كانت القرية في ذلك اليوم هادئة إلا من أصوات إطارات سيارات الضيوف المدعوِّين من القرى المجاورة لحضور المأدبة السنوية التي تقام في نفس الميعاد من كل عام؛ وليمة (سيدنا) المُقامة في دار عمدة القرية على شرف أحد شيوخ الصوفية، له كلمة مسموعة ومقام رفيع عند الكثير من أعيان المنطقة.
دخل الناس أفواجًا من القرية والقرى المجاورة بيت العمدة منتظرين قدوم سيدنا وكان الطباخ قد قارب على الانتهاء من تحضير الطعام، أرسل إليه العمدة قبل الوليمة بيومين، جاء ومساعدوه يعينه في ذلك اليوم نسوة الدار ونساء العائلة من أحباء زوجة العمدة، يجاملونها كل عام في نفس الميعاد.
دخلت سيارة سيدنا حوش العمدة ومن ورائها حافلات استقلها أتباعه من القرى والبلدان المجاورة، وفي مشهد يكاد لا يُمحى من الأذهان ترى الناس سراعًا يتسابقون لفتح باب سيارة سيدنا الملاكي.
ترجل سيدنا من سيارته ظهر في قمة هيبته، ارتدي جلبابًا أبيض اللون ومن فوقه عباءة صيفية خفيفة بُنية اللون بحزٍّ مذهب من الأمام والأكمام التي لا تصل إلى الكف بل يظهر منها أسورة جلبابه الأبيض مغلقة بزر بإحكام. تقدم العمدة وأبناؤه من الذكور وأهل الدَّوَّار من الرجال وشيوخ القرية وأكابرها ينحنون لتقبيل يد سيدنا الشريفة، بكي منهم من لم يستطع السيطرة على مشاعره عند رؤيته لسيدنا البركة كما يلقبونه. اتجه الجميع للصلاة، صعد سيدنا المنبر يلقي خطبة الجمعة بالجامع الكبير بالقرية، لم تخلُ الخطبة من توصيات سيدنا بالطاعة لولي الأمر وإخماد نار الفتنة والبعد عن الشبهات إذا اختلط الحق بالباطل. أقام سيدنا الصلاة وفور الانتهاء بدأ الاحتفال واتجه الجميع لدوار العمدة.
أعد الطباخ المائدة الكبيرة الممتلئة بالطعام لسيدنا وأتباعه، وضع عليها كلُّ ما لذَّ وطاب من محاشٍ ولحوم، سيطر على المائدة الطيور بجميع أنواعها من بط وحمام وفراخ وأيضًا الأسماك التي لم ينس العمدة تقديمها على المائدة الخاصة بالشيخ، أغلق الباب على الشيخ وأتباعه، لم يكن يُسمح لباقي الضيوف بحضور تلك المأدبة الخاصة جدًّا، بل يتم تحضير مأدبة أخرى لهم على غرار تلك التي أُعدَّت لسيدنا، أما الغلابة من أهل القرية والقرى المجاورة فمنهم من يأخذ غذاءه في رغيف به قطعة من اللحم والبعض يستحي المجيء في ذلك اليوم المشهود.
لم تَسِر الأمور في ذلك اليوم كما تمناها العمدة، فمن حظه أن تواجد وسط الحضور شخصٌ لم يكن على دراية كاملة بتلك الطقوس، عندما جاء الداعي للطعام لدعوة الشيخ وأتباعه للداخل قام الرجل من ضمن الحضور، توجه معهم للمأدبة الخاصة بهم، مما أثار استياء أتباع الشيخ وطالبوا بإخراجه، الأمر الذي أوقع العمدة في حرج شديد فماذا عساه أن يقول للرجل؟ لم يكن على العمدة إلَّا أن تجاهل ذلك المطلب المحرج له، فخرج وأغلق الباب من ورائه.
