MalakWalidBakr

شارك على مواقع التواصل

هذهِ هيَ الليلةُ الرابعةُ، وهيَ ليلةٌ عاصفةٌ في الحقيقةِ.. فإن السماء قد صارت ملبدةً بالغيوم، والسحب لا تكف عنْ إنزال المطر، والرياحُ تتخبطُ في النوافذِ، والرعدُ يفزعنا في كلِ دقيقةِ والأخرى، وكأنهُ يسعى هوَ الآخرُ لمعرفةِ الحقيقةِ مني.. إنني أفرطُ وأسهبُ في الحديثِ يا سادة، ولكني قدْ سئمتْ حقًا؛ فأنا اليومَ أعاني ألمًا شديدًا لا طاقةَ لي على تحملهِ، ولا يمكنني أنْ أصبرَ على ما يراودني اليومَ من هلاوس.. يخيلُ لي أنَ هذا ليسَ إلا مجرد أوهامٍ، وأحلامٍ، ولكن هذا مستحيلٌ، بلْ إنهُ مرعبٌ وغيرُ قابلٍ للتصديقِ، لا يعقلُ أنَ شكِّي وخوفي وقلقي هُمْ من دفعوني لارتكابِ تلكَ الفعلةِ الشنيعةِ.. لا، لا يعقلُ، أنتمْ لا تفهمونَ شيئًا.. أجلْ؛ لأني لمْ أوضحْ أيُ شيءٍ، لمْ تكنْ الأحلامُ الماضيةُ إلا هذرًا سخيفًا مني، ومحاولةً ساذجةً للإفصاحِ عما بداخلي، وحيلةً دفاعيةً تافهةً .. لينزل غضبُ اللهِ على من ألهمني تلكَ الفكرة السخيفة!
من ذاكَ الذي ظنَ أنَ الكاتبَ بإمكانهِ أنْ يتخلصَ من مشاعرهِ دفعةً واحدةً بسيلٍ بسيطٍ من كلماتهِ؟! من ذاكَ الذي ظنَ أنَ الأوراقَ والحبرَ كافيانِ ليفصح المرءُ عنْ مكنونِ فؤادهِ؟! إنها لحماقةٌ، ولوْ كتبَ كاتبٌ ما ألفَ عملٍ لما استطاعَ أنْ يفصحَ تمامًا عنْ أفكارهِ واعتقاداتهِ وأحاسيسهِ.. إنها لكتبٌ سخيفةٌ، كتبُ علمِ النفسِ ذاكَ.
آهٍ! ليسامِحني الربُ! سوفَ أفصحُ عنْ كلِ ما أعرفهُ؛ منذُ نعومةِ أظفاري إلى يومنا هذا، لا يوجدُ ما يمكنُ إخفاؤهُ بعدَ الآنَ.
حينَ كنتُ صغيرًا، عقدتُ علاقة صداقةٍ بيني وبينَ ذاكَ الولدِ الذي نعتُهُ بالتكبرِ والغطرسةِ، ومن وصفتهُ بالقسوةِ والجفاءِ؛ بمقابلِ قطعةِ جبنٍ صغيرةٍ، لأسُدَّ بها رَمقي، فبعتُ شرفي لقاء شريحةِ جبنٍ، واستمرتْ علاقتنا السامةُ حتى كبرنَا، فكانَ يأتي لزيارتي كلَ أسبوعٍ، حتى بعدِ زواجي، ويقرعُ كأسَهُ بكأسي، رافعًا صوتهُ قائلاً: «أتمنى لكَ دوامَ الصحةِ وإنجابَ ذريةٍ صالحةٍ.. نخبكَ يا (فورد)» ثمَ نلعبُ بالورقِ برفقة (ويد) التي لمْ تكنْ تملُ من حديثِ ذلكَ الضيفِ - الدمثِ الرقيقِ - كما كانتْ تقولُ عنهُ.. وأحيانًا أخرى كنا نقهقِهُ ونضحكُ على حكايةِ الجبنِ السخيفةِ تلكَ، ثمَ نختمُ حوارنا بشكرِ الربِ على " الصدفةِ المضحكةِ" التي جمعتنا وجعلتنا صديقينِ وفيينِ.. ورغم ذلكَ لمْ أرتحْ لهُ أبدًا، ولمْ أشعرْ بالاطمئنانِ لشخصِهِ، فقدْ كانتْ لهُ نظراتٌ مرعبةٌ أحياناً، خاصةً إذا شردَ ذهنهُ، ولاحظت تحديقهُ بزوجتي في العديدِ من المراتِ، ولكنْ كلما كلمتهُ وحاولتُ جذبَ انتباههِ للتوقفِ عنْ هذا الأمرِ، اكتشفتُ أنَّ ذهنَهُ قدْ شردَ، وأنهُ لمْ يقصِدْ فعلاً أنْ ينظرَ لها تلكَ النظرة السيئة، واتفقنا في كلِ مرةٍ على ألا نُشعِرَ (ويد) بشي.
لقدْ كانتْ عيناهُ رماديتينِ، تنظرانِ نظراتٍ ثاقبة، ملهبة، فاتنة، شهوانية بمعنى أصح، ولقد كان مغوياً متلاعباً، سيءَ الأخلاقِ، ولم يكمل دراسته، وكانَ يعتقدُ أنَ المالَ هوَ أهمُ شيءٍ في حياتنا، ويقول إن الفقيرَ تعيسٌ لأنهُ لا يملكُ مالاً؛ قدْ يكونُ قوله صحيحًا، ولكنَ التعاسةَ لا تأتي بسببِ المال، وإنما بسببِ الألمِ والعذابِ النفسيِ وحدَهُ.
إن الفقيرَ لا يتألمُ لفقرهِ، وإنما يشتعلُ حسرةً على أطفالهِ الجوعى، الذينَ يبكونَ في كلِ ليلةِ بسببِ الألمِ الذي يشعرونَ بهِ في بطونهمْ.. لقدْ حاولتُ أنْ أقنعَهُ بذلكَ، ولكنهُ ظلَّ مصممًا على عبادةِ المالِ، حتى جعلَ زوجتي تُفتتنُ بفكرِهِ العقيمِ - لقدْ كانَ قادراً على أنْ يقنعكَ بأفكارهِ بسهولةٍ، ومرجع ذلك هو كلامهُ المعسول، الذي يُخفي وراءَهُ شيئًا خبيثًا -.
وفي مرةٍ بعد انتهاء زيارتهِ لنا، قالتْ لي زوجتي صراحةً أنها تشعرُ بالبؤسِ، لأننا لا نملكُ مالاً وفيرًا، ولأنَ حياتنا لا تشبهُ حياةَ صديقِنا الغنيِ، الثريَ، الذي يرتدي الملابسَ الفخمة، ويدخنُ بحضورنا أغلى أنواعِ السجائر، ويهدينا في كلِ زيارةِ زجاجةَ خمرٍ فاخرةٍ.
لقدْ ظننتُ في البدايةِ أنَ هذا كرمٌ منهُ، ولكني أدركتْ فيما بعد أنهُ إنما أرادَ أنْ يُشعرنا بالذلِ والمهانةِ والفقرِ؛ لأننا لنْ نستطيعَ يومًا أنْ نشربَ خمرًا فاخرًا كهذا الذي يجلبهُ لنا، وأننا ما كنَّا لنشربَهُ لولا كرمه ورأفته بنا .. لقدْ أرادَ أنْ يقومَ بشراءِ أرواحنا، وأنْ يَفتِنَ لُبَّنا بفكرهِ المنحرفِ.
إنَ هذا كلهُ لا يساوي أيَ شيءٍ، بجانبِ الصاعقةِ الكبرى، فمنذُ شهرٍ وأربعةِ أيامٍ بالتمامِ والكمالِ، كان عيد ميلاد زوجتي الذي يلي عيد رأس السنة الميلادية بأسبوع، ولأني كما ذكرتُ لكمْ مسبقًا؛ كنت أعمل مدرساً، فكنت أخرج مساءً في بعض الأيام لألتقي بعضَ الطلبةِ لأشرحَ لهم بعضَ ما غَمُضَ عليهم من دروسٍ مقابلَ بَعض المالِ، فتهيأتُ يومئذٍ للخروج كأني ذاهبٌ للعملِ فعلاً، ولكني لمْ أفعلْ ذلكَ، وإنما ذهبت لشراءِ هديةٍ لزوجتي؛ لتكون مفاجأة لها، فاشتريتُ لها علبةً كبيرةً من الشوكولاتة، بعد أنْ ادخرتُ لها المالَ لشهورٍ طويلةٍ، كيْ أستطيعَ شراءَها، وكيْ أريها أننا قادرانِ على شراءِ المأكولاتِ والمشروباتِ الفاخرةِ، وأنَ حالتنا الماديةَ لا تدعو إلى الحزنِ وجحدِ ما لدينا من نعمٍ أخرى، واشتريتُ لها باقةَ وردٍ نادرةً، غاليةَ الثمنِ، بينما كانَ بإمكاني أنْ أشتريَ لها وردةً بسيطةً وحسب.
