في طريق عودتها من عند ندى، كانت تسير بخطوات بطيئة، كأن كل خطوة تُعيدها سنوات للوراء… تحديدًا لطفولتها، حيث بدأت الحكاية الأولى بينهما: هي… وأمّها.
كانت دائمًا تعتقد أن المشاعر تُقال، تُلمس، تُرى… لكن أمّها لم تكن من هؤلاء.
كانت امرأة لا تعرف أنصاف الحلول: إمّا الصدق حد القسوة، أو الصمت حدّ الوجع.
تتذكّر يومًا كانت في الثامنة، حين عادت من المدرسة تبكي لأن معلمة الرياضيات وبّختها أمام زملائها.
كانت الصغيرة تنتظر حضنًا… يدًا تربت على كتفها… كلمة بسيطة: “ما تزعلنيش يا روح ماما.”
لكن أمها قالت بحدة:
"ابكِي؟ ابكي ليه؟ البكا عمره ما علّم حد. قومي ذاكري."
تلك الجملة… ظنّتها قسوة.
ظنّت أن أمّها لا تحبّها.
ولسنوات طويلة، كلما بكت… كانت تختبئ.
تصدّق أن دموعها خطأ، وأن ضعفها عيب، وأن احتياجها للحنان… ترف لا تستحقه.
وتتوالى الذكريات…
لقطة أخرى:
في ليلة برد قارس، كانت مريضة، ترتجف من الحمى.
كانت تتوقع أن أمّها ستجلس إلى جوارها حتى تنام، أن تلمس جبينها، أن تهدهدها بكلمة دافئة…
لكن أمّها اكتفت بأن وضعت الدواء على الطاولة وقالت:
"خديه عشان تقدري تروّحي المدرسة بكرة."
كبرت وهي تعتقد أن أمّها تهتم بالواجبات والنتائج… أكثر منها.
وأشدّ الذكريات وجعًا…
يوم نجحت بمجموع لم يعجب أمّها.
كانت تريد أن تتباهى بها مثل بنات خالتها.
تقدّمت إليها الطفلة بشهادة النجاح في يدٍ ترتعش، تنتظر كلمة فخر، نظرة رضا…
لكن أمّها قالت دون أن ترفع رأسها من الطبخة:
"كان ممكن تبقي أحسن من كده."
تلك الجملة حفرت داخلها فجوة…
حفرة اسمها: “أنا مش كفاية.”
كبرت الفجوة معها، تحولت لندبة تفتح كلما حاولت تحبّ حد، أو تتقرب من حد…
حتى أمجد نفسه — كان يحبّها، لكن شيئًا بداخلها كان دائمًا يخاف الاقتراب.
كانت تهرب… لا منه، بل من إحساس قديم:
إحساس أنها غير جديرة بالحب.
ورغم كل ذلك…
حين كبرت، بدأت ترى ما لم تكن تراه وهي طفلة.
أمّها لم تكن قاسية…
كانت خائفة.
خائفة أن ترى ابنتها ضعيفة فتُكسر.
خائفة من دنيا لا ترحم، فأرادت أن تربيها على الصلابة.
لكن الصلابة الزائدة… كسرتها بطريقة أخرى.
أدركت الآن فقط…
أن أمّها كانت تحبّها، ولكن بلغتها هي.
لغة صعبة… مؤلمة… لا يفهمها الأطفال.
وحين وصلت لبيتها وفتحت الباب، وجدت أمّها واقفة في الصالة، يداها على خصرها، وعيناها مرهقتان من القلق.
"كنتي فين يا بنتي؟"
قالتها بصوت قوي… لكن ارتعاشة خفيفة فضحت خوفها.
نظرت إليها…
ولأول مرة منذ فترة طويلة…
أحسّت أنها ترى أمّها بوضوح.
لأول مرة، لم ترَ القسوة… بل امرأة تعبت كثيرًا، وأحبت أكثر مما قالت.
لكن هل يكفي ذلك ليداوي ما كان؟
لا تعرف.
كل ما تعرفه أنها…
لأول مرة، بدأت تفهم.