أقبل سيدنا وأتباعه على الطعام بشهية مفتوحة، يتناولون الحمام المحمَّر المُغطاة أرجله بورق السلوفان وصدور البط والفتَّة والمحاشي، يناولون بعضهم البعض، والرجل الغريب جالس، لا يعرف ما الداعي لتلك النظرات التي تُلقى عليه شزرًا من أتباع الشيخ، وشعر بأنه غير مرغوب به وسطهم.
امتلأت ساحة الدوار بالضيوف، ينتظرون دورهم في كرم الضيافة، يدعوا الداعي البعض، فيأكلون حتى تمتلئ البطون ويسارع صِبية الطباخ برفع الأطباق الفارغة وملئها ثانية، وتحضير مائدة أخرى لفوج آخر يدخل في الحال.
لا يخلو اليوم من الأطفال، يلعبون ويختبئون وراء السيارات التي ملأت مدخل القرية والساحة، وينتظر الفقراء لنيل نصيبهم من رغيف ملئ باللحم. وفي تلك الأجواء سارع الابن الأوسط للعمدة الى النسوة بالدار حاملًا قطعة من اللحم، ما كاد أن رفعها بيده ليخبرهم بأنها قطعة باقية من طعام سيدنا، حتى تسابق النسوة لنيل قضمة من تلك القطعة المبروكة.
لم ينتهِ اليوم إلا بمباركة سيدنا لأهل البيت من النساء المتواجدات من زوجة العمدة وبناته وأخواته البنات اللاتي سارعن لتقبيل يده وإبداء كلمات الترحيب، بارك سيدنا زوجة الابن الجديدة بالبيت وليتم كراماته أخبرها بأنها تحمل مولودًا بأحشائها ، وتنبأ لها بولد، اختار له اسمه الذي هو على اسم ابنه، هلل العمدة وزوجته للخبر الجديد متباهيَيْن بالرجل المبروك الذي علم بشأن الحمل قبل أن تظهر علاماته وقبل أن يعرف أيٌّ منهم شيئًا عنه، حثوا الزوجة على ضرورة أن تسمي المولود الاسم الذي اختاره له الشيخ وإلا أصابتها اللعنات؛ أما زوجة الابن، فلم تغترَّ بما قاله الشيخ ولم يَرُق لها الاسم الذي اختاره لمولودها، وكشفت للجميع أنها علمت بشأن الحمل من قبلها بأسبوع ولم تُخبر به أحدًا غير زوجها، وكانت تنتظر أن يثبت حملها حتى تعلنه للجميع.
لم يفوت العمدة التبرك بسيدنا، أخذه من يده ليبارك المبنى الجديد لولده الثاني والذي هو على وشك الزواج، ثم اتجه الجميع إلى المَضْيَفَة، ذلك المبنى بفناء دار العمدة، تُقام فيه قضايا فضِّ النزاعات بين أهل القرية بعضهم البعض. توسط سيدنا المجلس على يمينه العمدة وبعض أكابر البلد وشيوخها وبعض من أتباع سيدنا، أما الباقون ينتظرون خارج المضيفة على دكك خشبية موجودة بالفناء، يتناولون التحلية بعد الغداء، تطوف عليهم صواني الفاكهة يحملها الخَفَر، يتقدم العمدة لتشكيل طبق مخصوص لسيدنا، تُوضع الصواني على طاولة بوسط المضيفة يلحقها صواني المهلبية.
بدأ الشيخ حديثه بالإشارة إلى بعض الأحداث التي تدور بالبلد؛ تكلم عن نسب ذلك المرشح الذي هو من الأشراف، وبالرغم مما عُرف عنه من شربه للخمر، إلَّا أن الشيخ تغاضى عن ذلك ولم يذكره، وزكَّاه عن منافسه التابع للجماعة الإسلامية ودعا أتباعه لتزكيته وانتخابه.
