SaraMamdouh

شارك على مواقع التواصل

عيناها نهر عذب .. ابتسامتها ساحرة .. شعرها المجدول على الطريقة النوبية ينبئ بأنني أعشق كليوباترا .. تفوح بالمسك والصندل .. نهداها المستتران تحت ردائها يكاد ينطقان باسمي .. واستدارة كتفيها تلهمك أن تكتب شعرا وتصوغ قصصا وأساطير.
خصرها لا يتمايل بل يستقيم بشموخ وتكتفي بخطواتها الواثقة ودقات كعب الحذاء الأحمر العالي الكفيلة بقلب امبراطوريات.
نظراتها العميقة لا تبوح بسر.. بارعة في إخفاء شوقها وغيرتها. منذ لقائنا الأول تضفي عليَ حيرة وتملأني بالتساؤلات. أعشق صحبتها وتؤنسني عطورها الشرقية الناعمة وأنفاسها الطيبة وتشابك أصابعها حول فنجان القهوة الفرنسية بالبندق.
أحب الجلوس إليها واتعجل لقاءاتنا دوما. تشاركني تفاصيل يومي وتنشغل بمخططاتي واقابلها في احلامي فاستكمل معها مغامراتي. اعشق ثقتها بنفسها. لا تغار، بل ترى الغيرة ضعف وقلة حيلة .. رزينة وتزن انفعالاتها. كثيرا ما استفزها وامتدح غيرها لتردني بقول حب، فتجيبني إن اردت اذهب فسعادتك تعنيني.
لا اعرف لمَ تميل بين اللين والقسوة بل والتجاهل أحيانا. هاتفتني صباحًا بصوت ملؤه النعاس وقالت:
- اشتقت لقهوتي معكَ.
ثم تجاهلت مكالماتي طوال اليوم بعدما أثارت كل مشاعري وفضولي لمعرفة سبب شوقها إلي. تترك عيناي معلقتان على بندول الساعة الحائطية، فأتوحد معه في تنقلاته يمنة ويسرة حتى يرن هاتفي بنغمة خصصتها لها.
سأعاتبها اليوم بشدة، لن يمر اليوم بسلام لتقصيرها معي في التواصل. يجب ان تشعر بعدم الاهتمام من جانبي أنا أيضا وبقسوة الاستغناء. يهزمني الوقت وتهزمني برقتها، أجيب اتصالها ببرود فتسالني بدلال:
- ألم تفتقدني؟
يقف بي الزمان، واحاول التماسك، فيخذلني صوتي واتوسل المحبة بسؤال طفولي:
- وهل تهتمين لأمري؟
فتهرب وتسألني عن حالي؟؟!!! وتنهي مقاومتي بعبارة جائعة:
- هل ترافقني للعشاء؟
فارتدي ملابسي بسرعة الصاروخ واتعطر.
اليوم اعتزم أن افاتحها في خطوة أجلتها طوال سنة لانشغالي بالعمل. أحضرت الورود الحمراء والشوكولا الداكنة كما تحبها. أرتدي القميص الأزرق الذي يعجبها انعكاس لونه على بشرتي. اعترف ان عبارات الغزل منها مختلفة واشتاق إليها اليوم كما لم اشتاق لامرأة من قبل. آمل أن يأتي الورد والشوكولا بثمارهما الليلة.
طلت بكنزتها الصوفية الوردية ذات الكتف الواحد، انهارت مقاومتي كليا وأتمنى لو تمنحني شرف الهمس لهذا الكتف القمحي المستدير وأستريح إليه ملء جفوني وأغفو حتى الصباح لاستيقظ على سحر ابتسامتها.
- ورود وشوكولا ! ماذا تريد مني ؟ اعترف !
- تزوجيني !
تبدلت ملامحها وعلاها الوجوم، لا أدري إن كانت تفتعل الضيق أم أني لم أعرض الزواج بطريقة تليق بها؟
- ما بكِ؟ لا اعتقد أن طلبي غير مفهوم أو غير متوقع ... عاما قضيناه سويا بكل تفاصيله عشقتك منذ لقائنا الأول، لا ننفصل كتابة وصوتا، تعرفين كل تفاصيل حياتي واهتماماتي وأطعمتي المفضلة، نبتاع ملابسي سوياً!!
- هكذا يكون الأصدقاء.
صدمتني بجدية صوتها، وبرودها الغير متوقع.
اتسعت عيناي واستجمعت رباطة جأشي كي لا أخطئ التعبير
- ليس لدي سواك ولا لغيري بديل.
- ومن حكم بذلك؟ أنت؟
...........
غادر مسرعاً دون التفات. كان ردي صادم ومتعمد وابتسامتي الساخرة مع آخر جملة كفيلة بأن تقصيه دون رجعة.
أعرفه جيداً، أكثر مما يعرف ذاته، أصاحبه أينما ذهب. أعرف أدق تفاصيل عمله وجدول مواعيده وهمومه وخططه وتفاصيله الصغيرة معلقة في دولابي. أختار كنزتي الصوفية الوردية عندما استشعرت اللهفة في صوته. وأدخر هذا الفستان الأسود القصير لحفل عيد ميلاده. وأتأنق بالأزرق إذا ما أخبرني أننا سنقابل أصدقاءه فهو يعشق هذا اللون حد الجنون، وحقيقة يليق ببشرته.