لقدْ أردتُ أنْ أكافِئها، وأنْ أُعَبِّرَ لها عنْ امتناني وحبي بطريقةٍ مختلفةٍ، وظننتُ يومها أنَه بإمكاني أنْ أُشعِرَها بحبي، حين أبوحُ لها بمشاعري الصادقةِ الطاهرةِ، وكانتْ تسعدُ بذلكَ فعلاً، ولكنْ وأسفاهُ! فلقد توقفت عن ذلك بعدما أقنعها صديقي بطريقةٍ خبيثةٍ أنَ على الزوجِ أنْ يشتريَ العديدَ من الهدايا لزوجتهِ، كيْ يعبرَ لها عنْ حبهِ، وأنهُ إنَ لمْ يفعلْ ذلكَ فهوَ لا يحبها؛ عنْ طريقِ قصِ حكايةٍ ملفقةٍ مزورةٍ، عنْ الهدايا التي كانَ يشتريها لزوجتهِ قبلَ وفاتها! هوَ الفقيرُ، الذي لمْ يكنْ يملكُ إلا قروشاً بسيطةً تسمحُ لهُ بشراءِ قطعةِ خبزٍ يابسةٍ وشريحةِ جبنٍ فاسدةٍ، بينما كنتُ أنا وبقيةُ الأطفالِ معدمينَ تماماً! لقدْ حكَّمتُ عقلي، وأمعنتُ التفكيرَ جيدًا، فأدركتُ أنَ والدتهُ كانتْ تعاني الأمرين كيْ تجنيَ ما تطعمهُ بهِ، وأنهُ كانَ فقيرًا مثلنا، ولكنهُ ظلَ يحبُ أنْ يتباهى بما لديهِ، غيرَ مبالٍ بمشاعرنا نحنُ المعدمونَ، فكنا نظنُ أنهُ غنيٌ ثريٌ منذُ ولادته.
وسألتُ عنْ العلاقةِ التي جمعتهُ بالكونتيسةِ التي تزوجها فيما بعد، فعلمتُ أنهُ إنما كانَ يتذللُ لها، وينفذُ كل ما تطلبهُ منه كخادمٍ ذليلٍ مهانٍ، لأجلِ نيلِ ثقتها، وإيقاعها في مصيدةِ الحبِ المزيفِ، حتى إذا ظنَتْ أنهُ نبيلُ القلبِ، وافقتْ على الزواجِ منهُ، رغمَ وضعهِ الماديِ البسيط، ولكنها ندمتْ ندمًا شديدًا، بعدما جردها من مالها؛ ولمْ تتحملْ ذلكَ، فماتتْ بسكتةٍ قلبيةٍ.. أنا لستُ ضدَ فكرةِ الزواجِ من شخصٍ متوسطٍ ماديًا، ولكني ضد الانبهارِ والانجرافِ وراء المشاعرِ، فلو أنَ الكونتيسة فكرتْ مليًا في شخصهِ، لما وجدتْ فيهِ أي مميزاتٍ تدعو إلى الزواجِ منهُ.. أمَّا لوْ كانَ غنيًا؛ فكانَ بالإمكانِ تبرير حماقتها وسذاجتها حينئذ.
على كلٍ، لقدْ عدتُ للبيت بهديتي الجميلةِ، ووقفتْ أمامَ بابِ المنزلِ، وأنا أفكرُ مليًا في جملةٍ ترحيبيةٍ مبهجةٍ إيجابيةٍ، لأجعلها تتحمس، أوْ طريقةٍ ظريفةٍ أقولُ لها بها أني لمْ أذهبْ للعملِ لأجلها، ولأجلِ الاحتفال بعيد رأس السنة، وقضاءِ الليلة معها، لنشاهدَ فيلمًا مثلاً، أوْ لنلعبَ الورقَ كما كانتْ تحبُ.. لقدْ أردتُ أنْ أشكرها وأنَ أشجعها، وأنْ أقولَ لها أنها زوجةٌ مثاليةٌ، وأنَ جميعَ الرجالِ يتمنونَ لوْ يتزوجونَ امرأةً بمثلِ مواصفاتها، وأنَ علينا أنْ نصليَ وندعو الربَ كيْ يرزقنا بأطفالٍ.