وفي غمرة الحديث، انتبه الحضور لأصوات وضوضاء بفناء الدوار، وأربعة من الشباب القوا بصندوق وسط الفناء، طالبوا الشيخ البركة بالذهاب معهم للمسجد ليصلي على مُتوفَّاهم بداخل الصندوق صلاة الجنازة، اقترب سيدنا من الصندوق ومن خلفه العمدة وشيخ البلد و أكابر القرية، وضع سيدنا يده اليمنى على الصندوق، وانتظر قليلًا حتى رفعها، أمرهم بحمل الصندوق، ثم أشار عليهم الذهاب به لجامع القرية للصلاة على المُتوفَّى، وكان قد حان أذان العصر، وبالفعل حمل الشباب الصندوق، توجهوا به إلى المسجد معهم الرجال يحيطون بسيدنا، من ورائهم أهل القرية والأتباع المتواجدون بساحة الدوار، اتجه الجميع قبل الصلاة، للوضوء بدورة مياه الجامع.
اصطف الجميع خلف الشيخ في حين وضع الشباب الصندوق في أحد الأركان جانبًا لحين الانتهاء من صلاة الفرض، أقام سيدنا صلاة العصر وعند الانتهاء أمر الشباب بحمل الصندوق ووضعه أمامه، انصاعوا للأمر، كان يستعد ليقيم صلاة الجنازة حين سمع ضحكات، التفت إلى الشباب من خلفه وسألهم عن سبب الضحك، رد أحد الشباب وقال في استنكار:
ـ أي جنازة؟ من بالصندوق هو أحد أصدقائنا، اتفقنا معه قبل أن نجيئك حاملينه بالصندوق، لكشفك أمام رجال القرية كلها، فوضعنا صديقنا هنا بداخل الصندوق وهو حيٌّ، ولم تتمكن أنت من معرفة ذلك.
جاء رد الشيخ حازم جازم وقال:
ـ لكن صديقكم هذا مات بالفعل، وهو الآن في ذمة الله وعلينا أن نصلي عليه صلاة الجنازة ونشيعه لمثواه الأخير.
نظر الشباب لبعض كاتمين الضحك وقال أحدهم:
ـ ما دليلك على أن صديقنا بالصندوق ميت؟ لقد قلنا لك أننا وضعناه حيًّا، بل دخل هو بنفسه الصندوق وفرد جسده بداخله وأغلقناه نحن عليه ثم حملناه إلى فناء الدوار لنثبت لأهل القرية أنك دجَّال ليس لك أي كرامات ولا يمكنك كشف الغيب، فلا يعلمه إلا الله.
تقدم الشباب الأربعة أمام الصندوق وطرق أحدهم عليه، لم يسمع أي منهم أيَّ حركة بداخله فتطوع آخر بمناداة الصديق بداخل الصندوق ولم يأته جواب. تبادل الشباب النظرات الحائرة وبدأ القلق يحوم بعيونهم والريبة تدب في صدورهم، تجمَّع الرجال ممن هم داخل الجامع حولهم يتابعون ما يحدث منتظرين براءة سيدنا دون أن يشغلهم أن يكون من بداخل الصندوق حيًا.
مرت لحظات من الصمت لا تخلو من نظرات الشك بعيون مفتوحة معلقة لا تغمض ولا ترمش، تأهب الجميع لمشاهدة لحظة فتح الصندوق.
تقدم الشباب الأربعة لرفع غطاء الصندوق، لاحظ الجميع أنه محكم الغلق، وأخيرًا رفع الغطاء فشهق الجميع شهقة عالية حين رأوا الصديق بداخل الصندوق بلا حراك عيناه مفتوحة نظرتها ثابتة ويسيل الدم من فمه.
اندهش الأصدقاء وهالهم ما رأوا فصديقهم الذي دخل الصندوق بنفسه هو الآن ميت كما قال الشيخ، علت الأصوات بالتكبير والتهليل وازداد إيمانهم بالشيخ المبروك صاحب الكرامات الذي علِم بوفاة الشاب بداخل الصندوق.
