات العابرين. سرت بخطوات رشيقة حتى دخلت الشركة، وزعت ابتسامات خجولة على الزملاء والزميلات اللاتي تكرمت إحداهن وأشارت لي نحو مكتب غربي قصي يجاور نافذة ستكون مؤنستي وملاذي الوحيد.
مرت شهور وبدأت استشعر الملل فكل مهمتي هي تحويل المستندات الورقية إلى أرشيف إلكتروني واستبدال ابتسامة الصباح بنظرة إحباط. لا أتعامل مع زملاء العمل والزميلات ربما رغبة منهم أو رهبة مني في استكشاف المجهول أو لفتور ما أو لانشغالهم. لا يعنيني فلدي عالمي الخاص الذي يبدأ بعد مواعيد العمل الرسمية ... لدي مكتبتي ورسوماتي وأوراقي وألواني.
يوم الثلاثاء الثقيل كعادته في منتصف شهر يوليو، الجو حار ورطب ويزيد بل يضاعف احساسي بالملل، الموسيقى الغربية في خلفية بيئة العمل والتي تبعث على النوم. العملاء في آخر الصالة منهكون أكثر من الموظفين.
توقف أمام مكتبي مباشرة ثلاثينيٌ أسمر ذو لحية تحدد وتبرز تقاسيم وجنتيه، ملامحه شرقية أصيلة، شعره أسود يميل على جانبي رأسه بفارق، عطره لاذع ونفاذ يخطف الأنفاس وعيناه ... عيناه مرسومتان بكحل طبيعي تحددها رموش طويلة متشابكة الأطراف تقطران عسلا خلابا، ساحرة اخذتني لعالم لا جاذبية فيه ولا أرض.
تبدد السأم فجأة، وأزهرت سنابل القمح الذهبية فوق مكتبي ووجدتني افتح عيناي على دنيا عيناه الواسعتين اتابع إشاراته وانفعالاته وأنا متنبهة الحواس مأخوذة مدهوشة، أغالب نفسي وأحاول جاهدة أن استر ضعفي. طالت لحظات وقوفه أمامي تؤنسني فيها حركات يديه السريعة ويوترني انعقاد حاجباه العريضان اللذان يزينا جبينه الأسمر.
صمتت يداه وعقد ساعديه منتظراً ردي، زاغت عيناي في محاولة استفزازية لجعله يغادر دون انتظار الجواب على ما يبدو أنها شكوى. طال صمتي لدقيقة كاملة وهو يترقبني حتى قاطع اهتزاز هاتفي صمتا لابد أن ينتهي.
إنها امي التي اعتادت مهاتفتي في منتصف النهار حتى تخفف من وطأة وحدتي. لمست هاتفي وواجهت الشاشة مبتسمة وجعلت اتكلم مع أمي بتقنية الفيديو المصور "الصامتة". انهيت المكالمة دون أن ارفع رأسي تجاهه لكنني أشعر أنه لا يزال يراقبني.
رفعت خصلة انسدلت ولمست أذني ثم اتجهت بإصبعي نحو شفتي وهززت رأسي بالنفي. صمت موحش سكنني وزادت وحشته بصمت يديه. مددت يدي نحو ورقة ملاحظات بيضاء لأكتب له أنني ...
بادر ولمس يدي ورفع رأسي تجاهه وكلمني بلغتي مبتسما.
بارع وسريع ووسيم ومريح. أعاد شكواه بلغة الإشارة هذه المرة، تابعني وتابعته، وفهمت شكواه وأوصيت إليه بالمتابعة مع المسؤول عن إعداد الكروت الشخصية. شكرني ورحل. سعادتي غامرة فهذه أول مرة يحدثني فيها أحد منذ أشهر.
انهيت عملي وخرجت لألتقيه أمام باب الشركة ينتظرني بابتسامة من وراء الخيال محملا بورود وشوكولا بالبندق. قص لي بيديه كيف ومتى تعلم لغة الصمت. أمه صماء، وهو معتاد على الهدوء وحركة اليدين ولا يؤرقه أنها لا تسمع دقات الجرس وتحتاجه ليقص عليها ما لم تستطع متابعته من حركة شفاه الممثلين في المسلسل المفضل لها ... مرت دقائق قصصنا فيها ملخص حياتينا.
سألني إن كنت بحاجة إلى رفقة في طريقي للمنزل فوافقت، وسرنا خمس عشر خطوة ثم استوقفته وأشرت إلى بيتي أنبهه أن حان وقت الرحيل. رفع سبابته اليمنى وأنزلها في إشارة للغد، وجدتني أشير بيميني إلى معصمي الأيسر أسأله عن الوقت فأجاب بأصابع ثلاث فأجبته بضم السبابة والإبهام.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.