لكنْ أثناء تفكيري هذا، سمعتُ صوتًا غريبًا، فلقدْ كانتْ تُقهقِهُ وتضحكُ بسعادةٍ غريبةٍ.. قلتْ لعلها سمعتْ أمرًا مضحكاً، أوْ لعلها كانتْ تتحدثُ إلى صديقةٍ لها من النافذة، فلقدْ كانتْ تحبُ أنْ تفعلَ ذلكَ أحياناً.. ولكني سمعتُ صوتَ رجلٍ معها، فترددتْ وقلتُ: لعلهُ صوتُ أحدِ جيراننا، اختلطَ في أذني بصوتها، ولكن كلا، لمْ يكنْ كذلكَ، لقدْ نادها نفس الصوتِ باسمها.. وكنت أعرف ذاك الصوت جيدًا.. ثم قلت في نفسي بعد أن ازدادت قهقهتها التي دلت على شعور طافح بالنشوة والسعادة: «لا، غيرُ معقول .. هذا مستحيل!» وقررتُ أن أدخلَ البيت، لأمنعَ تلكَ الوسوسةِ، فقدْ كنتُ أعلمُ أنَ صحتي العقليةَ لا تسعفني كثيرًا، وأني أسمعُ أشياءً لا أصلَ لها في الواقعِ، وأني أعاني من الهلوسةِ السمعيةِ.. ففتحتُ البابَ ببطءٍ دون أن أحدث صوتاً، متوخيًا الحذرَ، وأخذتُ أجولُ ببصري في البيت من الفتحةِ الصغيرةِ التي فتحتُها من البابِ، فما أبشعَ ما رأيتهُ حينذاكَ!، لقدْ رأيتُ زوجتي برفقةِ ذاكَ الوغدِ، لقدْ رأيتهما سوياً، وشهدتُ خيانتهما بأمِ عيني، لقدْ صعقتُ، وتجمدتُ في مكاني، ولمْ أدرِ ما كانَ عليَّ فعلُهِ.. وتمنيتُ فيما بعد لوْ أنيِّ دخلتُ البيتَ وأحدثتُ جلبةً وضجةً، وأمسكتُ بهِ في وضعيةِ الصديقِ "الخائنِ"، ولكني لمْ أفعلْ ذلكَ، وإنما أغلقتُ البابَ، وذهبتُ للتسكعِ في الشارعِ، دونُ أنْ أدريَ إلى أينَ اقتادتني قدماي، ومكثتُ هناكَ طيلةَ وقتِ العملِ، بلْ وزدتَ عليهِ نصفَ ساعةٍ، حتى أضمنَ أني إذا رجعتُ للمنزلِ لنْ أرى ذاكَ العشيقِ في شقتي مجددًا.. لقدْ أمهلتها نصفَ ساعةٍ إضافيةٍ بأكملها، لتعيدَ ترتيبَ الشقةِ، وكأنَ أحدًا لمْ يأتِ، ولكنَ قلبي آلمني كثيرًا، ولمْ أستطعْ أنْ أصدقَ، وأخذتُ أفكرُ مليًا في صحةِ ما رأيتهُ وما سمعتُهُ، قائلاً لنفسي: «أيعقلُ أنْ تكونَ حالتي العقليةُ متدهورةً إلى هذهِ الدرجةِ؟ أيمكنْ أنْ يكون ما رأيتُه وسمعتُهُ من الهلوساتِ البصريةِ والسمعيةِ دفعة واحدة؟!»