بيد مرتعشة سَبَّل أحد الشباب الأربعة عين الصديق وبصوت مرتجف تمتم بعبارات الحزن والأسى. أمر العمدة باستدعاء أهل الشاب المُتوفَّى وكان العويل والصراخ خارج المسجد دليلًا على حضورهم ووصول خبر ابنهم اليهم.
دخل أقارب الشاب من الرجال المسجد واندهش العمدة عند رؤيته سيد سائق باجور الحرث يتقدمهم، لحقه سيد قبل أن يسأله العمدة عن علاقته بمن بالصندوق، قال وهو يضرب رأسه بكفيه:
ـ ابني يا عمدة ابني سلَّام يا عمدة، عملها من غير ما يقولي ماكنتش اعرف، ولاد الأبلسة ضحكوا عليه.
لزم الذهول وجه العمدة والحضور، ألقى سيد نظرة على ولده سلَّام، الوجه باهت، تحسس الجسد بارد كالثلج، وعلى الرغم من علامات الموت المؤكدة، طالب باستدعاء الطبيب الذي أكد أن الشاب توفاه الله بالفعل.
حمل أقارب الشاب المتوفى الصندوق وخرجوا به من الجامع استعدادًا لتغسيله ودفنه مع عويل وصرخات النساء خارج الجامع وخرج من ورائهم سيدنا يحيط به العمدة وشيخ البلد وأكابرها ومن حولهم أهل البلدة يتبارون لتقبيل يد سيدنا مع التهليل والتكبير. كان الشباب الأربعة آخر من خرجوا من باب الجامع راحوا يضربون كفًّا بكف وعلت وجوههم علامات الحيرة والدهشة.
اتجه الحشد إلى بيت العمدة جلسوا بمضيفة الدوار توسط المجلس الشيخ البركة، دار الحديث ثانية عما يدور بالبلد من قضايا وابدى الشيخ رؤيته الثاقبة على الأحداث، تنبأ بالمستقبل وتكلم عن تلك الجماعة الدينية وخطورتها على البلاد، حذر من وصول مرشحهم للحكم ومدح في المرشح المنافس نوه ثانية لنسبه الشريف وذكاه على منافسه ودعاهم لانتخابه.
علم الشيخ في قرارة نفسه أنه ليس عليه لأن يبذل مجهودًا كبيرًا في دعواه لمرشحه، فقد كان كلامه لمريديه فرضًا عليهم السمع والطاعة وإلا أصابتهم اللعنة أينما ذهبوا، وبات لأهل القرية أمرًا لا بُدَّ من تنفيذه، خاصة بعد حادثة الشاب بداخل الصندوق ومقدرته علي كشف حقيقة موته.
دخل الخفر يحملون صواني البسبوسة، تبعها الشاي والقهوة، توسط سيدنا المجلس وتكلم بلباقة فانصت له الجميع في اهتمام وانبهار بحديثه وعلمه الذي حباه الله به عن سائر البشر. وفي غمرة الحديث اخترق زجاجَ شبَّاك المضيفة حجرٌ أصاب جبهة الشيخ، نزف الشيخ بشدة من مقدمة رأسه وسارع العمدة وأكابر القرية باستدعاء الطبيب في حين كان الغفر في مهمة صعبة لمحاولة الإمساك بالصبية الذين ألقوا الحجارة بالشبَّاك لتصيب جبهة الشيخ وتسليمهم للعمدة واستدعاء أهاليهم لتأنيبهم على فعلة أبنائهم النكراء. حمل أحد الصبية على عاتقه مهمة الدفاع عن نفسه وأصدقائه، قال أنهم ليسوا من ألقوا بالحجارة التي أصابت الشيخ، من فعل ذلك هو إسماعيل كل ما فعلوه أنهم بدأوا بمضايقته حتى أمسك بالحجارة وشرع في إلقائها عليهم لكنهم ابتعدوا مسرعين عندما ألقاها فأصابت النافذة وتهشم الزجاج وأُصيبت جبهة الشيخ.
