AlaaTabbal

شارك على مواقع التواصل

حرثتْ قذائف الشيوعيين أبي والإسفلت تحته حرثاً... منذ استشهادهِ في أفغانستان حطت الحياة أعباءهُ على أمي، فتحملتْ المشاق وتخطت العقبات بعزيمة. أمي لا تعيش إلا وهي مجبرة، تكون حاضرة في خضم عمل ما وتختفي إذا ما أُفلتت.. هكذا ظلت سيرتها حتى بعد رحيل فقيدنا لكن مع فارق واحد: تعنَّتت، رفضت الحقيقة المُرة إلى حد أنها آمنت بتواجده الدائم بيننا.. طوحت بتجاوز أبنائها المحنة.
دوماً يجذبني الماضي بأحابيله فارضاً عليَّ مشاهد كثيرة أرغب في تمزيقها، فرغماً عن أنفي أبصر طبق وعدة الطعام لشخص لن يأتي، ملابساً للشبح على كرسي المائدة ومتسعاً له في سرير أمي... لم نكن في قَرارتنا راضين عن تصرفاتها بالأخص أنا معتبرينها تصرفات مبالغاً فيها. كلما عبرت لها عن ذلك بخشونة تكتفي بالابتسام في كل مرة كما لو أنها تشعر بالأسف على ابنها الجاهل بالأمور وخباياها...
أشكركم جميعاً على دعوتي إلى المجموعة وحفاوة الاستقبال رغم ما بدر مني البارحة. سيدة أولغا، أعتذر إليكِ من وقاحتي.. المرائي آيات سبَّب المشاكل لي ولكِ، كسر قلبي بارتكابه جريمة شنعاء!... عندما صادفتك هنا، في آخر بقعة يمكن لمستحاثة قذرة مثلي أن تنشد فيها السلام صعقت. منذ مدة وأنا أهرب من كل ما يذكرني به من قريب أو بعيد وإذ أصطدم بكِ.. اغفري لي، إنني ما عدت قادراً على أن اُختبر ثانية.
أحقادي وسوء طالعي وتصاريف الدهر جمعوني بالبِشر قبل أن تجمعني به أحكام الجيرة والضرورة، الحسنة الوحيدة في حياتي الآثمة أنني لم آلُ جهداً في مساعدة حَضرة المتخصص إيفان نيكيتا في القبض على العربي ابن العاهرة... ادعوا الرب يسوع أن يرحم قاتل إخوته!
***
- ألم أقل لك أن تركن سيارتك هناك!
لم يعبأ بالرد عليه فاقترب القِرد النحاسي منه بالتدريج. خشي فير سيز على نفسه، ذهنه في حالة استنفار ويقظة لا يحسد عليها.
- هناك أم في أيِّ موقف ما الفرق؟ ثم إنك فتشتني غير مرة بعناية.. افحص العربة أيها المسلح إن كنت خائفاً مني إلى هذه الدرجة! تدارك فير سيز الخطر بذلك، ثم أتبع حجته بأخرى: أنا مرهق أكثر منك، لقد سقت ثلاث أميال وربما أكثر...
- كفى! كفى! انزل واخرس. تأفف بالفرنسية متذمراً من ثرثرته.
كبس الفرنسي على الزمارة فأحدث ضجيجاً مدوياً خرجت على إثره ثلة من الأفراد:
- من معك؟!
- كبش مخصي يريد مجادلة الزعيم. خَزَّ فير سيز بكوعه أثناء إجابته، وابتسم ابتسامة بشعة كشفت عن أسنانه النخرة.
أومأ فير سيز برأسه موافقاً ورد الابتسامة بأخرى:
- المرياع لو سمحت.
جذبه الفرنسي بعنف من ياقة قميصه، جعَّدها وهو يعاجله بهدوء غاضب:
- سأصفح عن عبثك وتطاولك، لكن إياك أن تفكر في تكرار ذلك وإلا...
كاد فير سيز يختنق من رائحة أنفاسه الكريهة لولا مرور نسمات هواء حملتها بعيداً عن أنفه.
أُدخل فير سيز البناء معصوب العينين ومدفوعاً بالركل. دفع أحدهم باباً ثقيلاً بكتفه ففتحه، ثم رموا فير سيز على الأرضية مثلما يُرمى كيس القمامة. خلع العصابة عن عينيه فأخذ المشهد ينسدل أمامه في تباطؤ، اكتمل المشهد كما رسمته عيناه خلف الحجاب عندما اشتم رائحة سيجار بادرون الكوبي. وعلى ضوء مصباح النيون الخافت لمح فيتوريو ذا الشاربين البنيين المتهدلين.