، ثمَ تركتُ باقة الأزهارِ على الكرسيِ الذي كنتُ جالسًا عليهِ، واتجهتُ في طريقي إلى المنزلِ ثانيةً، بعدما رأيتُ ساعتي، فوجدتها السابعةَ مساءً.. لقدْ وقفتُ أمامَ الشقةِ، وتأكدتُ من أنَ الأصواتَ كلها قدْ اختفتْ، ثمَ فتحتُ البابَ، ورأيتُ زوجتي جالسةً على كرسيٍ، تقرأ كتابًا عنْ الحبِ، ولاحظتُ أنها هادئةٌ بشكلٍ مخيفٍ، وكأنها كانتْ تحاولُ أنْ تخفيَ شيئًا ما.. فوضعتُ علبةَ الشوكولاتةِ على الطاولةِ، دونَ أنْ أبادلها كلمةً واحدةً.. وظلتْ ممعنة النظرِ في كتابها ذاكَ، لا تلفظُ حرفًا، ولا تنبسُ ببنتِ شفةٍ!، فقلتُ بصوتٍ مسموعٍ: «إنني متعبٌ كثيرًا يا (ويد)، ومرهقٌ نفسيًا وعصبيًا، وأتخيلُ أشياءً عجيبةً.. إنَ الكوابيسَ لا تفارقني .. ولكني لا أتكلمُ عنْ الكوابيسِ التي نراها في منامنَا، وإنما أتكلمُ عنْ تلكَ الهلاوسِ التي أراها وأسمعها كلَ يومٍ.. لقدْ بتُ عاجزًا عنْ التمييزِ بينَ الواقعِ والخيالِ، وأشعرُ أنِّي أكادُ أُجَن.. لقدْ اشتريتْ هذهِ الشوكولاتةِ بنيةِ الاحتفالِ بالعامِ الميلاديِ الجديدِ، فنحنُ لمْ نحتفلْ.. كما تعرفينَ، ولكني أشعر وكأنَ هناكَ شيئا ناقصاً.. وكأني نسيتُ شيئا آخر، أوْ وكأنَ هناكَ حدثاً مهماً آخرَ اليومَ، لا أستطيعُ تذكرهُ.. ما الذي يلي رأسَ السنةِ الميلاديةِ بأسبوعٍ؟ أأنا أهذي كثيرًا يا (ويد)؟» فلمْ تجبني، فعقبتُ: «لماذا تفوحُ رائحةُ السجائرِ في الشقةِ يا زوجتي؟!، هلْ جاءَ زائرُ ما؟»
«لا، ولكني خرجت لشراءِ بعضِ الطعامِ، وطلبتُ من حارسِ البيت المجاور أنْ يساعدنيَ في حملِ الأكياسِ، وأنْ يضعها في المطبخِ، فكانَ يدخنُ سيجارةَ حينذاكَ، ودخلَ بها الشقة.. لذلكَ تفوح رائحةُ السجائرِ» كذلكَ قالتْ، وبعدما ارتديتُ ملابسَ المنزلِ؛ شغلت فيلماً على جهاز تشغيل الشرائط، وأكملتُ سهرتي دونَ أنْ ألحظَ شيئًا مريبًا في تصرفاتِها، وكأنها كانتْ معتادةً على ذلكَ، فلمْ يبدُ عليها شيءٌ من القلقِ مثلاً، ولا شعرَتْ بالخوفِ من اكتشافِ أمرها.. لقدْ تصرفتْ ببرودِ تامٍ، وكأنها لمْ تذنبْ في أيِ شيءٍ.