ارتبك العمدة فلن يستطيع معاقبة إسماعيل، كيف يعاقبه وهو بلا عقل؟ وأبوه لاحول له ولا قوة، فكر ماذا عليه أن يفعل؟ ثم أمر الغفر بترك الصبية بعد أن توعَّدهم إن رآهم ثانية يلعبون بجانب الدُوار، وذهب مسرعًا يطمئن على الشيخ حين كان الطبيب يضمد له جرحه.
جلس سيدنا في مكانه بالمضيفة، يتوسط الحضور، جلبابه الأبيض ملطَّخ بالدماء، وعباءته البنية الصيفية فوق كتفيه، وجبهته مغطاة بالشاش والبلستر الطبي.
حاول العمدة تحسين الموقف، بكلمات رقيقة لينة يتبعها التوعد بمعاقبة من فعل تلك الفعلة، راح يرحب بالشيخ، يبجله تارة ويبدي أسفه تارة أخرى، مرَّ الوقت وسمع العمدة ومن بالمضيفة أصواتًا تتعالى بالخارج، ليفاجئوا بجمع من أهالي القرية من عائلتين بينهما نسب، يستنجدون بالشيخ وقد عمقت حادثة الشاب المتوفى بداخل الصندوق اعتقادهم فيه، خرج لهم العمدة يحاول تهدئتهم، وراح يستسمح الشيخ لمقابلتهم، وافق الشيخ وطالبهم بترشيح اثنين منهم لمحادثته وإبداء مطالبهم.
تقدم اثنان من الرجال، واحد من كل عائلة، دخلوا المضيفة بعد ان خرج الجميع، جلسوا بمقابل بعضهم يتوسطهم الشيخ، أوضحوا بأن بينهما نسبًا، حكى أبو العروس بأن ابنته تزوجت منذ أسبوع بشقيق الجالس هذا، وأشار على الطرف الآخر، أردف معلناً انها مازالت بكرًا حتى هذه اللحظة. لحقه شقيق العريس الجالس بمقابلته، حاول أن يمحو العار عن أخيه بأن علق السبب على السحر، قال إن أخاه مربوط بعمل اسود سفلي قام به صديق له حاقد عليه، وأنه زينة شباب القرية عاد بعد سنوات قضاها بالخليج، يمتلك تسعة قراريط من أجود أراضي القرية، ودار ملك، أما الصديق فلا حول له ولا قوة، ليس له ملك ولا ورث.
أنصت الشيخ جيدًا لحديث الطرفين، سكت لبرهة ثم طلب أن ينفرد بالعريس.
خرج الرجلان ودخل العريس، كان مطأطأ الرأس، بدا عليه الخجل والحزن، وشاهده ضعيفًا هزيلًا، تكلم معه الشيخ لبعض الوقت، ثم ربت على كتفه وخرجا معًا للأهل، وأعطاه أمامهم حِجابًا وأمره بوضعه حول رقبته ولا يخلعه أبدًا، نظر للأهالي وصرح بأن مشكلة ابنهم قد انتهت بالفعل، وأمرهم بالانصراف.
أذن المؤذن لصلاة المغرب، تأهب الشيخ والعمدة وشيوخ البلد وأكابرها، للذهاب لجامع القرية للصلاة، ومن ورائهم الجموع الغفيرة من الرجال، أقام الشيخ الصلاة، وبعد الانتهاء، توجهوا جميعًا لمضيفة العمدة، وهناك فوجئوا بحشد كبير، نساء ورجال، يملؤون الشارع الموصل لدوار العمدة ويغلقون مدخل البلد. أحاط العمدة وشيخ البلد وأكابر القرية بسيدنا من كل اتجاه يحمونه من هؤلاء الهمج الغوغائيين كما أطلقوا عليهم، دخلوا به ساحة الدوار بعد عناء، شاهدوا الفوضى بداخله تعم الدوار كخارجه، أناس من أعمار مختلفة، رجال ونساء يلتفون حول نعش من فوقه شخص في كفنه، أمرهم العمدة بالابتعاد بمتوفاهم عن الدوار وكفى ما حدث من أول اليوم، رفض الأهالي إلَّا أن يعرضوا الأمر على سيدنا، وطلبوا منه النظر في أمرهم ومساعدتهم، تعجب الشيخ! ففي أي شيء سوف يساعدهم؟
انهزم العمدة والغفر أمام تعنت الأهالي، فلم تفلح مقاومتهم الجادة لهم في إبعادهم عن الدوار، أمرهم الشيخ أن يقصوا عليه حكاياتهم.