- أهلاً وسهلاً بزبوني القديم جاحد المعروف. رحب به راسماً ابتسامته المعهودة الخاملة، والتفت إلى أزلامه: فتِّشوه جيداً.
خمن فير سيز أنهم سيورطونه في لعبة قذرة جديدة، وما زاده إحساساً بذلك وضعيات التفتيش المهينة التي طال أمد استمرارها دون مبرر، ومعاودة الآلام جِلده. عض على ناجذه، كبح لجام أصابعه لأن فرصة ضغط الزر لم تحن بعد. دارى خوفه من المجهول، من حركة الآخر المباغتة بالضحك ضحكاً مجلجلاً:
- أنتم جبناء أكثر مما تصورت أيها الأوروبيون.. عشرة ضد أعزل!
- وفاشل في العد أيضاً! جاراه فيتوريو، وأشار إليهم أن يبتعدوا.
حل صمت بين الطرفين لا يتخلله سوى تراقص الظلال على الجدران بحسب ذبذبات الضوء الأبيض. تقدم قرد ضخم من فير سيز فجأة ليناوله كأس شمبانيا آرماند دي برجناك روز فرفض احتساءه، سفح القرد الشراب على وجهه وصفعه. من شدة الصفعات المتتالية دار فير سيز حول نفسه ثم سقط. تعمد البقاء مرتمياً مدة دقيقة، لقد منحوه الفرصة المناسبة. وما إن أوشك على الضغط حتى خرج الإيطالي أخيراً عن طوره:
- لن تحصل على مالك، لا تحلم باسترداد دولار واحد.. لولا القِردة النحاسيون لتعفنت في صحراء شيواوية تحت أقدام المغاوير...
- سأدفنكم حالاً!
- ادفن وحشكَ أولاً.
- وحش؟! وحش ماذا؟! اتخذ وضعاً قتالياً وهو ينقِّب بعينيه بحثاً عن الكائن.
مسد شاربيه، سحب نفساً عميقاً من السيجار وهو يقول:
- خيّرتها بين موت راشيل جروتي وقتل آيات البِشر فاختارتْ خطيبتها بلا أدنى تردد. شَخَصَ بصره إلى الأمام وراء البِشر: ها هو ذا الخائن الدميم بين يديكِ.
كلوي تتعطش إلى سفك دمي من أجل ماذا؟! من أجل أمريكا ومثلية وأسرة نووية؟!... حاول معانقتها فامتنعتْ مبدية اشمئزازها، وضربته بركبتها ضربة محكمة أسفل بطنه. كلما اقتربتْ منه بخطى وئيدة تراجع، وكلما تراجع بدا القلق صارخاً في عينيه أكثر. بوغتَ بدفعة من فيتوريو اضطرته أن يلجأ إلى حل ولى زمنه: ضمها وطبع قُبلة حانية على جبهتها. أحكمت كلوي شد قبضتيها، وتركتْ المُشَوَّه يفعل ما يحلو له. أحست بأذنه تلامس خدها فعضتها، وحين ترنح فير سيز ممسكاً برأسه الدامي لم يكن من شيء ينقصه سوى أذنه اليمنى.
أطاح بها دون وعي منه، وتناهت إليه وشوشات مختلطة بسعال وقهقهات المشاهدين: هيرنان سيضغط زره إذا تأخرتَ... ارتمى على كلوي المتأوهة مثبتاً إياها:
- لا تتحركي! ثم ضغط فير سيز الزر.
دكتْ صواريخ البازوكا إم توينتي فايف المتلاحقة الجدران وخربت الغرفة، أطلق مدفعا إم تو براونينج الرشاشان العنان لنفسيهما. وما إن انقضت عشرون ثانية حتى أصبح القِردة في عداد الموتى.
هذى فير سيز وهو يغوص في غيبوبة، ويصحو نصف صحوة، ويتخدر. طالعته صور غائمة باهتة: أنثى تُقبل أخرى قُبلات تزداد عمقاً، تغرس الأولى أظافرها في صدر الثانية والثانية تعصر نهدا الأولى بشكل أقوى... زحفَ بين الأنقاض مبتعداً ببطء، ملتفتاً بين الحين والآخر مرهفاً السمع إلى ما يجري. تناول حجراً صلداً وقذفه بكل قوته على رأس راشيل.
الموت الذي حصدها وترك جملة: «سنتزوج غداً يا حبيبتي» معلقة صعق كلوي، امتدت يدها المرتعشة إلى رشاش إم سكستين. استعبر فير سيز وأطبق جفنيه بانكسار، أطلق التحية النازية: لا خلاص للمخلص! لكن كلوي حشرت الفوهة في حلقها ثم كبست على الزناد. تنكب فير سيز الإم سكستين باكياً.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.