وحين صرنا في منتصفِ الليلِ؛ تجهزتُ للنومِ، وغسلتُ أسناني، ووضعتُ رأسي على الوسادةِ، بينما كانتْ لا تزالُ تمشِّطُ شعرها وتربطهُ قبلَ النومِ، فلمْ أستطعْ أنْ أتخيلَ أني قدْ أنام فعلاً بعدَ تلكَ الصدمةِ التي تعرضتُ لها، وأني سأُبقِي بجانبي خائنةً، فقلتُ لها بصوتِ أجش مرهق الأعصابِ: «كان يسعدني أنْ أشعرَ أنَ هناكَ من يظلُ بانتظاري ويسألُ عنْ ميعادِ عودتي من العملِ في كلِ يومٍ.. لقدْ ظننتهُ شوقاً، ولكني أدركتْ فيما بعد أنهُ ما كانَ يهمُ ذاكَ الشخصِ لمْ يكنْ أنا، وإنما كانَ معرفة الميعادِ الذي من الواجبِ عليهِ أنْ يصرفَ فيهِ حبيبهُ، حتى لا يعرف الزوجُ الأبْلَهُ بتلكَ الخيانةِ الفظيعةِ»
فهمتْ (ويد) مقصدي، ولمْ تجبني، فنظرتُ لها بعينينِ تقدحانِ شررًا وغيظاً، وفجأةً وثبتُ عنْ فراشيٍ، واقتربتُ منها، وقلتُ لها: «لقد قابلت زميلاً قديماً لي، وقد تفوه بتلك الكلمات بأسى بعد أن حدثني عنْ خيانةِ زوجتهِ لهُ، فسامحيني لأنَ مزاجي تعكر، ولمْ أستطعْ أنْ أكبحَ غيظي أمامكِ.. إنني أعلمُ أنكَ مريضةٌ ومتعبةٌ، ولا تقوينَ على الردِ على كلِ جملةٍ تافهةٍ أتفوهُ بها.. ولكني أحمد اللهْ على نعمتهِ التي مَنَّ عليَّ بها، وهيَ أنْ جعلكِ زوجتي» ثمَ ضممتها إليَّ، وكدتُ أقبِّلُ رأسها، ولكنْ حين لمحتْ الابتسامةَ التي لاحتْ في وجهها، وظهرتْ على شفتيها، لمْ أستطعْ أنْ أتمالكَ نفسي، وأنْ أسمحَ لها بأنْ تسخرَ مني أكثرَ من ذلكَ، فتظاهرت بأنيِّ سأُقبّلُ رأسها فعلاً، حتى إذا أغلقتْ عينيها مطمئنةً، من أنَ كلَ شيءٍ قدْ مرَ بسلامٍ، أسرعتُ فأمسكتُ بها من رقبتها، ففزعتْ، ونظرتْ لي باستغرابٍ محاولةَ تخليصِ نفسها من قبضتي، وظنتْ أني كنتُ ثملاً، ولكني قلتُ لها بحنق: «أنتِ لا تستحقينَ هذهِ القبلةِ يا (ويد) لا تستحقينَ شرفَ أنْ أتباهى وأتفاخرُ بكِ، وكأنكِ تاجٌ أحملهُ على رأسي، أنا لا أريدُ قتلكِ انتقاماً لشرفي، وإنما أريدُ تخليصكَ من العهرِ الذي دنَّسَ عفَتكِ وطهارتكِ، ومن الشيطنة التي سيطرتْ عليكِ، بعدَ أنْ كنتِ ملاكًا .. أنا لا أقتلكِ يا زوجتي، وإنما أقتلُ فكرةً ومبدأً» ثمَ لاحظتُ أنَ وجهها قدْ تحول إلى اللون الأزرق من الاختناقِ، وأنها لمْ تّعدْ قادرةً على الكلامِ، فطبعتُ قبلةً رقيقةً على خدها، أثناءَ خنقي لها، حتى إذا انقطعَ نفسها تمامًا؛ حملتها بكلتا يدي على السريرِ، وقمت بتغطيتها بذاكَ الغطاءِ الرديءِ، ثمَ نمتُ بجانبها على الأرضِ في تلك الليلة، حتى حقنتها في اليوم التالي بالفورمالين¹، الذي تنبعث منه تلك الرائحة النفاذة، وصرت أنام على الأرض بجانب جثتها الممددة على الفراش، واستغفرها في كلِ لياليّ .. لقدْ طلبتُ من زوجتي الحنونةِ المغفرةَ، وليسَ من زوجتي الخائنةِ العاهرةِ .. لقدْ طهَّرتها بانتزاعِ روحها من جسدها، بقتلي لها، ولكني لمْ أقتلْ روحَها الطيبةَ الطاهرةِ، وإنما قتلتُ بذرةَ الشرِ التي قبعتْ في قلبها عميقًا..
إنَ ما يعذبني الآنَ، ليسَ الجريمةَ التي ارتكبتها، أجل، إنني أعترفُ بأنهُ ما كانَ علي أنْ أقتلها، حتى لوْ خانتني.. كانتْ ستلعنُها الملائكةَ، وسيطردها الله من رحمتهِ، وكانَ ذلكَ كافياً لي، ولكنَ طمعي هوَ من أدى إلى الوقوعِ في تلكَ الخطيئةِ، التي لا كفارةَ لها إلا قتلي .. إنني أؤمنُ بأنهُ لا يوجدُ ما هوَ أفظعُ وأبشعُ من القتلِ؛ فإنَ القتلَ يعني أنْ تموتَ كلُ المشاعرِ الإنسانيةِ بقلبِ الإنسانِ؛ حتى يجرؤ على ارتكاب فعلةٍ كهذه .. فماذا تكونُ قيمتهُ بعدَ الآنَ؟ وماذا تكونُ قيمتي بعدَ أنْ صرتُ قاتلاً؟ وما المثالُ السامي الذي عسى الطلاب يستخلصونهُ منيَ؟ وبماذا أفادني التعليمُ وقراءةُ الكتبِ والأدبِ.. بعدَ أنْ تجردتُ من إنسانيتي؟.