حكى أحد الشباب وهو ابن المتوفى، قال بلهجته الريفية المطاطة:
ـ اللي في الكفن أبويا، كان خفير في دوار العمدة، مات امبارح بالليل وماعرفناش مات ازاي، جه اتنين من بلد جارنا امبارح العصرية، قالوله عايزينك معانا في شغل خاص في بلد بعيد عن الناحية، راح معاهم برغبته وكان في كامل صحته، وقبل نص الليل بساعة جانا اتصال من واحد من الرجلين قال إن أبويا اتعرض لحادث مات فيه، وأكد علي العجلة في دفنه لأن جسده اتقطع في الحادث، جرينا على المستشفى ولما دخلنا، لقناه لوحده في كفنه، والرجلين اللي كانوا معاه اختفوا زي الملح في الأكل ومانعرفش عنهم حاجة لحد دلوقت. جينا بيه وصلينا عليه في جامع القرية، روحنا ندفنه قبل الفجر بنص ساعة، ولما كشفلنا التربي الغطا عشان نريحه في قبره، قال إن أبانا ما ماتش في حادث؛ الكفن نظيف خالي من أي بقعٍ دم. ولما كشف لنا وجهه لاحظنا عليه علامات ضرب وخدوش ماكانتش موجودة قبل كده، رجعنا بالجثمان للبيت، واستدعينا الحكيم اللي أكَّد كلام التربي، ولما روحنا للعمدة عشان يشوفلنا حل ويبلغ النيابة تفتْح تحقيق في الحادث وتشوفلنا الرجلين اللي كانوا معاه، لقينا العمدة مالوش مزاج وأمرنا نتكتم على الموضوع لحد ما يمر اليوم وتعدي عزومة الشيخ على خير.
صمت الشاب قليلًا ليرى مردود كلامه على الشيخ، نظر إلى جثمان أبيه الملقى بكفنه على الأرض، وقف الجميع مشدوها بما سمعوا وراحت أعينهم تتبدل بين العمدة والشيخ ينتظرون كلمة مشفية وحلاً مقبولًا لديهم. تشحتف الشاب وارتجف، بكى وأردف:
ـ من طلعة النهار وأبونا في البيت ماردناش ندفنه إلا بعد ما تيجي النيابة تثبت الحالة، الجو صيف وحر زي مانت شايف، شغلنا كل مراوح البيت وصوبناها على الجثمان، أبونا ميت من امبارح بالليل يعني قرب على يوم كامل، الجثمان في حالة سيئة واحنا في حالة غليان. سمعنا بكراماتك، الناس بتحكي فيها من صبحية ربنا، أشار علينا البعض نجيلك هنا بجثة أبينا نعرض الأمر عليك وتساعدنا في معرفة القاتل وتقولنا مكان اختفاء الرجلين اللي كانوا معاه فناخد بطارنا منه.
تعجب الشيخ من الحكاية وتعجب أكثر من المطلب الغريب، كيف له معرفة قاتل أبيهم ومكان اختفاء الرجلين!
حاول إقناعهم بأنه ليس بموسى فلن يأمرهم بأن يأتوه ببقرة صفراء فاقع لونها كما أن الأمر هذا لا بُدَّ أن يُترك للنيابة والتحقيقات وعليهم أن يأخذوا جثة أبيهم ويعودوا بها إلى البيت وعلى العمدة إبلاغ النيابة بالأمر، أما هو فليس بيده شيء يفعله لهم.
