MalakWalidBakr

شارك على مواقع التواصل

آهٍ، إنني أشعرُ اليوم بصداعٍ شديدٍ يا أصدقائي، إنَّ الهلوساتِ تتكاثرُ في رأسي، والقلقَ يعشّشُ في عقلي.. إنني إنسانٌ مريضٌ، وأنا أعرفُ ذلكَ جيدًا، لقدْ نسيتُ أنْ أقولَ لكمْ: لقد اشتغلتُ بالتدريسِ لمدة سبعِ سنواتٍ من حياتي، فأنا لا زلتُ في التاسعةِ والعشرينَ من عمري، وتخرجتُ في الجامعةِ وأنا في الثانيةِ والعشرينَ.. لقدْ عُيِّنتُ في مدرسةٍ حقيرةٍ، فقيرةٍ، بالأريافِ، فكانَ الذهابُ إليها مُرهقًا مُتعبًا، وبسببِ السفرِ لمْ أكنْ أرى زوجتي إلا في الإجازةِ الأسبوعيةِ أوْ في الإجازاتِ السنويةِ، ولقدْ عِشتُ على هذهِ الحالةِ البائسةِ طوالَ السبعةِ أعوامٍ، فما كانَ أشدَ حزني حينَ كنتُ أنظرُ للطلابِ البؤساءِ..
ولحسنِ حظيَ أنيِّ صِرتُ عاطلاً، وأني استقلتُ من العملِ قبل أن أصلَ لسنِ المعاشِ.. قدْ يكونُ كلامي غريبًا، خاصة عندما تعلمون أني إنسانٌ معدمٌ، لا يملكُ إلا شقتَهُ المظلمةُ المعتمةُ المتسخةُ تلكَ، أجل، لا شكَ أنني أبدو سخيفًا، فكيفَ أكون فقيرًا معدمًا وآتي لأخطب في حضوركمْ؟
أيها الأصدقاءُ الأعزاءُ، أيها المجتمعُ الراقي.. آه، لقدْ دَهَسَتني وهمَّشَتني الطبقةُ الأرستقراطيةِ، ولكنْ لابد أن ما أقولهُ الآنَ هوَ مجرد هذيانٍ.. عنْ أيِ شقةٍ أتكلمُ؟ لا يا أصدقائي، لا تسيئوا الفهم .. أنا من اختلطتْ علي الأمورُ.. فكأن ما رويتهُ قدْ رأيتهُ في حلمٍ مزعجٍ كريهٍ..
ماذا كنتُ أقولُ؟، أجلْ! العمل كمعلمٍ، لقدْ استهزأَ بي الأطفالُ لسببٍ لستُ أعرفهُ، لعلَهُ منظري المضحكِ هذا، رغمَ أني أبدو شابًا خفيفًا لطيفًا، مؤكدٌ أنكمْ تتساءلونَ عنْ السببِ الذي جعلني عاطلاً؟ .. في الحقيقةِ، لقدْ شعرتُ أنَ المالَ جعلني عبدًا لهُ، ولأوضحَ فكرتي هذهِ بشكلٍ سليمٍ وواضحِ أكثرَ.. إنني أتكلمُ عنْ الحريةِ يا سادة.. صحيح أنَّ زوجتي قدْ توفيتْ منذُ شهرٍ، ولكني رغم ذلكَ لستُ حزينًا، معَ أني لستُ متأكدًا من هذا تمامًا بعد .. لقدْ كانَ تأثيرُ زوجتي عليَّ كتأثيرِ المالِ!، كنتُ أخضعُ لهما سواءً بسواءٍ، لدرجة أني بِعتُ شرفي لأجلهما، لقدْ تسولتُ وطلبتُ الصدقةَ من الناسِ، وأحيانًا كنتُ أطرقُ بابَ جيراني الرحماءِ لأسألهم إنْ كانَ قدْ فاضَ عندهمْ طعامُ، إنَّ المالَ يا أصدقاء، صورةٌ من صورِ العبوديةِ، فإذا تخلصَ المرءُ من سيطرتهِ باتَ إنسانًا، أوْ هكذا أظنُ.