لقدْ كنتُ أنا المذنب، وليسَ ذاكَ الوغدَ ذا شريحةِ الجبنِ، ولا زوجتي التي ذهبتْ ضحيةً بريئةً .. حتى لوْ خانتني، فقدْ كنتُ أنا السبب، رغمَ أني ظللتْ مخلصًا لها في مشاعرِ الحبِ .. لقدْ كنتُ أنا السببُ، لأنني وعدتها بالحياةِ الهانئةِ، بينما لمْ تلقَ مني إلا العذابَ والجحيم، لأني وعدتها بالمالِ الوفيرِ، الذي لمْ تجدهُ إلا في جيبِ صاحبي، وأحزن بعدَ ذلكَ كلِه إنَ وهَبتْ نفسَها لغيري .. ألا ما أقسى قلب البشرِ! وكيفَ استطعتُ أنْ أقتلها بيدي، كيفَ فرطتُ بها دونَ أنْ أتأكدَ من إذا كانت قد خانتني فعلاً، أمْ أنَ رأسيَ المريضَ هوَ وحدَهُ سببُ كلِ هذا العذابِ؟ وكيفَ يمكنني أنْ أعرفَ الحقيقةَ الآن، لأريحَ بها ضميري؟ فقدْ ذهبتْ زوجتي.. ولمْ يعدْ هناكَ ما بإمكاني أنْ أعيشَ لأجلهِ.
لقدْ تساوتْ كلَ الأمورِ بنظري، ولا توجدُ إلا طريقةً واحدةً لمعرفةِ الحقيقةِ، التي يتغاضى ذاكَ الوغدِ عنها، إنهُ يريدُ أنْ يجعلنيَ ذليلاً لهُ، وأنْ أتوسلَ إليهِ كيْ يخبرنيَ بالحقيقةِ، كيْ أعلمَ حقاً أكنتُ أتخيلُ قهقهاتٍ وهلوساتٍ غيرَ حقيقيةٍ، أمْ أني كنتُ محقًا فيما رأيتهُ من فعلة شنيعةً .. إنهُ يريدني أنْ أتوسلَ إليهِ، وهوَ عدوي! يريدني أنْ أبيعَ شرفي، وأنْ أظهرَ لهُ ضعفيْ، ولهذا يتغاضى عنْ معرفتهِ بموتها، رغمَ أنهُ الوحيدُ الذي يعرفُ هذا الأمرِ؛ لأنهُ موقنٌ من أنهُ هوَ السببُ .. لا، أنا السببُ، أنا السببُ في هذا كلهُ.

١: الفورمالين (بالإنجليزية: Formalin) واسمه العلمي فورمالديهايد Formaldehyde، هو محلول كيميائي عديم اللون قابل للاشتعال ناتج عن ذوبان غاز الفورمالديهايد الذي اكتشفه عالم الكيمياء الألماني اوغوست ويلهام فون هوفمان عام 1867، وهو من المركبات الكيميائية ذات الرائحة الكريهة.
يستخدمه الأطباء للحفاظ على الأنسجة من التلف، ويستخدمه أيضاً أطباء الأسنان للتخدير الموضعي.
ويذكر أنه أُستخدم من ضمن الطرق التقليدية للحفاظ على الجثث من التعفن وتحنيطها، حيث إن مادة الفورمالديهايد تجعل الجسم هشاً ومتيبساً، ومن أبرز القبائل التي تحفظ الجثث بالفورمالين هي قبيلة التوراجا، خصوصاً وأن تلك القبيلة تقوم بترك جثثها دون دفن لمدة قد تصل لعشر سنوات، لحين أخذ القرار لدفن موتاهم، عن طريق وضعهم في أحد الكهوف.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.