AlaaTabbal

شارك على مواقع التواصل

سقط اللاسلكي من يده، وكاد يسقط هو أيضاً مما سمع: آيات البِشر أفرغ مخزن الإم سكستين في أولغا.
اندفع صوب المبنى الذي تقع فيه قاعة دعم الأقران، وما كاد يصل إلى باب البناء حتى ألقاه أحد زملائه جانباً. اعتلى الرعب وجهه وتصبب عرقاً بارداً، شعر ببلل البول الدافئ في بنطاله عندما راقب بعجز وقلة حيلة جسد منقذه يتهاوى جثة هامدة. تحامل على نفسه فزحف بصعوبة متمنياً أن يوفق رفاق السلاح في قتل ذلك المعتدي اللعين.
اقتعد الأرضية اللماعة منهكاً، أطبق جفنيه بسرعة حين لمح الضحايا. انكمش على نفسه وانكمش، اضطر إلى سد أذنيه لكي ينأى عن الضوضاء المريعة التي تحاصره. لم يدرك كم أمضى من الوقت في محفل الموتى ولا كيف استعاد رباطة جأشه، جل ما أدركه ذاهلاً أنه يهشم بحقد رأس القاتل المنتحر. لماذا ينتقم إيفان نيكيتا؟! وممن ينتقم؟! إنه يكن العداء لصهره المخادع، يمارس عليه العنف المجاني بعد أن فشل فشلاً ذريعاً مريراً في كبحه.
دميت كفا إيفان فرمى الكرسي الخشبي الذي تحطم بعيداً، وانخرط في نوبة بكاء حاد بعدما جثا على ركبتيه أمام ابنته. هزها بعنف وهو يصرخ باهتياج شديد: أولغا سامحيني.. سامحي أباك... سامحوني. استمر هديره إلى أن أحس بحنجرته تتمزق وبأيد خشنة قاسية كبيرة تمتد إليه، شدت فَلقتي أليته وفرقت بينهما، ثم غرزت أشياء صلبة مدببة في دبره. إنها أطياف الدب الروسي الناقمة على الخوَّان.
طاردته بعزيمة. استمتعت برؤيته يعدو ويتعثر، الأطياف تصلصل ضاحكة كلما أمعن في الفرار منها. تناهت إلى مسامع الهارب أصوات متشابكة متقاطعة لم يفقهها، واخترق خدر ثقيل كيانه فخرَّ ميتاً.
بذلة عسكرية مدججة بالنياشين والرتب تحمل قناصة باريت إيتي تو! هذا كل ما استطاعت الناجية الوحيدة من مجزرة ألباكركي أن تتلعثم به.
***
لكي يتحقق الخلاص لا بد من تغيير مَعالِم الخارِطة السياسية والعبث بموازين القوى... انتزعته رياح داكوتا الشمالية العاتية من تأملاته باختطاف لِثامه فندم على مغادرة وكره، أحكم اللثام على وجهه ثم اتجه بحذر بالغ إلى الحانة. قبضت الوساوس على خناقه، كل دقيقة تمضي تُنذر بقرب إطباق كمين عليه من حيث لا يدري، فراحت قدماه تسابق دقات قلبه المستعرة. تساءل في سره وهو يشهق ويزفر ما إن شارف العتبة: أليس لديهم هَم سوايَّ؟!
أحلت الفودكا الطمأنينة والدفء في قلبه وأطرافه بعض الشيء، وكذلك الساقية الرَّبعة الممتلئة الجسم دون إفراط. بعد الكأس الرابعة من القنينة الثانية تيقن فير سيز من أنها بحاجة ماسة إلى مضاجعة حامية، وأن أي وصف سيعجز عن التعبير: متألقة، مثيرة، رائعة المزاج، منتشية، وحشية وممتعة... ماذا لو تنخعت عليه ثم داسته بمجرد فكه الوشاح وخلعه البنطال؟ ملامحها تشي بأمريكيتها، مفاتنها تطمع بفحل لا بمَسْخ عنين. ولذلك انصرف إلى تأمل المكان ومن فيه.
للحظات اعتقد أن ذاكرته تنغص عليه أيضاً، ثمة أصداء تملأ أذنيه بالمرارة. قام متكئاً على المشرب ودار رأسه باحثاً عن مصدر الإزعاج، دمعت عيناه وضاقتا لما حطتا على شاشة التلفيزيون: رصدت الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة قدرها مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عن الإرهابي آيات البِشر... هرول يستند إلى كل ما طاله، تخبط وزمجر وهمهم حتى يصم خلاسية الخراء تلك. إنها تستهزئ به، إنها تتشدَّق بما لُقِّنَ لها.
اجتمع شيب وشبان من الرواد حوله، تبادلوا نظرات القلق واقتراح الحلول. رشق أحدهم فير سيز بماء بارد بشكل مفاجئ فأحس كأن لطمات قاسية تنهال عليه. احتقن وجهه غضباً وفقد السيطرة على أعصابه، سدد للراشق لكمة بيمناه على فكه السفلي، وأتبعها بواحدة أخرى من يسراه على أنفه فهوَى. وجَّه سبابته نحو المجتمعين وهو يهتف بهم متوعداً:
- ارحلوا من هنا، وإياكم أن تقتربوا مني ثانية!.. أنا آيات البِشر عدو أمريكا!...
أخطأت رصاصة بندقية وينشستر جمجمته بمسافة بسيطة، أما رصاص مسدس جلوك سفين تين فقد انصب كالسيل الجارف على الساقية. تراجعوا إلى الخلف خائفين، تصاعدت حدة أفكارهم فتصوروا أجسادهم ملقاة فوق الصريعة. ألقى البعض نفسه من النوافذ، وتدافع آخرون نحو أقرب المنافذ، في حين لم تحرك البقية الباقية ساكناً عندما أطلق فير سيز النار على التلفاز فتطايرت شاشته شظايا.
تقدم ببطء إلى حطام المذيعة وهو يرتجف، مسح رُضابه بظهر يده وأَنَّ: لست عبداً من عبيد البعث.. لم أداهن الأسد أيتها العاهرة الكاذبة، اللعنة عليكِ وعلى فوكس نيوز. تثاقل جفناه وبدأت الصور تهتز أمامه، تنخع على النادلة الغادرة ودهسها بغيظ ليفرخ رُوعه.
خوَّض في ركام الثلوج وهو يحارب حضور أولغا الثقيل بضراوة، رَغِبَ في دق عنقها رغبة متأججة... لعن نمرة الحانة المتوحشة من جديد، هي سبب استحضار تلك الفاتنة الروسية.
صعد المرتفعات متوجهاً نحو جحره، شق طريقه غير آبه بالحواجز والعوائق الماثلة أمامه وخلفه، مضى ومضى حتى أعياه المسير وبلغ منه التعب مبلغه. تمنى أن ينتشله هيرنان من سُكره المدوخ: تعال أيها الصقر الهرم.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.