ولكنَ صورَ الحريةِ عديدةٌ.. فكيفَ عساي أن ألخِصَها لكمْ؟! إنني مضطربٌ، متوترٌ، ومشوشُ الفكرُ، ولكنْ لا يسعني إلا أنْ أقولَ لكمْ هذا؛ لعلمي بأنه سيسعدكم، وهو أنكم تتمنون لو أقول أني تجردتُ حتى من الدِينِ.. وأني أرى الدينَ وكأنه صورةٌ من صورِ العبوديةِ، صحيح أننا نعبدُ الربَ، وأن عبادته تختلف عن العبودية للبشر، ولكني لا أريدُ أنْ أعبدهُ بعدَ الآنَ، ماذا فعلَ لي؟ لقدْ سلبَ روحَ زوجتي، وتركها لي جثةً هامدةً، لقدْ عذبني، ولستُ أبالي إنْ رماني في جحيمهِ، ولستُ أبالي إنَ كنتمْ ستلقونَ علي باللومِ.. لسوفَ تغفرونَ لي جميعكمْ؛ لأنكمْ لا شيءَ بدونيٍ.. لأني أنا من لهُ فضلٌ عليكمْ، ولأني من أنقلُ لكمْ شيئًا من علميٍ ومن ثقافتي، بينما كانَ بإمكاني أنْ أسكتَ، أنا لستُ متغطرسًا، ولكني لمْ أقضِ نصفَ عمري في الدراسةِ والتعليمِ، لأعامَل بوقاحةٍ من قِبل طفلٍ صغيرٍ أشبهُ بحذاءٍ قديمٍ، أوْ ليصحح لي كلمةً كتبتُها بشكلٍ خاطئ على السبورةِ بسببِ تعجلي ومرضِ أعصابي، ولعلي إن لمْ أكنْ موجودًا لمْ يدخلْ هوَ إلى المدرسةِ، فقدْ كنتُ أتوسطُ لكثيرٍ من الفقراءِ، الذينَ لا يملكونَ قرشًا واحدًا، ليقبَلوا في المدرسةِ بدافعِ الشفقةِ والمحبةِ والإنسانيةِ فقطْ.
هذا ما تريدونَ مني أنْ أقولهُ لكمْ يا سادة؟، قد أكون إنساناً شريراً، ولكنكم أشد خباثةً مني لدرجة أنكم تتمنون زوال الدين، لمعرفتكم بأن أعمالكم منحرفة عنه.. لا، أنا إنسانٌ تقيٌ، شريفٌ، فقيرٌ، يحبُ الأطفالَ، ولمْ يرزقهُ اللهُ بطفلٍ.. أنا إنسانٌ رحيمٌ، ولكني مريضٌ، ولعلَ تلكَ التناقضاتِ هيَ السببُ الرئيس في أنكمْ لا تفهمونَ مني شيئًا الآنَ.. أنا لا أجحدُ وجودَ اللهِ، ولا أقولُ إن عبادةَ اللهِ صورةٌ من صورِ التقيُّدِ والعبوديةِ .. صحيح أني لست متديناً، ولكنَّ عبادةَ الحقِ تعني الحريةُ أيها السادةُ، أما عبادةُ الباطلِ من مالٍ وملهياتٍ ومسكراتٍ، فهيَ العبوديةُ بأفظعِ وأبشعِ صورِها يا سادتي.. وأنا أيضاً لا أُذلكم بنعمةٍ أوْ فضلٍ.. بلْ أنتمْ من لكمْ فضلٌ كبيرٌ عليَّ يا سادة.. ما أنا إلا عبدٌ فقيرٌ لكمْ، عبدٌ باعَ حريتهُ لأجلكمْ .. لقدْ سلبتُم منَّا أموالَنا، لأجلِ مشاريعكمْ التي لا تنفعُ أحدًا غيركَمْ، لقدْ طلبتمْ منَّا تبرعاتٍ لإنشاءِ المدارسِ والمستشفياتِ، لمعالجةِ وتعليمِ الأطفالِ، ولكنكمْ بنيتمْ بأموالِنا بيوتًا وقصورًا لكمْ، لقدْ قمتمْ بنهبنا، رغمَ أنكمْ لستمْ هنا، ولستمْ إلا خيالاً من عقليٍ المريضِ.. هذا ليسَ حلمًا، وليسَ وهمًا.. هذا شريطٌ يدورُ بعقلي كلَ ليلة.. هذا هوَ الجحيمُ بعينهِ.. هذا هوَ ما يجعلني أفكرُ في إطلاقِ النارِ على رأسي، لأنتهيَ من تلكَ الضجةِ التي لا تهدأُ، ومن هذا الألمِ الذي لا يتركني لأنام.. لقدْ سئمتُ منكمْ يا سادة، لقدْ سئمتُ منكمْ.. لقدْ طفحَ الكيلُ.. إنني أريدُ أنْ أقتصَّ منكمْ، لأنكمْ جعلتموني وحيدًا بلا امرأةٍ تحتويني، لأنكمْ جعلتموني أخسر أعزَ إنسانِ لي.. قدْ كانتْ ملاكاً.. رباهُ! لقدْ كانتْ كذلكَ فعلاً، أنتمْ سببُ مرضي الحقيقيِ وسببُ ما أنا فيهِ من شقاءٍ.. أنتمْ لستمْ أصدقاء لي، أنتمْ أوغادٌ، حقراء، أنذال، أنتمْ غدَّارون، تطعنونَ من أحبوكمْ ووثقوا بكمْ من ظهورهمْ..