لم يقتنع الأهالي وزاد الهرج والمرج، طالبوا الشيخ بكشف المستور وإظهار كراماته التي يسمعون بها منذ الصباح. وفي ذروة الفوضى، شاهد الجمع الشباب الأربعة أصدقاء الشاب الذي تُوفِّي بالصندوق بالظهيرة، يدخلون فناء الدوار، حاولوا إقناع الرجال أنهم خُدعوا بأسطورة الشيخ ذي الكرامات وأن ما حدث لصديقهم هو محض صدفة. قالوا أن الطبيب أشار إلى أن الشاب مات مخنوقًا؛ فإحكام غلق الصندوق عليه وتركه لفترة طويلة بداخله أدَّى إلى نقص الأكسجين مما أدى إلى دخول الشاب في غيبوبة مات على إثرها بالاختناق لنفاد الأكسجين.
لم يصدق الأهالي كلام الشباب فردد أحد الأهالي:
ـ الشيخ واصل وقادر يعرف الغيب وعرف أن زميلكم مات من غير ما الطبيب يقول، ممكن يعرف لنا ازاي مات الخفير ومين تسبب في موته.
وأثناء الحديث سُمِع أصوات طبل وزمر من بعيد، أناس يرفعون منديلًا به بقعة دماء، يدخلون بها الدوار بالزغاريد والتهليل والتمجيد في الشيخ صاحب الكرامات، استطاع أن يفك العمل الذي كان يربط ابنهم. وعلى غُرَّة ركض واحد من أبناء الخفير المتوفى أحاط بذراعه رقبة الشيخ من الخلف وبيده الأخرى أشهر مِطواة، راح يهدد بذبحه إن لم يأتِ لهم باسم قاتل أبيهم ومكان الرجلين اللذين اصطحباه.
أحاط الذعر بالعمدة وشيوخ البلد وأكابرها، وبعد محاولات عدة لتخليص الشيخ من يد الشاب باءت كلها بالفشل، وقف أتباع الشيخ يتحسرون ويبكون يولولون ويندبون حالهم واللعنات التي سوف تصيبهم حال تم إيذاء شيخهم بينهم وهم مكتوفي الأيد.
لم يكن بيد الشيخ إلا أن يعترف لهم بحقيقته وينزع عن نفسه قدسيته وقدرته على معرفة الغيب ويفقد اعتقادهم به كي يخلص رقبته من سكين ذلك المجنون، كما وصفه. اعترف لهم بأنه ليس له أية كرامات، وأن كل ما حدث خلال اليوم هو بمحض الصدفة كما قال الشباب الأربعة، سأله الشاب وهو يمسك بعنقه شاهرًا مطواه:
ـ والست مرات ابن العمدة اللي جالك علم بحملها قبل ما يظهر، والشاب اللي عرفت بموته وهو جوه الصندوق وكان دخله وهو بصحته، والعريس اللي قدرت تفك ربطته!
جاء رد الشيخ مدعم بتفسيرات تنم عن ذكائه وفطنته في معرفته بالأمور، أجاب:
ـ أما الزوجة فقد عرفتُ من زوجها الذي أشار لي بحملها دون أن يدري عندما سألني الدعاء له بأن يثبت الله أقدامه بالأرض، فطنت أن زوجته تحمل مولودًا في أحشائها ولكنه ما زال في مراحلة الأولى ولم يثبت بعد، وعندما رأيت الزوجة أخبرتها بأنها سوف تضع ولدًا وذلك على سبيل التخمين، فإن جاء ولدٌ أكون قد ربحتُ كل شيء وإن خلف ظني فلن أخسر كل شيء. أما الشاب المُتوفى بالصندوق، فعندما وضعت يدي على الصندوق، أحسسته باردًا لا حراك لا صوت ولا أنفاس، عرفت أن الصندوق إما خالٍ، أو من به متوفى بالفعل وعندما أمرت الشباب بحمله والتوجه به إلى المسجد، شاهدتهم يحملونه بصعوبة، فكان ثقيلًا، عرفت أن به شخص ميت بالفعل. أما ما هو بشأن العريس فعندما رأيته وجدته هزيلًا نحيلًا وشعرت بضعفه وخجله، ربتُ على كتفه وطمأنته أغمرته بكلمات الثقة بالنفس ثم أعطيته حبة مقوية كانت بسيالة جلبابي أحتفظ بها لمثل تلك الأمور، أشرت عليه أن يأكل وجبة دسمة ثم يختلي بزوجته، ونبَّهت عليه ألا يُعلم أحدًا أبدًا بشأن الحبة التي أعطيته إيَّاها وإلا بطل عملها وظل مربوطًا.
