MalakWalidBakr

شارك على مواقع التواصل

إنني لا أروي حلمًا رأيتهُ في هذهِ الليلةَ، وإنما سأُحدثُكمْ عنْ نفسي أكثرَ.. أيها السادةُ الأعزاءُ، أيها السادةُ المحترمون، لقدْ علمتُ شيئًا جديدًا، وهوَ أنِّي لمْ أعدْ أراكمْ فقطْ في الأحلامِ، أتعرفونَ شيئاً؟ أظنُ أني أعاني من مشكلةٍ في دماغي، تُسببُ لي القليلَ من الهلوسةِ، أوْ شيئًا من هذا القبيل، كورمٍ دماغيٍ مثلاً، أوْ كاضطرابِ الكربِ التالي للصدمةِ النفسيةِ، إنهُ شيءٌ أليمٌ يؤثرُ في التفكيرِ، ورغم ذلكَ فأنا لا أزالُ أتذكرُ شيئًا من الماضي.. من طفولتي.. لقدْ كبرتُ في ظروفٍ قاسيةٍ، إذْ كانَ والدي متوفيًا، ولمْ أرزق بأخوةٍ، ولمْ أكنْ أعرفُ أحدًا عدا أمي التي أنجبتني بعد وفاةِ والدي بثلاثةِ أشهرٍ، وهيَ في الأربعين من عمرها.. لقدْ كانَ ميلادي معجزةً بحدِ ذاتها، فكأني خُلقتُ لهدفٍ عظيمٍ لم أدركهُ.. لقدْ عاملتني والدتي بقسوةٍ وجفاءٍ، ولمْ تكنْ تهتمُ بي كثيراً؛ ربما لكثرةِ مهامها وانشغالها بأمورِ الحياةِ، وسعتْ كثيراً كيْ توفرَ لي فرصةً جيدةً للتعليمِ، فقُبلتُ في إحدى المدارسِ بعدَ أنْ توسلتْ أمي آلافَ المراتِ لمديرِ المدرسةِ كيْ يقبلَني، وأقسمتْ على أنْ تدفعَ مصروفاتِ المدرسةِ.. و كانتْ مدرسة داخلية، متسخة، مليئة بأولادِ الفقراءِ مثلنا.. لقدْ آلمني أنْ أرى نفسي أنتمي لتلكَ الفئةِ البسيطةِ المسكينةِ من الناسِ؛ ولمْ أردْ أنْ أصدقَ أنَ تلكَ هيَ حقيقتي وحقيقتهمْ، فأغلبُنا كانَ يتيمًا، وأغلبنا لم يكنْ يملكُ عائلةً.. وكانَ هناكَ ولدٌ وحيدٌ يرتدي ملابسَ حسنةً، نظيفةً، ويحترمهُ المعلمونَ.. فقطْ لأنَ والدتَهُ كانتْ تدفعُ مالاً كثيرًا، لقدْ كانَ متكبرًا، متنمرًا، متغطرسًا، كانَ يعاملُ البعضَ بالقسوةِ ويعتدي على البعضِ الآخر بالضربِ، والتصقَ بهِ الصبيةُ الجبناءُ كيْ يقومَ بحمايتهمْ، وكوَّنوا رابطةً سخيفةً جمعتهمْ، وكوَّنا نحنُ أيضًا جماعتنا.. لقدْ بقيتُ في تلكَ المدرسةِ ستّ سنواتٍ، أيْ إلى أنَ انتهت المرحلة الابتدائية، ثمَ انتقلتُ لمدرسةٍ أخرى في المرحلةِ الإعداديةِ، ولكنها لمْ تكنْ أفضلَ بكثيرٍ من الأولى.. لقدْ كانتْ سنواتُ تعليمي مأساوية؛ فلمْ أحظَ بأيِ صديقٍ حقيقيٍ طيلة تلكَ السنواتِ، وكنتُ أشعرُ بالغربةِ والوحدةِ دائمًا.. ولكنْ في أحدِ الأيامِ؛ بينما كنتُ عائدًا في طريقي إلى المنزلِ، رأيتُ شابةً جميلةً، شقراءَ، فاتنةً ولعوب.. آه يا ربي ما أجملها! إنَّ لها قوامًا ممشوقًا، ووجهًا دائريًا، وشفتينِ ممتلئتينِ، وعينينِ رائعتينِ خضراوينْ ساحرتينِ فاتنتينِ، تنظرانِ نظراتٍ تذيبُ المرءَ من جمالها، وتوقعهُ في حبها وهيامها .. كانتْ تُدعى (ويد)، وكانتْ أجملُ من كلِ الفتيات اللواتي رأيتهنَ في حياتي.. كانَ ذلكَ عندما صرتُ في المرحلةِ الثانويةِ، وكنتُ أبحثُ عنْ حبيبة لي، كما كانَ للشبانِ في سني.. لقدْ أردتُ فقطْ أنْ أشبههمْ، وأنْ أتغنى بجمالِ صديقتي وحبيبتي أمامهمْ، كانَ يكفيني أنْ أشعرَ أنني مثلُ الشبابِ المثقف، المتوسط ماديًا، الذي لا ينقصهُ شيءٌ، ومستعدٌ للزواجِ من الناحيةِ الماليةِ.. أردتُ أنْ أُشعرهمْ بأني أنا أيضًا قادرٌ على الزواجِ؛ للتباهي، لا لشيء آخر.. كانَ ذلكَ هوَ كلُ هدفي، ولكنْ حين رأيتُ (ويد) نسيتُ كل ذلكَ.. لقدْ استطعتُ أنْ أتأملها بعيني لدقيقتينِ وحسب، إنَ لمْ أفحصها لثانيتينِ فقطْ، فقد مرت بجانبي بسرعة كمرور الريح .. لمْ أبادلها حرفًا واحدًا، ولمْ تنتبهْ هيَ لوجودي أصلاً.. لقدْ أكملتْ سيرها في طريقِها إلى المنزلِ، فلمْ أستطعْ أنْ أمنعَ نفسي من تتبعها، حتى عرفتُ عنوانَها، ثمَ عدتُ إلى المنزلِ، ولم أخبرَ أمي بأيِ شيء عنها، ولمْ أرها ثانيةً حتى بلغتُ الثانية والعشرين، ولكني لمْ أتوقفْ عنْ التفكيرِ فيها.
لقدْ عقدت صداقةً بيني وبينَ ابنةِ جارتي (أوليفيا).. إنها ليستْ على قدرٍ كبيرٍ من العلمِ أوْ الثقافةِ، ولا حتى جميلة.. ويمكن وصفها بأنها بلهاء ساذجةٌ، ولمْ أكنْ لأجتمعَ بها في علاقةٍ سخيفةٍ كهذهِ إلا لحاجتي للتباهي كما ذكرتُ من قبل، وقدْ كانتْ ضحيةً مناسبةً لذلكَ، إذْ كانَ من السهلِ فعلاً أنْ أوقعها في مصيدتي، وأنْ أقنِعَها فعلاً بأني أحبُها.. كانتْ تغني لي من نافذتها، وتأخذُ في الضحك والقهقهة، بعد أنْ يحمرَّ وجهها خجلاً، ظنًا منها أنَ صوتها يعجبني، بينما هوَ يشبهُ خوار البقرِ، ووعدتها بالزواجِ بعدَ التخرجِ، حتى تظلَ على علاقة بي، دون أنْ أخبرَ أمي بأني أشعرُ برغبةٍ في الزواجِ - كنتَ أرغبُ في ذلكَ فعلاً، ولكنْ من (ويد)، وليسَ من (أوليفيا) - كنتُ أعلمُ أنَ الزواجَ وأمي على قيدِ الحياةِ أمرٌ مستحيلٌ، فقدْ كنتُ أعتني بها رغمًا عنْ أنفي، وكان منزلنا مِلكٌ لها، والمالُ بيدها.. ما كانَ لها أنْ توافقَ على زواجي من امرأةٍ شابةٍ عاديةٍ، فقطْ لأني وقعتُ في غرامها، كانتْ تقولُ لي: إنَّ عليَّ أنْ أتزوجَ امرأةً لها شأنٌ، كأنَ تكونَ من النبلاءِ مثلاً.. ولكنْ ما العلاقةُ التي كانتْ ستجمعُ بينَ حقيرٍ مثلي وبينَ امرأةٍ أرستقراطيةٍ، لا شك في أنَّ أمي كانتْ قدْ فقدتْ عقلها في أيامها الأخيرةِ.