آهٍ! ولعلي مخطئٍ، لعلي كذلكَ، فما من إنسانٍ بلا خطيئةٍ، أنا من ذهبتُ بنفسي لاحتساءِ الخمرِ في الحانةِ، وأنا من كنتُ سبباً فيما أنا عليهِ الآنَ، أنا من سمحَ بهذا القدرِ من الحريةِ، لربما لمْ تكنْ حريةً، لربما كانَ انحرافًا، أجلْ، لقدْ كانَ انحرافًا بيِّنًا، ولكنْ حتى أنا كنتُ معميًا عنهُ، لقدْ سقطتْ الغشاوةُ عنْ عيني الآن.. إنني أعتذرُ لكمْ يا أصدقاء، أنا السببُ، أنا السببُ، اللعنةُ عليّ، ولكنْ ما الحريةُ؟ ما الحريةُ يا سادة؟ إنني أسألكمْ.. فأنا إنسانٌ جاهلٌ، لِتمنُّوا عليَّ بتلكَ النعمةِ أيضًا، فتخبروني بمعناها؛ فلعلي أستطيعُ عندَ ذلكَ أنْ أحددَ هلْ كنتُ أنا الوغد؟ أمْ كانتْ هيَ المخطئة؟ أمْ "هوَ" الخائن؟ لعلَ زوجتي كانتْ مجردَ ضحيةٍ للموتِ.
الموتُ، ماذا يكونُ؟ أهوَ مرضٌ يتفشى بيننا دونَ أنْ نشعرَ؟ أمْ أنهُ ريحٌ سوداءُ؟ أمْ أنهُ مرضٌ يصيبُ القلبَ قبلَ الجسدِ؟ أجلْ، فالروحُ لا تموتُ، وهذا ما يجعلني أُقبِّلُ يدَ زوجتي كلَ يومٍ، لأسألها أنْ تغفرَ ليُ.
ورغمَ ما أنا فيهِ من ضعفٍ، ومن مرضٍ، فأنا لا أزالُ أملكُ رأيًا، وأرى أنَ الحريةَ ضروريةٌ لارتقاءِ المجتمعِ، فهيَ العاملُ الأساسيُ للرقيِ، لأنهُ حينَ يتوقفُ المالُ عنْ استعبادِنا، ونستغنى قليلاً عنْ الماديةِ في حياتنا، تحيا مشاعرُ الإنسانيةِ والأخوةِ؛ فالأخوةُ فطرةٌ تكمنُ في العفويةِ، وليسَ في التفكيرِ في كيفيةِ تنفيذها، والتقدمُ الحقيقيُ غير مرهونٍ بالعلمِ والمالِ وحدَهُ، وإنما بالسعادةِ والأخلاقِ، وغير ذلكَ، فسوفَ يتقدمُ العالمُ مَجازيًا، ويصيرُ الشعبُ مكتئبًا سكيرًا، ولكيْ تتقدمَ دولتُنا لا بدَ من أنْ نصحِّحَ مفهومَ الفضيلةِ، وأنْ نشرحَ للأجيالِ القادمةِ أنَ الغايةَ لا تبررُ الوسيلة، وأنَ المالَ لا يَصنعُ السعادةَ، وإنما هوَ مجردُ جانب من جوانبها، ووسيلةُ لتحقيقِها، وأنَه طالما أُهملَ الجانبُ النفسيُ والخلقيُ؛ فلنْ تنتشرَ الإخوةُ ولا التعاونُ، ولا الأحلامُ ولا التفاؤلُ بالمستقبلِ.
علينا أنْ نشرحَ لهمْ ذلكَ جيدًا؛ وإلا رأينا مجددًا ما نراهُ في أيامنا هذه يا سادة، فنرى شحاذًا يقفُ بجانبِ أرستقراطي في حانة بسببِ شعورِ كل واحدٍ منهما بالبؤسِ.
وعلينا أنْ نتحررَ من أيِ قيدٍ يمنعُنا عنْ قولِ الحقيقةِ، وأنْ تتكلمَ الصحفُ بلا انحيازِ لأيِ طرفٍ كانَ، وأنْ نتحررَ من عبادةِ المالِ والسادةِ، وأنْ نؤمنَ بأنَ علينا أنْ نطوّرَ وأنْ نغيرَ قليلاً من عاداتنا ومن تصرفاتنا ومن أفكارنا ومن أخلاقنا كيْ نحيا في عالم أفضل وأجمل، وأنْ نحاربَ الاشتراكيةَ التي زيفتْ الأخوةَ، وربطتْ العطاءَ والمنحَ بالتخلي عنْ الحريةِ والممتلكاتِ الشخصيةِ، وأنْ ندركَ جيدًا أنَ الحياةَ وحدَها نعمةٌ، بغضِ النظرِ عنْ السعادةِ، وأنْ نستوعبَ أنَ العلمَ والثقافةَ لا علاقةَ لهما بالشرفِ، فقدْ يكونُ المرءُ أستاذًا كبيرًا في جامعةٍ محترمةٍ، ولكنهُ ليسَ مثالَ خيرٍ يُقتَدى بهِ، ويمكنُ لطلابه أنْ يستخلصُوا منهُ أيَّ استنتاجٍ أخلاقيٍ.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.