أتردد في صباحات على مقهى يبرع في تقديم أشهى رائحة قهوة مخلوطة بالحبهان، واتعمد دوماً الجلوس يسار الباب الثقيل الذي يحمل دفء أشعة الشمس عبره زجاجه.
أرتشف قهوتي على مهلٍ وأصابعي تردد لحن أغنيتي المفضلة بصوت فيروز "كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد".
أصدر الباب الزجاجي صريره الخافت معلناً الدخول الواثق لعطر العود، ذلك العطر الجذاب الذي حاشاه أن يقاطع أفكاري المبعثرة بل طمأن كياني. اعترف أنني منذ أن تلقي أنفي موجات العود ونمى إلى مسمعي وقع تلك الخطى الواثقة منذ شهرين وأنا انتظرها يومياً، ولم تخلف أبداً الميعاد.
طوال ستين صباحاً، انتظرت فيها صديقتي لتصحبني إلى مقر عملي، أرتشف قهوتي على مهلٍ حتى يهمس لي الباب الزجاجي ويجتاح كياني عود من أسرني بهالته ووقع خطواته.
أعد خطواته السبع حتى يصل إلى مقعده المعتاد، ولا أدري كيف يصلني وقع نبضه عبر تلك المسافة حتى أنني أميز رائحة قهوته وأكاد أتجرع مرارتها وأعد رشفاته، فأتوقع متى ينهيها.
لكن في صباحي هذا، تعطر بعطر خشبي لاذع، وكانت هالته ساطعة وذبذباته متوترة وخطواته سريعة وحازمة. أصابتني عدوى توتره ونقل إلى ترددات مختلفة لم أستوعبها. ارتبكت واضطربت دقات قلبي عندما ارتشف من فنجانه رشفتين ثم استقام فسار باتجاهي خمس خطوات. حاولت الهدوء علَ دقات قلبي المدوية لا تطال مسامعه.
لا أزال مطرقة برأسي، أتجنب مواجهته، جلس إلى طاولتي، قائلًا:
- هل يزعجك جلوسي إليك؟
صوته عذب، رجولي، حازم. رائحة أنفاسه تخالط عطره وتقضي على مقاومتي في مهدها. دفء هالته يحيط بي ويأسرني، ليت الزمن يمهلني حتى اتشبع بوجوده!!
بمَ أجيبه؟! هل أصده وأصدمه؟ لم أتخيل أن البداية تحمل في طياتها النهاية! ياربي كيف اسمع دقات قلبه، واستشعر دفء قربه عبر تلك المنضدة الرخامية ووسط هذا البرد الاصطناعي.
استجمعت قواي ورفعت رأسي فلم تهتدي مقلتي إليه. فاضطربت أنفاسه عندما أدرك أنه خارج محيط رؤيتي. لاحظ عدم هداي لعيناه فتباطأت أنفاسه وارتفعت حرارته وتسارع نبض قلبينا.
ابتسمت بزاوية فمي علي أبدد غيوم المشهد، ففلتت منه ضحكة ساخرة قصيرة. رفعت خصلات شعري وتحسست قطرة تساقطت على جبيني ثم أسندت رأسي إلى يسراي.
- من تنتظرين؟
- زميلة تتكرم باصطحابي لمقر عملي يومياً.
استقام وازاح كرسيه واقترب خطوة أخرى ثم أمسك بيدي.
- هاتفيها، وأخبريها أن مهمتها انتهت.