حين توفيتْ أمي، أسرعتُ أنبئ (أوليفيا) بذلكَ، فجزعتْ، وحزنتْ لذلكَ حزنًا رهيبًا، لأنها كانتْ تحبُ والدتي حبًا شديدًا، ولكني ذكرتها بأنهُ سيكونُ بإمكاننا أنْ نتزوجَ أخيرًا، فكادتْ تطير من الفرحةِ، ولأنْ (أوليفيا) لمْ تكنْ تجيدُ القراءة، أطلعتها على ورقةٍ باليةٍ، كتبتها بخطِ يدي، مدعيًا أنَّ أمي هيَ من تركتها وصيةً لي، تأمرني فيها بالزواجِ من ابنةِ سيدةٍ تعرفها، وأنها ستلعنني ولنْ تسامحني إنَ لمْ أتزوجها، ومثلتُ الضيقَ، وقلتُ لها بكلِ جرأةٍ - أوْ بكلِ وقاحةٍ -: «إنني مستعدٌ لأنْ أعيشَ حياتي كلها في جهنم، بسببِ غضبِ والدتي علي، في سبيلك يا (أوليفيا).. ولكنْ ليسَ بإمكاني أنَ أُعرِّضكِ للخطرِ، وأنْ أُلقي بكَ في الجحيمِ معي، لأنَ أمي ستلعننا سوياً.» ولطيبةِ قلبها وسذاجتها، صدقتْ تلكَ الحجةِ الدنيئةِ، فوعدتُها بأنْ أتزوجها إذا توفيتْ زوجتي قبلي، وأنْ أعيشَ معها بقيةَ عمري، ثمَ ودعتُها وداعًا حارًا.
ورغمَ أننا عشنا بقيةَ عمرنا في بيتين متقابلين، وقد كنتُ أراها في كلِ صباحِ قبل انطلاقي إلى عملي؛ كانتْ تودعني بنظراتها الحارة، وبابتسامةٍ بريئةٍ، وكأنها كانتْ تقولُ لنفسها: «أرجو ألا يتأخرَ ذاكَ اليوم كثيراً..» ورغم أنها رغبتْ في الزواجِ مني، لمْ تحقدْ على (ويد) بعدما تزوجتها، فيما بعد.
لا أستطيعُ أنْ أشرحَ كيفَ تمَ الأمرُ، ولكنْ (ويد) لمْ تكنْ سعيدةً بمعرفتي، ولا أرادتْ الزواجَ مني، حتى خدعتُ والدَها، الذي فقدَ نعمةَ البصرِ، ولمْ يستطعْ أنْ يرى ما في وجهي من شرٍ، وأكدتُ له: أنيِّ سأجلبُ (لويد) هدايا كثيرةً، وأني سأجعلها تعيش حياةً هانئةً!، وأستحي أنْ أقولَ لكمْ أني اشتريتُ عدةَ هدايا فاخرةٍ فعلاً، بمالِ (أوليفيا)، بعدَ أنْ رويتُ لها حكايةً ملفقةً هيَ الأخرى، مدعيًا أنيِّ مدينٌ لأحدِ الجنرالاتِ بالمالِ، وأنهُ سيضربني وسيقضي على شرفيٍ، وسيقاضيني أمام المحكمةِ، رافعاً قضية قدْ تتسببُ في قطعِ رأسي، وإني بحاجةٍ ماسةٍ إلى ذلكَ المالِ.. ورغم أنها كانتْ فقيرةً، ولمْ تكنْ تملكُ إلا سلسلةً صغيرةً من ذهبٍ؛ ورثتها عنْ جدتها؛ باعتها لأجلي وأعطتني مالها، فاشتريتْ (لويد) خاتمًا من ألماسِ وإنْ يكنْ بسيطا أوْ حقيرًا بالنسبةِ للخواتم الأخرى، التي تدلُ فعلاً على العظمةِ والرقيِ.. وفي الحقيقةِ: فهو لا يضمُ إلا ألماسةً صغيرةً لا تكادُ تُرى .. وإن صح القول: فقد كانت ألماسة مزيفة.
وكذلكَ تمَ الزواجُ بعدَ أنْ فرحتْ (ويد) بالهديةِ، ورضتْ عنها، وأحسَ والدُها بالرضا والسعادةِ في نبرةِ صوتها، فبارَكَنا، وذهبنا للكنيسةِ لإتمامِ الزواجِ بعدها بيومينِ وحسب..
أعلمُ أنَ عليَّ أنْ أشعرَ بالخزي والعارِ من وضاعتي، ومن استغلاليٍ لطيبةِ قلبِ (أوليفيا)، ولكنَ العالمَ يرى أنَ طيبةَ القلبِ سذاجةٌ وتفاهةٌ مفرطٌ فيها، وأنَ على المرءِ أنْ يكونَ حذرًا ولوْ صارَ قاسيًا.. أظنهُ ذنبَ (أوليفيا).. وليسَ ذنبي، ألستُ محقًا؟.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.