ارتباطه بي وثيق، أصحبه حين يشتري معطر سيارته وفي زيارات أصدقاءه واقاربه، يعرفني عليهم بأني صديقته المقربة. فقده يدمي قلبي، لكنه مكسب في النهاية.
أناني؛ لم يسألني يوما عن طبيعة عملي، أو منذ متى أعمل لدى هذه الوكالة الأجنبية، ما هي خططي للمستقبل، أين صديقاتي، لم يسألني يوما عن حال أفراد أسرتي رغم علمه تعلقي الشديد بهم.
لم أرتدي لوني المفضل معه "الأبيض" فهو يرى أنه لون الموتى. كان لابد من الفراق فالحياة معه بعد امتلاكي ستكون قاسية فأنا يعنيني الاهتمام بالتفاصيل وتعنيني الصباحات أكثر من وعود الليالي التي تسبقها. لن أندم بالتأكيد لن أندم
... ... ...
تعاقبت فصول السنة الأربعة ولا أزال منهمكة في عملي وأسفاري. كنت أتلهف لسماع اسمه واخبار نجاحاته، وهو من جانبه يلاحق ذكراي ليلا ويدفنها نهارا. تمنيت لو عاتبني أو سألني عما أريد، لكنه آثر نفسه ومثله قدمت كرامتي. وتوالت ليالي الوحدة بعدها.
غريب تعلق الروح بمثلها، كتوتة تتسلق أعلى الجدار تتشابك بصبر حتى يستحيل تخليصها دون اتلاف الاوراق والازهار والروح.
اليوم خطبة صديقة مشتركة لنا فما أشهى التأنق بالأبيض المفضل لدي، خاصة وأن العروس سترتدي الزهري. وقفت في زاوية تسمح لي بمراقبة المشهد عن بعد دون تدخل المتطفلين. فالجميع يترقب هذا اللقاء ولا أحد يعرف سبب الفراق حتى الآن. طل بحلته الرمادية وحذاءه البني، وصلني عطره كأنه هجوم مخطط واحتلال متعمد، لمحني من بعيد بالأبيض فهاله اللون.
كانت كالعروس بفستانها البسيط ذو التصميم الروماني. تقدمت نحوها كالمسحور وكأنها ميدوسا تقودني إليها بعينيها وتنوي أن تحيلني إلى تمثال حجري. فستان حريري ملعون يحيط بنهديها ويشف عن أعلاهما وينسدل بطرفه على ذراعيها ويلامس برقة ركبتيها.
دنا مني، وهمس:
- جعلتِ من لون الموت حياة، أوصلك للبيت بعد الحفل.
استكملتُ السهرة برفقة أصدقائي وعيناي معلقتان على الركن الذي يضم عروسي الخمري.
في نهاية الحفل، تقدم نحوي ودون أن ينطق بكلمة أحاطني بيدٍ وخرج بي إلى سيارته واستقريت بجانبه.
توارى عنادي واحتلني الشوق. وكعادتي أرجعت الكرسي إلى الوراء كي استطيع الجلوس باعتدال.
- افتقد طولك وانت تسيرين الى جواري، افتقد تلك الحركة اللا إرادية التي تعدلين بها مساحة جلوسك في سيارتي.
أدار المذياع ليبدد صوت أفكاره المتلاحقة فعاجلته فيروز " أنا لحبيبي وحبيبي إلي"، ليتك تغافلين عنداك وتغنين لي مثلما كنت تفعلين دوما، اشتاق لصوتك!
توقف فجأة في منتصف الطريق فتنبهت مستنكرة وقد غرقت في افكارها هي الأخرى.
سألها بغضب:
- ما الخطأ الذي ارتكبته؟
ردت بكل هدوء:
- ما اسم اختي الصغيرة؟
استنكر السؤال الذي اعتبره استهزاء بكلامه ومشاعره، لكن سرعان ما صمت ووجم؛ هو حقا لا يعرف اسم اختها، كيف لم يسألها من قبل؟!
ففاجأته:
- ماذا أعمل؟
استجمع قوته وهجومه الرجولي:
- تعملين لدى تلك الوكالة الدولية.
- لم أسالك عن المكان بل عن طبيعة عملي؟
بهت .. لم يواجهها، بل أدار محرك السيارة واستكمل طريقه، هو فعلا لا يعلم أو لعله لم يهتم. كيف يحفظ ملامحها عن ظهر قلب ولا يكاد يفقه خارطة عقلها.
احتفظتُ طوال الطريق بابتسامة باهتة باردة، أما هو، فصار كالبركان يثور، فيلقي حممه على جبهته ويصبغ عينيه بلون الدم. يديه تطلق نفير السيارة لأتفه الأسباب وبشكل مزعج، ويطيل دعس بدال البنزين فيحرقه كما يحترق. يحدث نفسه بهمهمة غير مفهومة فيوافق تارة ويرفض تارة.
توقف أمام منزلها ونزلت دون وداع وانطلق هارباً.
مرعبة تلك المرأة الذكية التي تعرف ماذا تريد وكيف تريده ومتى.
في الصباح تلقت رسالته:
- "ضاع عرشي بعدك، فهل تقبلين توبتي وتعيدينني أم سأظل منفيا للأبد؟!"
لم يرده سوى علامتين زرقاوين تخبره باستلامها الرسالة. عدلت وضع السماعات بأذنيها وانطلقت نحو الطريق راكضة في صباح حمل إليها نسيم الحرية من ماض ظنت أنه سيخيم بظلاله على أفقها إلى الأبد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.