لم يقتنع الأهالي ولم يستجِب الشاب لتوسلات العمدة له بترك الشيخ فلم يجد وعده لهم بالتحقيق في الواقعة نفعًا ولم ينصاع الشاب لنداءات أكابر البلد وشيخها وولولة أتباعه الذين كانوا في حيرة من أمرهم، أينتظرون العمدة لينقذ شيخهم أم ينقضوا على الشاب ويخلصونه من بين يديه. وبين شدٍّ وجذب وتراشق بين اتباع الشيخ وأهل القتيل المتوهمين أن الشيخ يمنع عنهم كراماته ويتآمر مع العمدة عليهم، تطاولت الألسنة وراح الكل يشطح بفكره، قال أحد الأهالي مفسرًا ما حدث للخفير:
ـ أعتقد والله أعلم أن مقتل الخفير وراءه مصيبة كبيرة.
رد آخر زعم أنها تجارة في الآثار تورط فيها الخفير.
وأكد آخرون أنها لعنة الإتجار في المخدِّرات.
ازداد الهمس والغمز، وجهر أحدهم بأن الخفير كان يساعد هؤلاء الأشقياء المسجلين أصحاب السوابق في عبور السيارات والدراجات النارية المسروقة من الكمائن لما له من سلطة فهو محمي من الشرطة.
وقبل أن تنتهي التكهنات نشبت مشاجرة بين أهل البلد وأتباع الشيخ من جهة وأهل القتيل وأنصارهم والحشد الذي جاء معهم للدوار من جهة أخرى يدافعون عن قتيلهم وينفون ما قيل عنه، وأثناء التراشق وجد واحد من الأتباع طريقة لتخليص رقبة الشيخ من قبضة الشاب، وفي تلك اللحظات وكان الشاب متوترًا قلقًا انقضَّ الرجل على رأسه بلوح خشبي أرداه أرضًا وانفجرت من رأسه نفورة من الدماء.
عجل الأتباع بحمل الشيخ إلى سيارته الملاكي، وبين الجذب والشد مزقت عباءته البنية، وضعوه في المقعد الخلفي واحد من على يمينه وأخر على يساره وثالث بجانب السائق الذي أدار السيارة وخرج بها مسرعًا من الدوار متجهًا للخروج من القرية وسط الحشد المتناحر.
أدرك أهل القتيل هروب الشيخ بالسيارة أقبلوا على جمع الحجارة من الأرض وإلقائها على الزجاج من الأمام والخلف حتى هُشم تمامًا، مما زاد من رعب السائق والرجال الثلاثة والشيخ. نهر الرجل بالمقعد الأمامي السائق صاح به يحثه على الإسراع في القيادة، ارتبك السائق وانطلق بالسيارة بسرعة متهورة، انحرف بها يمينًا ويسارًا تدهس البعض وتصيب البعض.
خرج الشيخ من القرية مذؤومًا مدحورًا تبعه أتباعه وظلت القرية في هياج الليلة بأكملها. جلس العمدة على درج دواره يضرب بكفيه على رأسه ويَعد الويلات واللعنات التي سوف تلحق به جراء ما حدث لسيدنا في بيته.
***